عالمنا المعاصر بعيون غرامشي
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
يأتي كتاب كيت كريهن (Kate Crehan) الجديد حول عمل أنطونيو غرامشي كنص فطِن وطيِّع يحاول وصل أفكاره بالأحداث الجارية في الولايات المتحدة. بكل وفاء للروح الغرامشية، تنفق كريهن الفصول الأربعة الأولى في تأطير كل من حياته وعمله من أجل إظهار الكيفية التي تطورت بها أفكاره. ثم تنفق عدة فصول موضحة لماذا تظل هذه الأفكار مفيدة في عالم اليوم؛ كما لو أراد غرامشي، ينبغي أن تُستخدم المعرفة من أجل التغيير الاجتماعي، وليس لمحض المعرفة.
إن الطريق الواضحة والاشتباكية التي تكتب بها كريهن هي أكثر ما يلفت النظر بشأن الكتاب. يُسحب القارئ نحو عالم من الأفكار الغرامشية، وفي ظرف عدة جمل يؤخذ من مناقشة ملاحظات محددة في دفاتر السجن (Prison Notebooks) إلى أحداث تجري في عام 2016. وفي خضم عملٍ غرامشيٍّ لا ينفك يتسع، يُعد هذا النص منعشًا على نحو خاص لأنه شيق القراءة ولأنه يُحضِر غرامشي إلى الحياة اليوم عن طريق اجتذاب أفكاره إلى محادثة مع الأحداث الجارية.
فما هي أفكار غرامشي الأساسية التي تتناولها كريهن؟ بدون شك، تمثل الثقافة الخيط الذي يربط الكثير من أطراف هذا الكتاب معًا، ولهذا السبب يظهر المثقفون العضويون بوصفهم اللاعبين الرئيسيين. كيف يحصل التغيير الاجتماعي؟ كيف تشيَّد الهيمنة وكيف تتداعى؟ أية علاقة بين الجماهير والمثقفين؟ يجادل هذا الكتاب أن اللامساواة أكثر من مجرد اختلاف كمي بين شخص وآخر. هي أكثر اتساعًا وأكثر وعمقًا؛ اقتصادية وثقافية في آن واحد. ويلقي النظر على أصول السرديات التي تشرح لماذا ثمة أشكال محددة من اللامساواة حتمية وضرورية ومفيدة وظالمة وهلم جرا، في محاولة لإظهار كيف أن الهيمنة إلى حد كبير ثقافية كما هي اقتصادية. وفي ذلك، يكون «الحس المشترك (common sense)» هو ما يوفر السلطة الإيديولوجية اللازمة للطبقة الحاكمة من أجل السيطرة المجتمع.
تبدأ كريهن الكتاب مزاوجة بعض أفكار غرامشي بأفكار مثقفين بارزين من قبيل ميشيل فوكو وغاياتري سبيفاك وإدوارد سعيد وجيمس سكوت. وهو ما يبرهن على طريق مفيدة في إظهار لماذا غرامشي مشابه لهؤلاء المفكرين، ولماذا كان مصدر إلهام للكثيرين منهم، ويبين أيضًا لماذا، على الرغم من ذلك، لا يزال غرامشي فريدًا من نوعه في الكيفية التي تصوَّر بها كلًا من دور الثقافة ودور المثقف.
تجادل كريهن أنه على عكس فوكو، آمن غرامشي أن المعرفة يمكن ويجب أن تَفْعَل في العالم؛ هناك حيث تستخدمها الطبقات التابعة (subaltern classes) في محاولاتها المستمرة لمقاومة الهيمنة. وبشكل مثير للاهتمام، تجادل أيضًا ضد قراءة سعيد لغرامشي حول المثقف. إنه بينما يتحدث سعيد عن مثقف فرد يجب عليه قول الحقيقة للسلطة، يتحرك غرامشي بعيدًا عن رؤية المثقفين كأفراد، ويحاجج أن المثقف لا يمكن أبدًا أن يفصل نفسه عن السلطة كي يتحدث إليها من خارِج.
