في عام 1517 أصبحت مصر ولاية تابعة للدولة العثمانية، وفي عام 1525 أصدر السلطان سليمان القانوني ما يُعرف بـ «قانون نامة مصر»، وفيه قانون دار الضرب النقدي الفضي والذهبي، وذلك لضبط المعاملات المالية، ونص فيه على أن «البارة» وزنها 1.28 جرام بنسبة فضة خالصة تصل إلى 84%، وكانت لها قوة وثقة في السوق المصرية حتى عام 1565.

البارة المصرية تترنح

ظلت «البارة المصرية» تحظى بقبول لدى التجار والشعب حتى تولَّى حكم مصر علي باشا الصوفي، بين عامي 971-973هـ/1565م، ووفقًا لابن السرور البكري في كتابه «النزهة الزهية في ذكر ولاة مصر والقاهرة المعزية» سمح لأهل حلب الذين جاؤوا معه أن يديروا دار ضرب العملة، فقاموا بتزييف «البارة المصرية»، وذلك من خلال خلطها بنسبة كبيرة من النحاس تجاوزت النسبة المذكورة في كتاب قانون نامة، وكانت هذه بداية الأزمات الاقتصادية.

ويصف ناصر أحمد إبراهيم ما حدث في ذلك الوقت، في كتابه «الأوبئة والأزمات الاجتماعية في مصر»، بأنه ضربة عنيفة للاقتصاد المصري لم يستطع أن يفيق منها حتى نهاية القرن الثامن عشر.

ووفقًا لإبراهيم، لم يكن تزييف البارة المصرية العامل الوحيد الذي أدى لتدهور الاقتصاد المصري، بل ارتباط النظام النقدي المصري بالنظام النقدي في عاصمة الدولة العثمانية كان له تأثير سلبي، حيث عانت العاصمة إسطنبول مثل غيرها من الدول الأوروبية من أزمة التضخم النقدي منذ عام 1560، وذلك نتيجة تدفق الفضة الأمريكية، هذا إلى جانب حركة التبادل التجاري الكبيرة بين البلدين، التي دفعت البارة المصرية نحو الهبوط.

ومع تراجع قيمة العملة في العاصمة العثمانية، بجانب زيادة نسبة النحاس في البارة المصرية، ساهم ذلك في تراجع قيمتها بنسبة 50% عام 1584م، وهو ما أدى لارتفاع تكاليف المعيشة، وتراجع القوة الشرائية للرواتب، وأمام هذا الهبوط للبارة المصرية ارتفعت قيمة العملات الذهبية، فمثلًا أصبحت قيمة الدينار الشريفي السلطاني (المضروب في مصر) تعادل 40 بارة مع نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر، بعد أن كان يقدر بنحو 25 بارة، عام 1525م، بحسب قانون نامة مصر.

المزيد من التهاوي

مع بداية القرن السابع عشر شهدت البارة المصرية حالة من التذبذب، وذلك بسبب التلاعب في صكها بدار الضرب، حيث قلت نسبة الفضة فيها مقابل النحاس، ومع انخفاض قيمتها وقوتها الشرائية بدأ التجار برفع أسعار السلع، وخفض المعروض منها في الأسواق، ويذكر أنه في عهد الوالي أحمد باشا، وتحديدًا في عام 1617، قام التجار بسحب السلع من الأسواق وتخزينها خارج أسوار القاهرة.

ارتفع سعر إردب القمح من 20 إلى 90 بارة، ولم تتراجع الأسعار إلا بعد تدخل الوالي، عندما كسر الاحتكار بتوفير كميات كبيرة من الغلال في الأسواق، وبذلك أنهى أزمة غلاء السلع الغذائية، ونجا أهل القاهرة من التعرض للمجاعة.

القرارات الخاطئة والأوبئة

منذ عهد الوالي أحمد باشا ظلت البارة المصرية بين الهبوط والصعود نتيجة لقرارات الولاة والأوبئة التي كانت تتعرض لها مصر، لكن يظل أسوأ قرار تعرضت له البارة المصرية اتخذه الوالي أحمد باشا الكرجي، الذي تولى حكم مصر بين 1042-1045 هـ/ 1633-1635م، كما ذكر علي بن رضوان في كتابه «زبدة اختصار تاريخ ملوك المحروسة».

