خالد حماية يكتب: إمامنا الطيب وأزهرنا الشريف
جزى الله عنا كل خير إمامنا الأكبر وشيخ جامعنا الأنور الأزهر، الأزهر الشريف، وهو أقدم جامعات الدنيا إلى يوم الناس هذا. يعرفه الدستور المصري (الأخير) فيقول في المادة السابعة منه:
ومع هذا التعريف الواضح، فإن للأزهر سمات علمية توضح منهجه الذي سار عليه مئات السنين والذي تلقته الأمة بالقبول عبر العصور:
1. فهو يتبنى مذهب السادة الأشاعرة في فهم عقائد المسلمين، وهو منهج عدل يجمع بين العقل والنقل دون إفراط أو تفريط.
2. وهو يدرس الفقه لطلابه على المذاهب الفقهية الأربعة التي رسخت أصولها وقعدت قواعدها عبر جهود أجيال متعاقبة من الأئمة المجتهدين، فالمذاهب الفقهية في حقيقتها مدارس للتفكير الإسلامي وكيفية التعامل مع النصوص الشرعية وتنزيلها على الواقع المتغير.
3. والمنهج الأزهري يتبنى موقفًا إيجابيًا من ذلك الميراث الصوفي الروحي الذي أضاءت أنواره تاريخ المسلمين عبر مختلف العصور.
وكما ترى فإن تعريف الأزهر واضح للعيان، فهو مؤسسة علمية بالأساس وليس وزارة من وزارات الدولة أو هيئة من هيئاتها السياسية، فمن أين إذن سرى بين الناس ذلك الوصف السياسي الذي لازم الأزهريين في أيامهم الأخيرة؟
الأزهر في أذهان الناس
بمرور الوقت، اكتشف الناس أن الأزهر في أذهان الكثيرين ما هو إلا فكرة نسبية تتلون وتتشكل حسب الظروف والرغبات، فالبعض يرى أن الأزهر (الذي كان شريفًا) هو كيان كبير وصرح معظم يحكي لنا أمجاد الماضي، غير أنه لم يعد يصلح أن يقود دفة الإصلاح والتوجيه، لأنه لم يخرج لنا أولئك المشايخ الثوار الذين يسبون الحكام ويصبون عليهم ما يستحقون من لعنات، فأين الأزهر من دعم قضايا الربيع العربي والوقوف في وجه الظالمين والفاسدين واليهود ومن هاودهم والنصارى ومن ناصرهم؟
والبعض الآخر يرى في الأزهر كيانًا بدعيًا شركيًا ينشر الجهل بين الناس، ويدعوهم لمجموعة من الترهات والأباطيل والعقائد الفلسفية الفاسدة التي تناقض القرآن وصحيح السنة.
وأما العلمانيون فمعتقدهم أن هذه المؤسسة تمثل آخر مظاهر القرون الوسطى وعصور الظلام، ولكي ننهض بمصر نهضتها الشاملة فعلينا كبح جماح ذلك الكيان الراديكالي وإيجاد آليات عزله عن التأثير في الحياة العامة مع الاحتفاظ به كجزء جميل من ذاكرتنا الثقافية والتاريخية. ولعل بعض أذكياء العلمانيين أن يحتال علينا فيستشهد بكلام مجتزئ خارج عن سياقه للإمام محمد عبده أو الأفغاني، لا لكونه يرى فيهما إمامين مجددين أو عالمين ربانيين بل لأنه يرى من الأفضل اتباع بعض ما تشابه من كلام أهل العلم وترك الثابت ابتغاء الفتنة وابتغاء تأوليه.
الساسة وما أدراك ما الساسة، فهم كما قال الإمام الطيب: “يسعون دائمًا لاختطاف الدين”، ويسعون لإكساب حكمهم الشرعية والبركة المطلوبة من خلال تلك الاحتفالات البروتوكولية في ليالي القدر والمولد النبوي الشريف، لإثبات أننا حكام مسلمون لبلد مسلم.
وشأن السياسيين في ذلك كشأن ذلك الجاهلي الذي صنع لنفسه إلهًا من عجوة التمر يعظمه ويبجله حتى إذا عضه الجوع أكله، ثم ما يلبث أن يصنع إلهًا غيره من التمر أيضًا يدخره لساعة جوع قادمة، فالأزهر عند السياسيين: له منا كل تقدير وإجلال غير أن مشايخه إذا تكلموا بما لا نحب فمخالبنا جاهزة وحناجر إعلاميينا لهم بالمرصاد.