تتشكل معرفة المثقفين دائمًا عبر معتقدات وافتراضات ومواقف من العالم الذي يعيشون فيه (ص. 19)، بالتالي فكرة سعيد المتعلقة بأن المثقفين يمكن أن يكونوا ذاتيي القرار ومستقلين تبدو إشكالية. إن نقطة الانطلاق لدى غرامشي ليست منتجي المعرفة الثقافية وإنما عملية إنتاج المعرفة نفسها (ص. 25-26). بكلمات أخرى، بينما يدفع المثقفون عند سعيد – كما ترى كريهن – الحرية والمعرفة الإنسانيتين قدمًا، فإنهم بالنسبة إلى غرامشي دائمًا نتاج زمان ومكان محددين، بل قد لا يكونا تقدميَيْن على الإطلاق. ولأن كل المثقفين هم نتاج سياقاتهم، ينبغي أن يكون التركيز على هذا السياق وليس على المثقف نفسه.
على ما في هذه المقارنة من وجاهة، أجادل أن سعيد لم يتجاهل بالضرورة هذه الحقيقة، بل إن عمل حياته كان مكرسًا لكشف سلطة إنتاج المعرفة في تشكيل منطقة بأسرها: «الشرق». إلا أن الخلاف قد يكون حاصلًا بين الميل السعيدي العرضي نحو الإنسانوية – وإن بشكل نقدي وغير متمركز أوروبيًا – والميل الغرامشي الدائم نحو التحليل من خلال عدسة الطبقة. وهذا الميل، مع ذلك، لا يهيمن على النصوص الممتدة لسعيد، الذي رأى المثقف في معظم أعماله، كما أعتقد، بطريقة مشابهة جدًا لغرامشي نفسه. وبالمثل، فكرة سبيفاك الخاصة بأن التابع لا يستطيع أن يتكلم لا تتعارض مع اعتقاد غرامشي بأن التابع لن يكون بمقدوره قط أن يفهم ولا أن يصيغ بديلًا على نحو كامل.
بيد أن موطن الخلاف بينهما، كما أجادل، يرتبط بدور المثقفين العضويين كطبقة تنخرط و«تنقذ» التابعين. من ناحية أخرى، معارضةً حجة سكوت التي مفادها أن التابع يقاوم دائمًا ويعي دائمًا الظلم الواقع عليه في مساحات تخرج عن وجهة نظر الطبقة الحاكمة، تلاحظ كريهن أن غرامشي رأى أن الطبقات التابعة قادرة فقط على رفض بعض أجزاءٍ من سرديات الهيمنة القائمة – وليس جميعها. إن شرطهم التابعي (condition of subalternity) يجعلهم غير قادرين على تشكيل بديل متماسك، ولهذا السبب ثمة حاجة إلى المثقفين العضويين (ص. 30).
يعيد هذا الكتاب أيضًا موضعة عمل غرامشي في النظرية الماركسية، مُسلِّطًا الضوء على الطريق التي ينتقد بها الماركسية الأرثوذكسية. ففي حين يُقرأ غرامشي أحيانًا باعتباره منظرًا ثقافيًا، يتضح من عمله، كما تُظهِر كريهن، أنه جزء لا يتجزأ ضمن التقليد الماركسي. ومن داخل هذا التقليد، مع ذلك، كان فريدًا في الطريق التي مَفْهمَ بها مركزية الأفكار. بالنسبة إلى غرامشي، الأفكار هي قوات مادية – وتلك نقطة أخذها مباشرة عن ماركس – تمتلك المقدرة على تحريك التاريخ إلى الأمام. لكنه ذهب أبعد من ماركس من خلال إعطاء مساحة أكبر بكثير للأفكار وصلاتها بـ «القاعدة» الاقتصادية في تحليله للأحداث في إيطاليا.
من بين أفكار هذا الكتب الرئيسة إصرار كريهن أن المثقفين العضويين ليسوا تقدميين افتراضيًا (by default)، وأن الحس المشترك ليس راديكاليًا افتراضيًا. فلدى كل طبقة، مثقفوها العضويون، بما في ذلك الطبقة المهيمنة في أي زمن (ص. 31). ويُعد الفصل الذي كتبَته حول آدم سميث كمثقف عضوي وسيلة ممتازة للتدليل على هذه الحجة. ليس ثمة «مجموعات من المثقفين أحرار الحركة (free-floating)، ذاتيي القرار، الذين هم على استعداد لخدمة طبقة جديدة توجه لهم الدعوة» (ص. 33).
