مسلماتنا في زمن الكورونا: هل من جديد تحت الشمس؟
هذه نماذج من عنوانين لمقالات كثيرة تُراجع كثيرًا من المسلمات الثقافية والسياسية والاقتصادية السائدة فيما قبل كورونا، يُضاف إليها قضايا أخرى مثل: مفهوم الأمن القومي، والتكنولوجيا، والجيوش ودورها، واستمرار بعض التنظيمات الدولية التي ارتبطت بمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية: مثل الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي.
في هذا المقال سنناقش كيف ألقى الفيروس بظلاله على مسلمات ثلاث ذات أبعاد ثقافية/اقتصادية: أولها يخص العمل عن بعد، وثانيها يتعلق بنمط التنمية السائد، وثالثها يعرض لتلاشي الحدود بين الخاص والعام في الاقتصاد.
أولًا: تغير طبيعة العمل
كان المصنع هو قمة التعبير عن الحداثة كما نعرفها، فهو المكان الذي يتم فيه تنميط كل شيء: سلوك العامل، وعمليات الإنتاج، والمُنتَج نفسه، بل والمستهلك. فهو المساحة التي يجري فيه تقسيم العمل إلى عمليات محددة يتخصص كل عامل بعملية واحدة منها، وتتكامل هذه العمليات لإنتاج وحدات متشابهة ولكن بكميات كبيرة بهدف تلبية احتياجات المستهلكين في أي مكان من العالم. النموذج المعرفي الحداثي الذي يصدر عنه المصنع يتضمن: التنميط؛ تنميط المستهلك وعمليات الإنتاج، النظام وتغيير سلوك العامل لضمان القيام بتخصصه في عمليات الإنتاج المتعددة الخطوات، كما يتضمن هذا النموذج أيضًا مفاهيم الاستهلاك الشره للإنتاج الكبير المتسع.
أما الفيروس وتأثرًا بمفهوم المسافة الاجتماعية Social Distance قد جعل كل شيء عن بعد، حيث: التعليم عن بعد، والطب عن بعد، والإنتاج الإعلامي عن بعد، والتسوق عن بعد… إلخ.
في تجربة سابقة في «إسلام أون لاين» (1999-2010) ابتكرنا نظامًا للعمل يسمح لبعض العاملين والعاملات القيام بعمل عن بعد سواء من المنزل أو من بلدان أخرى، وقد ساعد على هذا أنك تعمل في صناعة تعتمد على الأونلاين والتكنولوجيا المتقدمة، ولكنه تطلب منا دراسة مستفيضة حول نُظم العمل والتوصيفات الوظيفية وكيفية التحقق من الإنتاج، بالإضافة إلى مسائل الأجر وتفاوته بين من يعمل من داخل المكان أو من خارجه، إلى ما هناك من قضايا تتعلق بالأعمال التي يمكن إنجازها عن بعد، وقد أثبتت دراسة حديثة أن 40% من الوظائف الأمريكية يمكن إجراؤها وأنت تلبس البيجاما في المنزل.
بالطبع هناك أسواق عمل أكثر قابلية لمكان العمل الافتراضي من أخرى، وهناك صناعات أكثر قابلية لهذا النوع من العمل من أخرى، ولكن الملاحظ أن الفيروس ونتاج سياسة الإغلاق التي اتبعتها كل الاقتصادات في العالم قد أعطت قوة دفع كبيرة للعمل عن بعد، ومن المتوقع أن يقوم أصحاب الأعمال بتعديل المهام بحيث تصبح الأشياء التي يمكن القيام بها عن بعد وفي موقع فردي أكثر دقة، وتتميز عن الأعمال التي يمكن القيام بها من الموقع.
وسيكتسب ذلك قوة دفع من المنافع التي يتحصل عليها كل من أصحاب الأعمال والعاملين معًا؛ فأصحاب الأعمال سيوفرون تكاليف كثيرة كانت تُدفع على توفير البنية الأساسية للعمل من إيجارات وصيانة واستهلاك للكهرباء والمياه والغاز، أما العاملون فإنه سيفتح لهم مجالاً متسعًا للعمل، كما سيوفر لهم أوقاتًا كثيرة كانت تُنفَق في زحام المدن المكتظة.