قال لي أحدهم بعد سيل تصريحات ومواقف شيخنا الأكبر والتي حظي آخرها على وجه الخصوص بتغطية كبيرة: «أخشى أن ينقرض الأزهر خلال العشرين سنة القادمة لما يقوم به إمامه من مواجهة مع الدولة المصرية»، فأجبته: تبًا لأمة يجبن علماؤها ويتكلم رويبضتها وفساقها ويقود ناصيتها جمع من الجهلة وأنصاف المتعلمين. الأزهر الشريف لم يعش ألف عام أو يزيد لأنه طأطأ الرأس لحاكم أو لأنه انحنى لعواصف السياسة، بل لأنه عاش قرونًا متطاولة يعلم الناس الخير ويذكرهم بما ينفعهم في الدنيا والآخرة. ما أثار انتباه الجميع هو ذلك الكم من التفاعل والتأييد حتى من غير المتدينين ومن غير المتخصصين وحتى من أولئك الذين لا يعرفون من هم الأشاعرة ولا الماتريدية.
إن عموم المصريين (وهم درع الوقاية الحقيقي للأزهر وحاضنته عبر التاريخ) يحكمون ويفرقون بين عالم أزهري يتولى منصب الإفتاء ويصدر تصريحًا مفاده: أن مصر قد حققت تقدمًا في ملف حقوق الإنسان عمومًا وفي ملف السجون خصوصًا، يفرق الناس بين هذا وبين إمام أكبر يقول لهم: “إن الساسة يختطفون الدين لمصلحتهم، وأننا لن نسمح لتحويل الأزهر لمتحف ثقافي”.
لا يكاد يدرك أكثر الناس معنى الأشعرية ولا الماتريدية ولا المذهبية ولا علوم التصوف والتزكية (وهي أركان المنهج الأزهري كما أسلفنا) غير أنهم يدركون جيدًا ذلك الفرق بين كلام يراد به وجه الله، وآخر يراد به استرضاء أولياء النعمة.
ليست تصريحات شيخ الأزهر عشوائية، فهو ذلك الرجل المحنك عضو لجنة السياسات أيام مبارك الذي يفهم ما يدور في عقول الساسة وما يخفونه خلف تصريحاتهم، وهو الذي استطاع انتزاع قانون استقلالية الأزهر في آخر أيام المجلس العسكري، وهو الذي رفض الخوض في فتنة دموية وأن ينصر قاتلاً أو يفتي له بالضرب في المليان.
فريق يملك العلم والشرعية ولا يملك المصداقية.. وآخر يملك الشارع وبضاعته من العلم مزجاة!
في الفترة الأخيرة وخلال ما يقرب من العشرين سنة الماضية، فإن المتصدرين في وسائل الإعلام من أهل العلم أو من الدعاة يكاد ألا يخرجوا عن أحد فريقين: فريق يملك العلم ويملك مؤسساته الشرعية العريقة، ومناهجه الأصيلة. وفريق يملك الشارع بأدوات السيطرة عليه وتحريكه عبر مهارات الدعوة وفنون الخطابة.
والمفارقة هي أن من يملك العلم والشرعية لا يملك المصداقية الجماهيرية، ولا يكون خطابه في غالب الأحيان عند مستوى هموم الناس وطموحهم وآمالهم وآلامهم. وفي المقابل، فإن من يحتل الصدارة في وسائل الإعلام بأنواعها بضاعته من العلم مزجاة، غير أنهم إذا تكلموا أنصت الناس وإذا غردوا تفاعل الجمهور وشيّروا.
وسواء أكان ذلك بفعل فاعل أو تدبير أنظمة حكم أم هو نتاج طبيعي أفرزته الأحداث المتعاقبة، فهو بلا شك واقع ينبغي علينا الاعتراف به، ولا يغني عن ذلك استثناء هنا أو هناك، فإني أحدثك عن الصورة في مجملها.
ولعل هذا هو ما يفسر لنا ظاهرة تساقط الرموز وتآكل المرجعيات واعتماد الناس على من رحل إلى ربه راضيًا مرضيًا من مشايخنا كالشعراوي والغزالي.