بوضوح، يبرز هؤلاء المثقفون العضويون من داخل الطبقة نفسها، وبمجرد أن يكون عند الطبقة ومثقفيها هيمنة مؤكدة، ستلتحم سردياتها في المؤسسات التي تروج هذه الأشكال من المعرفة (ص. 34). وهنا، تعطي مثال الجامعة الحديثة باعتبارها مؤسسة ولدت مع ظهور الرأسمالية. مع ذلك، لا يمكن أن ينهض المثقفون العضويون إلا من خلال صلاتهم بالطبقات التابعة – فالتجارب المعاشة لهذه الطبقات هي ما يوفر للمثقفين «المادة الخام» التي يعطونها شكلًا متماسكًا (ص. 39).
الحس المشترك، موضوع الفصل الثالث، لا ينبغي أن يُستقبل على نحو رومانسي أو ينظر إليه على أنه تقدمي بطبيعته. يشير الحس المشترك إلى المعايير والمعتقدات التي نسلّم بأنها اعتادية بسببٍ من طريقنا في الاجتماع (the way we were socialized). فهو ليس نظامًا متماسكًا من المعاني ولا يمثل مجموعة من الحقائق. اللاتماسك الذي أجده جذابًا بشكل خاص، لأنه يقطع شوطًا طويلًا في شرح لماذا غالبًا ما تكون المجموعات التابعة غير قادرة على العمل معًا ومقاومة شكلٍ مشتركٍ من أشكال الهيمنة. وهو ما يذكِّر بكيف كانت شرائح واسعة من الطبقة العاملة البيضاء في الولايات المتحدة طوال القرن الشعرين غير مستعدة لتوحيد جهودها مع الطبقة العاملة السوداء أو حركات البلاك باور أو نشطاء الحقوق المدنية، في كثير من الأحيان، بسبب معتقداتها العنصرية.
إن مجموعة تابعة مثل الطبقة العاملة البيضاء يمكن أن تحمل سرديات حس مشترك عنصرية وجنوسية وهلم جرا، في الوقت الذي تحمل فيه سرديات ضد الاستغلال الرأسمالي. كريهن تشير إلى أنه ضمن الفئة الأوسع للحس المشترك هناك ما يطلِق عليه غرامشي «الحس السليم (good sense)». على كل حال، غالبًا ما يجعل لاتماسك الحس المشترك عملية تشكُّل الهيمنة المضادة أمرًا صعبًا.
في فصلها الرابع، عن التابعين، تقتفي كريهن أثر بعض المعضلات التي تواجهها الطبقات التابعة في مقاومة الهيمنة. الفكرة الرئيسة أن ذاتيتنا تتشكل دائمًا في علاقة بالآخرين، وعلى وجه الخصوص في علاقة بالطبقة الحاكمة. “العيش في عالمٍ سيناريوهاته المسيطرة لم تكتب بمساهمة أناس على شاكلتك من الخصائص المميزة للتابعية” (ص. 61). في مقاومة هذا، سيخلق التابعون غالبًا سردياتهم الخاصة، أو ما تشير إليه كريهن بأنه «الفولكلور»، متّبعة غرامشي.
لقد تعرض الفولكلور إلى الإساءة منذ صعود الجامعة الحديثة بتركيزها على إنتاج المعرفة العلمية، لكن غرامشي جادل أن الفولكلور ليس شيئًا يُنظَر إليه باعتباره غريبًا (odd) وإنما، بدلًا من ذلك، ينبغي أن يؤخذ على محمل الجد. ولأن المثقفين العضويين سيقعِّدون معارفهم حول هذه المادة الخام، فإنه من الأهمية بمكان أن تؤخذ على محمل الجد بحسب شروطها الخاصة. «لا يجلب المثقفون العضويون ثقافة حديثة مشكلة بالكامل إلى الجماهير المتخلفة، وإنما، عوضًا عن ذلك، يجلبوا إلى حيز الوجود ثقافة جديدة تعتمد على الحس الجيد الذي هو جزء لا يتجزأ من الفلكلور والحس المشترك ككل» (ص. 68).