في هذا العام شهدت مصر ما عُرف بـ «رمي النحاس» أو بيع النحاس، للصناع والتجار والأوقاف، الذين كانوا مجبرين على دفع ثمنها إلى رجال الوالي، وحُدد سعر قنطار النحاس بـ 80 قرشًا عثمانيًّا، والقرش يعادل 40 بارة، وقد بِيعَ نحو 12.000 قنطار نحاس، مما تسبب في تراجع قيمة البارة، نتيجة وفرة النحاس، ونتج عن ذلك ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة.

وعن هذه الأزمة وحال أهل مصر فيها دوَّن البكري في كتابه «الكواكب السائرة» شعرًا، يقول فيه:

لقد كانت الأمصار تحسد مصرنا                                     وتدعى بروض الملك في ساير القرى
رماها مليك بالنحاس فأصبحت                                          خرابًا وأمسى أهلها أفقر الورى
وصارت ديار الذل من بعد عزها                                                ألا في سبيل الله ما جرى

خلف الكرجيَّ حسينُ باشا الدالي، وظل في الحكم لعامين مثل غيره، وخلال فترة حكمه لم يهتم بسوى ملء خزانته بالنقود الجيدة عالية القيمة، لذلك قرر أن يستبدل بالدنانير الذهبية الناقصة والفضة المقصوصة دنانير ذهبية وفضة ديوانية كاملة العيار، وذلك من خلال طرحها في الأسواق، وهذا أدى لهبوط البارة مرة أخرى وخسائر فادحة للأهالي.

ارتفاع أسعار النقود

مع بداية عام 1648 شهدت البارة المصرية حالة من الاستقرار النسبي، لكن ذلك لم يعِق ارتفاع أسعار النقود الأخرى المتداولة في مصر، نتيجة تعرض البارة المصرية للهبوط خلال السنوات السابقة، كما ذكر ناصر أحمد إبراهيم في كتابه.

فاستقر سعر الدينار الذهبي عند 70 بارة، والريال عند 33 بارة، والقرش الأسدي عند 30 بارة، ومع ندرة الفضة، عاد التلاعب في صك البارة مرة أخرى، وتزييف وزنها أو عيارها، ونتيجة الهبوط في قيمة البارة المصرية، مما أدى لارتفاع أسعار النقود مرة أخرى في عام 1667م، فأصبح الدينار بـ 92 بارة، والريال بـ 40 بارة، وفي هذا العام ارتفع سعر إردب القمح إلى نحو 240 بارة، مما أثار الأهالي، نتيجة ارتفاع أسعار السلع وغلاء المعيشة.

وفي السنوات التالية لم تستطِع البارة المصرية استعادة قيمتها من الفضة، فأصبح الإطار الحاكم لها هو الهبوط التدريجي في قيمتها، وبين عامي 1668-1680 انخفضت البارة المصرية أمام العملات المتداولة مرة أخرى، وأصبح قيمة الدينار البندقي بـ 95 بارة، والريال بـ 42 بارة، والشرقي الذهبي بـ 85 بارة، مما أدى لاضطراب شديد في الاقتصاد نتيجة ارتفاع أسعار النقود والسلع.

أسباب هبوط البارة المصرية

وفقًا لابن رضوان في كتابه، حاول الوالي علي باشا أبو الرخا (1079-1080هـ/1669-1670م) منع تداول البارة المزيفة، من خلال إرساله مُنادِينَ في الأسواق بعدم التعامل مع الفضة المقاصيص، لكنه فشل لعدم طرحه في الأسواق بارات مصرية ذات قيمة عالية، لعدم وفرة الفضة في مصر.

وأوضح في كتابه أيضًا أن إبراهيم باشا كتخداء، الذي قدم من جزيرة كريت لتولي حكم مصر بعد أبي الرخا، جاء معه بعض الفضة، فأعطاها لأمين دار الضرب (صك العملة) لصكها في صورة بارات يتم طرحها في الأسواق، وعندما تم تداولها بين الناس ومكثت في بيوتهم أيامًا ظهر عليها الصفرة، فعلم الناس أنها بارات فضة داخلها نحاس كثير.

أدى ما سبق إلى قبول الأهالي التعامل مع البارات المزيفة (كثيرة النحاس)، ودفع ذلك لارتفاع أسعار السلع الغذائية كافة، وزيادة معاناة الفقراء في الحصول على الغذاء الكافي، بسبب الغلاء وانخفاض قيمة النقود التي في أيديهم.