بالطبع سيعطي العمل عن بعد قوة دفع للتكنولوجيا وتطبيقاتها المتعددة في هذا المجال مما ظهرت آثاره وستظهر بشكل متصاعد الأيام القليلة المقبلة، ولكن الأهم هو مدى تأثير ذلك النوع من العمل على ثقافة العامل من جهة إدراكه لذاته وعلاقة الولاء بمؤسسته، بالإضافة إلى نوعية الخبرات والمهارات التي يتطلبها العمل عن بعد.
هذه مجرد أسئلة -من الجانب المؤسسي والإداري- تحتاج إلى متابعة في زمن ما بعد الكورونا. إلا أن الأهم من وجهة نظري أن الأونلاين ليس مجرد أدوات نستخدمها، ولكنها تعبير عن نموذج معرفي جديد تتغذى منه وتُغذيه في الوقت نفسه.
أبرز ملامح هذا النموذج كما سبق وتناولته في مقالات سابقة يقوم على: التعددية وانتفاء المركز، والتعلم المستمر، والعملية الشديدة وتجاوز الأيديولوجي، والفردانية التي تنفي التنميط… إلخ.
ثانيًا: الاقتصاد يحتاج إلى تغيير… الكورونا ونمط التنمية
على الرغم من أنه ليس قاطعًا بعد، أن كورونا انتقل من الحيوان إلى البشر عن طريق وسيط حيواني آخر؛ إلا أن شيئًا واحدًا لا يرقى إليه الشك، أن سارس وأمراضًا وبائية أخرى نشأت في الحياة البرية؛ حيث كسر الحاجز وانتقل إلى البشر. فبعض التقديرات تشير إلى أن أكثر من 60% من جميع الأوبئة في العالم هي أمراض حيوانية المصدر، و70% منها يأتي من الحيوانات البرية.
إن وجود فيروس على مضيف طبيعي/حيوان بري يسبب وباء من خلال الاستفادة من سلسلة كبيرة من الأحداث المترابطة والقادرة على نشره عالميًا.
لكن ماذا جرى في علاقة الإنسان ببيئته من حوله؟
ظاهرتان مترابطتان: تقريب الحياة البرية منا، واقترابنا نحن منها. فنحن يزيد تعرضنا -نتيجة لذلك- للأمراض التي لم نعاينها من قبل، وبالتالي فنحن غير مستعدين للرد عليها.
أما السبب الثاني فهو العولمة، فبمجرد أن ينتقل إلينا المرض نتيجة زيادة اقترابنا وتقريبنا للحياة البرية، ويُصاب عدد كافٍ من البشر، فإن الرحلات الجوية والبحرية الدولية بالإضافة إلى السياحة وسلاسل التجارات المرتبطة تنقل الأمراض إلى جميع أنحاء العالم.
في هذا الإطار تلعب التجارة غير المشروعة في الحياة البرية سيورًا ناقلة على نطاق واسع للأمراض من الحيوانات للبشر، خاصةً أنها تمثل رابع أكبر تجارة غير مشروعة على مستوى العالم بعد المخدرات والتزييف والاتجار في البشر.
ويزيد الأمر سوءًا اقترابنا من الحياة البرية مع تدهور الموائل الطبيعية، فإزالة الغابات وتغيير استخدامات الأراضي، وتجزئة الموائل والعدوان عليها، والتصنيع والتحضر؛ بعض العوامل البيئية والسلوكية والاجتماعية والاقتصادية التي تزيد من تعرض الانسان للعدوى، كما يعد التغير المناخي محركًا إضافيًا لها.
هذه التطورات تجعل الأوبئة أكثر احتمالاً من قبل، ولا يمكن التنبؤ بها، لكن المطلوب هو أن نكون مستعدين للتعامل معها، فلا بد للبشر أن يفعلوا المزيد لتجنب الأوبئة والحد من خطر اندلاع مسبباتها وتقليل احتمالية انتشارها، وهذا يتطلب إعادة تفكيك الاقتصاد العالمي وأسلوب الحياة الحالي الذي يعتمد على الاستهلاك الشره للموارد الطبيعية، فقد ساعد التوسع الصناعي مدفوعًا بالاستهلاك الشره للموارد الطبيعية العديد من مسببات الأمراض الفيروسية الجديدة.