هنا، تذكر كريهن أنه بالنسبة إلى غرامشي لا يكمن التقابل البنيوي الأساس في أي مجتمع، بين التقليدي والحديث ولكن بين المهيمِن والمُهيمَن عليه (ص. 69). وتلك، برأيي، واحدة من أهم الفرضيات التي تعزز عمل غرامشي. في سياق عملي على الشرق الأوسط، كثيرًا ما تُستخدم الثقافة لرسم هذا التمييز بين عالم عربي تقليدي وآخر غربي حديث، وهو تمييز نشأ من خلال الإمبريالية. وإذا تحولنا، عوضًا عن ذلك، إلى تحليل العالم العربي من خلال عدسة المهيمِن والمهيمَن عليه، ستظهر مجموعة مختلفة جدًا من ديناميكيات السلطة، وبالتالي مفهومًا مختلفًا جدًا عن التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
حتى تدلل على الطرق التي، وفقًا لها، تحتاج كل طبقة صاعدة إلى مثقفيها العضويين، تنفق كريهن الفصل الخامس مستعرضة صعود آدم سميث، الذي لا يزال كتابه ثروة الأمم (The Wealth of Nations) واحدًا من النصوص المركزية لأرثوذكسية السوق الحرة. إن سميث، كما تجادل، ينبغي أن يُنظَر إليه باعتباره مثقفًا عضويًا برجوازيًا. فمع انحلال الإقطاع وصعود الرأسمالية، ظهرت البرجوازية كطبقة جديدة من شأنها أن تحتاج إلى المثقفين العضويين لتشكيل كتلتها التاريخية (historical bloc). وقد كان سميث واحدًا من هؤلاء المثقفين، وكان عمله أول مُمفصِلٍ لجوهر الرأسمالية (ص. 83).
يبدأ الفصل بمَوْقَعة سميث تاريخيًا، اتباعًا لدعوة غرامشي إلى التأكيد دائمًا على السياق الذي يظهر فيه المثقفون الفرديون. التنوير الاسكتلندي في القرن الثامن عشر، وظهور المعرفة العلمية، ونمو الاقتصاد كعلم، كلها أمور أدت إلى صعود المثقف باعتباره شخصًا على صلة بالبرجوازية. «نمط جديد من المعرفة ونمط جديد من العارفين، ونمط جديد من العلاقة بين العارف وموضوع المعرفة» (ص. 91). كان هذا إلى حد كبير نتيجة للرأسمالية وصعود الاقتصاد كتخصص (discipline).
على هذا المنوال، تخوض كريهن في الكثير من التفاصيل كي تبين لنا كيف حدثت هذه التحولات التاريخية، فضلًا عن ما كانت عليه أفكار سميث وكيف تم استقبالها. مع ذلك، هناك ما هو أقل حول الطرق الملموسة التي استخدمَت من خلالها هذه الطبقة البرجوازية الجديدة أفكار سميث في وضع البنى الجديدة التي لا تزال تسيطر على العالم إلى اليوم. كان توضيح هذه النقطة ليجعل الربط أكثر صراحة بين ما يُنتَج من قِبل المثقفين العضويين وكيف تصبح هذه الأفكار قوى مادية عند استخدامها من قبل الطبقة الحاكمة لتشكيل الهيمنة.
يأخذنا الفصل السادس إلى الفترة المعاصرة مع دراسة حالة لحزب الشاي في الولايات المتحدة. تقتفي كريهن أثر صعود حركة حزب الشاي، وتربطه بعناصر من الطبقة الرأسمالية الأمريكية؛ عَنيتُ «الشركات الكبرى». يمكن ربط انتشار شعبية حزب الشاي بشعور كثير من الأمريكيين أن طريقتهم في الحياة آخذة في التدني. على عكس «احتلوا وول ستريت» مثلًا، رأى حزب الشاي هذا التدني بوصفه نتيجة لتدخل الحكومة في الاقتصاد. معدلات الضرائب المرتفعة التي تواجهها الشركات والأعمال التجارية الكبيرة نُظِر إليها على أنها أساسية في هذا الأمر. يقدم حزب الشاي دراسة حالة مثيرة للاهتمام لأنه على الرغم من طرحه كحركة مضادة للنخبة الحاكمة في أمريكا الشمالية، أو سرديتها، أو حسها المشترك، يعزز، في نواح كثيرة، المبادئ الرئيسة للكتلة التاريخية الأمريكية الرأسمالية. والحلم الأمريكي يدعم هذه السرديات؛ فكرة تقوم على افتراضات الرأسمالية عن التقدم الفردي وحرية السوق – خاصة من تدخل الحكومة.