الصورة الثنائية للعلماء والدعاة
لقد رسم الكثيرون في أذهانهم عن حال العلماء والدعاة تلك الصورة الثنائية:
1. فإما عالم يتهمه الناس بالنفاق أو الصمت لما وجدوه من قدرته العجيبة على تبرير الواقع والالتفاف حول النصوص الشرعية وتمييع الثوابت لا لشيء إلا ليثبت لأولياء نعمته أنه مجدد الخطاب الديني الأول، وأنه قادر على استخلاص الإسلام الوسطي المعتدل الجميل الذي يتكيف مع الوضع الحالي ويبرره على طول الخط، لأن مصر وباختصار مذكورة في القرآن ولأن بلدنا جميلة وشعبنا جميل والحاكم أجمل. إنهم يا سيّدي دعاة الإسلام الجميل الذي يدّعي “ما لله لله وما لقيصر لقيصر”، حتى ابتذلت كلمة “الإسلام الوسطي” على يد دعاة الفضائيات والمشايخ نجوم التوك شو.
2. وفريق آخر من دعاة المنفى همهم الأول سب الحكام والتبرؤ منهم وصب اللعنات عليهم، وتلك في الحقيقة من أوسع الأبواب وأسرعها لنيل ثقة الجماهير ودخول عالم الشهرة وتخطي حاجز المليون في المشاركات لا في التعليقات.
من يملك العلم والشرعية لا يملك المصداقية، ومن يملك المصداقية لا يملك الكفاءة العلمية والخبرة. الأول يستخدم علمه وفقهه للتبرير والتكيف مع الواقع ونوازله، بدل أن يتعب نفسه في عملية الإصلاح والتوجيه وهو منهج يصح في بلاد غير المسلمين أكثر من صحته في بلد مسلم. والثاني يعلم الناس كيف يموتون في سبيل الله وكيف يثورون في وجه الظالمين وكيف يصبرون على ظلمات غياهب السجون واحتمال العذاب الأليم. وكأن قدر الشباب في زماننا أن يحرم من عالم رباني يعلمه كيف يسدد ويقارب وكيف يعمر أوطانه في سبيل الله ويقدم مثالاً للمسلم القوي الناجح الذي يعيش لله وفي سبيل الله.
ورغم كون ما ذكرته يدخل في باب التعميمات التي تحمل بلا شك كثيرًا من الظلم والتجني على المخلصين من علمائنا الأجلاء ودعاتنا الأوفياء، فإن مواقف بعينها يجري تضخيمها عبر وسائل الإعلام لا زالت ترسخ تلك الصورة القاتمة من الثنائية بين فريقين كلاهما يتحدث من القرآن والسنة.
وحينما جاءت تصريحات شيخنا الطيب متجاوزة لتلك الثنائيات، ومتخطية كل تلك العقبات، كانت النتيجة ذلك التفاعل الضخم مع تصريحات فضيلة الإمام، ذلك التفاعل الذي تجاوز حدود الانتماءات السياسية والاصطفافات الحزبية التي مزقت مجتمعنا المصري، ولسان حال الناس يقول: “اشتقنا إليكم أيها السادة العلماء فلا تحرمونا حكمة مخلصة ونصيحة صادقة. اشتقنا لكلام لا يُبتغى منه إلا وجه الله الكريم”.
ختامًا
أذكّر الخائفين على مستقبل الأزهر، بأنه وفي مسعى النظام الحاكم لتحييد الأزهر وشيخه في الفترة الماضية فإنهم لم يجدوا حرجًا من استيراد المشايخ من اليمن والإمارات بل وربما السعودية طالما أن شيخ الأزهر هنا لا يدرك حجم الخطر الذي يواجه أمننا القومي، فهو الذي دعا لانتخابات مبكرة لوأد الفتنة في مهدها، وهو الذي تبرأ إلى الله من دماء سالت هنا وهناك، فهو إذن غير مؤهل ليحدث أبناء القوات المسلحة في الندوات التثقيفية هاتوا لنا ذلك الشيخ اليمني (وقد سبق أن منع من دخول مصر أو إلقاء الدروس فيها أيام مبارك) هاتوا لنا من يفهمون طبيعة المرحلة ويدركون مراد حكام مصر الجدد، فشيخ أزهرنا لا يؤتمن على عقول أبنائنا، فهو لن يوجههم في زمن الفتنة للضرب في المليان، ولن يفهم ما ينزل من السماء من هداية وتوجيه على من بعثنا من قبل العناية الإلهية كما أرسل الله موسى وهارون من قبل.
وغني عن البيان أن تصاريح الخطابة لمشايخ الوهابية في محافظات مصر ورموز الحركة السلفية (المسالمة) تخرج من الجهات الأمنية أسرع من البرق ودون عناء يذكر، رغم تحذير الأزهر المستمر من خطورة السماح بانتشار هذا الفكر المعوج.