إن انتقال الفيروسات من الحيوانات إلى الإنسان في العالم ما قبل الصناعي كانت قليلة، فقبل بضع مئات من السنين كانت الغابات والأراضي الرطبة تهيمن على العالم، وكانت المراكز الحضرية قليلة وكان الاتصال بينهما بطيئًا وغير مؤكد، فقد قدّرت دراسة حديثة أن معظم سطح الأرض في عام 1700 كان بريًا، بينما تسيطر اليوم المستوطنات البشرية والتمدد الحضري والأنشطة المرتبطة بهما على نصف أراضي الكوكب.
لقد دفع استهلاك البشر وليس النمو السكاني هذه التغيرات في استخدام الأراضي، فقد تضاعف عدد السكان في الخمسين سنة الماضية، لكن استهلاك الموارد الطبيعية قد تضاعف ثلاث مرات، وبالطبع فإن الحصة الأكبر من الاستهلاك تكون للدول الصناعية المتقدمة، فهم يستهلكون أكثر من 13 ضعف نصيب الفرد في الدول النامية.
منع الوباء التالي سيكون مستحيلاً دون سياسات أكثر تواؤمًا مع البيئة، فالفيروس فرصة فريدة لنوع من التغير في نمط الحياة التي يمكن أن تنقذ الأرواح ونظمنا البيئية المشتركة، فصحة الإنسان والحيوان والبيئة مترابطات (لا تفسدوا في الأرض).
إن أحد المقاربات الصحية (بل أزعم أنها جزء من تصورنا الإسلامي للعلاقة بين الإنسان والكون والحياة) تدرك أن صحة الإنسان والحيوان مترابطتان ومرتبطتان بصحة النظم البيئية التي توجد فيها، لذا فإن الحد بقوة من تعرض الإنسان للحياة البرية هو خطوة أساسية لمنع ظهور الأمراض المعدية الجديدة. كما أن تحسين الظروف الصحية بالكامل على طول سلسلة تجارة الحيوانات البرية المشروعة، وفرض شروط صارمة وآمنة لبيعها وتداولها هي أيضًا أمور أساسية.
ثالثًا: انتفاء الحدود بين القطاعين العام والخاص
أحد مرتكزات معالجة الجائحة الحالية هي التدخل الحكومي الكبير، فقد تطلع الناس للدور الذي يمكن أن تلعبه حكوماتهم في فرض إجراءات يلتزم بها المجتمع، وللطريقة التي يمكن بها استخدام الإنفاق العام لمكافحة التداعيات الاقتصادية للفيروس؛ فعندما تتوقف الأنشطة الاقتصادية لا توجد سوق حرة.
ففي الأسابيع القليلة الماضية تحرك الكونجرس والإدارة الأمريكية لضخ أكثر من 6 تريليون دولار في الاقتصاد، أما الاتحاد الأوروبي وبنكه المركزي فيضخون التريليونات أيضًا، وستبلغ هذه الجهود الأمريكية والأوربية مجتمعة ما لا يقل عن 10 تريليونات دولار، أي ربع النشاط الاقتصادي السنوي للولايات المتحدة وأوروبا. وتبذل جميع الدول على حسب قدرتها المالية ومدى نشاطها الاقتصادي جهودًا على نطاق مماثل.
هذا الإنفاق غير مسبوق -لا في وقت السلم أو الحرب- فهو يبلغ ثلثي الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، ومن المتوقع أن يزيد، في حين أنه من قبل كان بين 5% و10% من الناتج المحلي الإجمالي.
صحيح أن هذا الإنفاق وراءه افتراض هو أن يدفع الاقتصاد إلى النقطة التي يبدأ عندها السوق الحرة في العمل مرة أخرى؛ إلا أن هذه الطفرة من الإنفاق العام ستؤدي إلى طمس الحدود الفاصلة بين القطاعين العام والخاص، وتحويل جزء كبير من الاقتصاد العالمي إلى ميزانيات حكومية. وعلى الجانب الآخر، لا بد من إعادة صياغة القوانين المقترحة للإنفاق الحكومي، مع تغيير البنوك المركزية للقواعد والشروط التي تحكم الإقراض والرقابة عليها.
ويظل السؤال مطروحًا: هل نشهد انتفاء للانقسامات الأيديولوجية القديمة والنقاشات الاقتصادية حول الإنفاق العام وحدود الدين العام؟ فمن المحتمل أن يدفع الإنفاق الحكومي الهائل في كل بلدان العالم الاقتصاديين إلى إعادة التفكير في قوانينهم الخاصة بالعلاقة بين العام والخاص.