أجادل أن حزب الشاي يمكن مفهمته، على نحو أفضل، كخلاف داخل الكتلة التاريخية نفسها، عوضًا عن كونه محاولة هيمنة مضادة. وفي واقع الأمر، يمكن للانقسامات البنيوية داخل الكتل التاريخية أن تكون في أهمية الهجمات على الكتل التاريخية من قِبل جماعات غير مشمولة في داخلها. لا يطرح حزب الشاي سردية جديدة من شأنها أن تحل محل السردية الرأسمالية المهيمنة؛ السردية التي تعززت بشكل كبير بعد رونالد ريغان. فكما تؤكد كريهن، لا يمكن التقليل من شأن رئاسة ريغان وما وفرته من امتداد عزز الرأسمالية النيوليبرالية. ما يدعو له حزب الشاي من شأنه أن يؤدي إلى تحول في الوضع النيوليبرالي للتراكم، لكنه لن يحل محله بالضرورة.
«احتلوا وول ستريت»، موضوع الفصل السابع، تختلف عن حزب الشاي في هذا الصدد؛ يبدو أنهم وضعوا سردية تهدف إلى حل محل السردية النيوليبرالية. تقول كريهن إن حركة احتلوا كانت قادرة على تحديد موقع «الحس الجيد» داخل المدار الأوسع للحس المشترك الذي يسود المناقشات المتعلقة باللامساواة الاقتصادية في الولايات المتحدة. وهي تجادل أن حركة احتلوا قد دفعت بموضوع اللامساواة إلى صدارة النقاش السياسي في الولايات المتحدة بانتقاد الرأسمالية كنظام. وعلى عكس حزب الشاي، لم يكن لدى الحركة صلات بمليارديرات أو أعضاء مؤثرين في النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة. كانت حركة احتلوا لحظة «بدأت فيها شظايا مختلفة من المعرفة التابعة في التبلور كسردية سياسية متماسكة» (ص. 153).
تكونت الحركة أساسًا من الطبقة الوسطى البيضاء التي شعرت أنها أسوأ حالًا مقارنة بالجيل السابق عليها. وكما تلاحظ كريهن، لم يشهد الأمريكيون غير البيض وغير أبناء الطبقة الوسطى أبدًا «الحلم الأمريكي». من المثير للاهتمام أن تدني دعم الطبقة الوسطى البيضاء قد يشير إلى وجود انخفاض أو صدع في هيمنة كتلة أمريكا الشمالية التاريخية؛ ففي حين لم يكن الملوَّنون والطبقات العاملة قط جزءًا من الكتلة، لم يكن هذا هو الحال مع البيض من الطبقة الوسطى، الذين شكلوا جزءًا أساسيًا من مشروع الهيمنة الأمريكية وروجوا دائمًا السردية، أو الحس المشترك، للحلم الأميركي. من ثم، إذا كانت حركة احتلوا تشير إلى أن أجزاءً من هذه الطبقة تتجه الآن ضد الكتلة التاريخية، فإنها، إذن، قد تشير إلى أن هيمنة الكتلة في موضع تساؤل.
تستخدم كريهن «حرب المواقع (war of position)» عند غرامشي كمفهوم يمكن من خلاله تحليل حركة احتلوا وول ستريت. حرب المواقع، خلافًا لحرب المناورة (war of manoeuvre)، تركز على التأثير شيئًا فشيئًا من أجل خلق هيمنة مضادة. إنها صراع أفكار، عوضًا عن صراع القوة. على الرغم من أن هذا الفصل لا يركز على المثقفين العضويين، فإنه يجادل بشكل مقنع أن حركة احتلوا يمكن أن ينظر إليها باعتبارها حرب مواقع لأنها أثرت في سردية الولايات المتحدة حول اللامساواة. ولأن احتلوا حركة واسعة، من الصعب معرفة ما إذا كان الحس المشترك بها يمثل هجومًا مباشرًا على الرأسمالية، أو دعوة إلى «نوع مختلف من الرأسمالية» – نسخة أكثر «إنسانية» وليونة.