ويشير ناصر أحمد إبراهيم، في كتابه، إلى أن الحرب التي دارت بين الدولة العثمانية والبندقيةـ أثرت بشكل سلبي على البارة المصرية، وذلك لقلة النقود القادمة من الدولة العثمانية إلى مصر، مما أدى لارتفاع سعر الدينار البندقي إلى نحو 105 بارات.

الفيضان يخفف من الأزمة أحيانًا

رغم أن انخفاض قيمة البارة المصرية أمام العملات الأخرى كان له أثر سيئ عليهم، من حيث ارتفاع الأسعار وقلة الدخل، إلا أن انتظام فيضان النيل بين عامي 1681و1686م ساهم في انخفاض واستقرار أسعار الغلال، خلال هذه السنوات، فتراوح سعر إردب القمح بين 20-30 بارة، وإردب الفول بين 30-40 بارة، وإردب العدس بين 20-30 بارة، وإردب الشعير بين 12-30 بارة، وإردب الأرز بين 144-170 بارة.

لم يهنأ المصريون كثيرًا بهذه الأيام، حيث وصل خطاب من السلطان العثماني لوالي مصر، في عام 1667م، بتخفيض نسبة الفضة في البارة، فانخفضت قيمتها من جديد، تزامنًا مع اضطرابات فيضان النيل، فارتفعت أسعار السلع من جديد، ومعها تكاليف المعيشة.

وخلال السنوات التالية اتجه منحنى قيمة البارة المصرية لأسفل، واتجه منحنى الأسعار لأعلى، ويصف حالة السوق المصرية في تلك الفترة أحمد شلبي بن عبد الغني في كتابه «أوضح الإشارات فيمن تولى مصر القاهرة من الوزراء والباشات»، قائلًا: «غلت الحبة، وجميع الأسعار حتى إن اللحم الضأني بِيعَ بنصف فضة الرطل، والجاموس بخمسة جدد الرطل، ولم يزد على ذلك، واستمرت الزيادة في اللحم إلى يومنا هذا، ولم ينزل إلى عادته من ذلك اليوم».

أما عن أسعار الغلال، فيقول ابن رضوان في كتابه إن الأسعار تغالت في شهر شعبان لسنة 1100 هـ، فأصبح سعر إردب القمح بـ 136 بارة، وإردب الشعير بـ 120 بارة، وإردب الفول بـ 120 بارة، وإردب العدس بـ 130 بارة، وذلك رغم وفرة مياه النيل.

كما استغلت الفرقة العسكرية الإنكشارية سلطتها في مصر، وفرضت العملات النقدية الأقل قيمة عيارًا ووزنًا، ففقدت البارة المصرية جزءًا جديدًا من قيمتها في مقابل النقود الذهبية، فارتفع الدينار الشريفي البندقي من 110 بارات إلى 120 بارة، والريال الحجر من 60 بارة إلى 64 بارة، والقرش الكلب من 46 بارة إلى 48 بارة، وذلك خلال عام 1696م، وهذا أدى لسوء الأوضاع الاقتصادية، وارتفاع أسعار جميع السلع، وخاصة الغلال، ومع الانخفاض المستمر في قيمة البارة المصرية مع بدايات سنة 1700م، ارتفعت تكاليف المعيشة، وازداد عبء الضرائب، وتدنى النظام الغذائي لفئات كثيرة من المجتمع المصري.

ويصف الجبرتي في كتابه «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» أن الغلاء عم البلاد، وكثر الشحاذون في الأزقة، نتيجة انخفاض منسوب النيل، وهبوط البارة، وذلك خلال نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر الميلادي.

إصلاح اقتصادي غير مثمر

وخلال تلك الفترة، وفقًا للجبرتي، انتشرت البارات المقاصيص والزيوف، وحلًّا للأزمة قرر الأمير علي أغا مستحفظان، سنة 1696م، إدارة دار الضرب وصك بارات بها نسبة فضة مرتفعة، وعمل تسعيرة إجبارية لجميع السلع، كما أغلق مسابك النحاس، وحدَّد أسعار النقود الذهبية المتداولة في مصر.

وهكذا، ولأن دوام الحال من المحال، انخفضت البارة المصرية مرة أخرى برحيل علي أغا مستحفظان، وارتفعت الأسعار التي كانت تمثل عبئًا على المجتمع المصري، ولكنها كانت تشتد مع انخفاض منسوب نهر النيل، لكن المؤكد أن المجتمع المصري رغم أنينه استطاع أن يتأقلم ويتجاوز تلك الأزمات.