إذا كان الافتراض الأخير هو الصحيح، كما هو الحال مع حزب الشاي، فليس لدى الحركة سردية هيمنة مضادة يمكن لها أن تحل محل السردية المهيمنة الحالية. وفي قلب هذا يأتي السؤال بشأن إذا ما كانت حركة احتلوا تريد إصلاحًا للرأسمالية، مثل حزب الشاي، أم استبدالًا لها. إن مبعث الاهتمام في حالتَي الدراسة هو المقارنة مع مثيل تاريخي لسردية هيمنة مضادة تحل محل سردية هيمنة قائمة. وقد كان لحالة ملموسة أن توفر طباقًا مفيدًا لهاتين الحركتين، اللتين، بسبب الحاصل مؤخرًا، يصعب تصنيفهما.
قارئةً الحالات التي تركز عليها كريهن، وجدت نفسي أتساءل في أي وضعية يمكن تنسيب بقية العالم مع قصة الكتلة التاريخية في الولايات المتحدة. كيف بنيت الكتلة التاريخية للولايات المتحدة على الإمبريالية الأمريكية وانتشار إجماع واشنطن في بقية أنحاء العالم؟ كيف أن الكتلة التاريخية للولايات المتحدة لا تعتمد فقط على سرديات حول الحلم الأمريكي، ولكن أيضًا على سرديات عرقية بشدة تسود الحس الأمريكي المشترك بين الجماعتين، الحاكمة والتابعة؟ كيف يمكن أن تضمّن هذه السرديات في المناقشات المتعلقة بحزب الشاي وحركة احتلوا؟ وأكثر من ذلك، ما هو الدور الخاص الذي لعبه الملونين في الرأسمالية الأمريكية؟ ماذا يعني الحلم الأمريكي لأولئك الذين تم بناؤه على ظهورهم، وإلى أي مدى تنشط حركة احتلوا على أيدي أولئك الذين استفادوا دائمًا من الحلم الأمريكي وليس أولئك الذين لم يكونوا أبدًا جزءًا من ذلك الحلم؟ لقد تركّز عمل غرامشي كثيرًا على إيطاليا والطبقات الحاكمة والتابعة الإيطالية.
وعلى مدى العقود القليلة الماضية فقط نرى صعود العمل النيوغرامشي الذي ينظُر في الكتل التاريخية العابرة للحدود والطرق التي تستمر في صميمها الرأسمالية في وضع شروط الرأسمالية في الأطراف. إن التحليل ودراسات الحالة المطروحة من قِبل كريهن منيرة في تفاصيلها ومتبصرة، وستعزّز فقط عن طريق موقعة هذه الحالات داخل النظام الرأسمالي العالمي، لا سيما في ضوء دور الولايات المتحدة كقوة إمبريالية مركزية في عالم يوم.
يُذكَر أنطونيو غرامشي بين المثقفين بالطرق التي ارتكزت عليها كتاباته باستمرار، وعدم إفراطه في توظيف المصطلحات المعقدة التي غالبًا ما تُلغِز طريقة عمل الرأسمالية كنظام للهيمنة. والجانب الأكثر جلبًا للرضا من كتاب كريهن هو ذلك الانتماء إلى نفس النوعية من الكتابة؛ فهي لا تُلغِز أو تنخرط في المناقشات النظرية المجردة التي يمكن أن تميز علم الاقتصاد السياسي الماركسي أو العام. عوضًا عن ذلك، تشتبك مع غرامشي بالطريق التي كان ليشتبك بها غرامشي معنا لو كان لا يزال على قيد الحياة اليوم. إن هدفها هو نشر هذه الأفكار، وإظهار مدى ملاءمة بقائها. ومما لا شك فيه أن هذا العمل أصبح جزءًا أساسيًا من الأرشيف الغرامشي، وأعلمُ أنني سأعود إليه ضمن محاولاتي فهم اللحظة التي نعيش فيها اليوم.
- Burnham P (1991) Neo-Gramscian hegemony and the international order. Capital & Class 15(3): 73-92.
- . Ekers M, Hart G, Kipfer S and Loftus A (eds) (2012) Gramsci: Space, Nature, Politics. Oxford: Wiley-Blackwe
- Overbeek H (2004) Transnational class formation and concepts of control: Towards a genealogy of the Amsterdam Project in international political economy. Journal of International Relations and Development 7(2):113-141.
- Werner M (2015) Global Displacements: The Making of Uneven Development in the Caribbean. Oxford: Wiley-Blackwell.