العثمانيون في أوروبا: من قرون القوة إلى أحقاب الفوضى
تميَّز عهد «عثمان بن أرطغرل» بتأسيس الدولة العثمانية كقوة آسيوية، وفي عهد ابنه «أورخان» عبروا إلى أوروبا. وفي ظل «مراد الأول» احتلوا «أدرنة»؛ وأصبحت الإمبراطورية الأوروبية الشرقية مُطَوَّقة ومُحاصرة، وأمست صربيا تدفع الجزية.
تمكَّن السلطان «بايزيد» من هزيمة الحملة الصليبية الكبيرة القادمة من الغرب في نيقوبوليس. ثم أعاد «محمد الأول» –الذي يعتبره البعض المُؤسس الثاني للدولة- الهيمنة العثمانية، بعد أن أطاح بها تيمورلنك. ثم أخذ السلطان «مراد» سالونيك، وأطاح بالملك «فلاديسلاف» في فارنا. وما لبث أن ظفر «محمد الفاتح» بمدينة القياصرة (القسطنطينية)، ومنح الهيمنة العثمانية أقصى مدى دائم لها، ونظمها كذلك كما فتحها.
ثم في السنوات القليلة التي قضاها سليم في السلطة يتضاعف حجم الأملاك العثمانية تقريباً، ويُتَوَّج سيدها سليم بلقب ذي قداسة وهو «الخليفة»، ويُطلَق عليه أيضاً «أمير المؤمنين». وفي عهد «سليمان القانوني»، تصل الهيمنة العثمانية إلى أعلى نقاطها.
ويُفرِّق المؤرخ البريطاني الكبير «إدوارد أوغسطس فريمان» في كتابه «الهيمنة العثمانية في أوروبا» بين حكام الدولة العثمانية في الـ 200 عام الأولى، وبين منْ خلفوهم في القرنين التاليين. فبعد زمن «سليمان القانوني» أصبحت الهيمنة العثمانية تنحدر بشكل مطرد، وتهاوت من ناحيتين: تآكل الحدود وتوقف الفتوحات.
وعلى الرغم من أنها كانت مستمرة في ضم بعض الأقاليم، في بعض الأحيان، إلا أن الحدود العثمانية تراجعت بشكل عام. وبعد سليمان، لم تحدث أي فتوحات هامة دائمة، باستثناء جزيرتي قبرص وكريت.
وفي الشمال تجاه المجر، ثم في أوقات لاحقة تجاه روسيا؛ عادت الحدود إلى الوراء بشكل عام؛ على الرغم من وجود تقلبات كبيرة وكسب واستعادة بعض الأراضي. وأخيراً انفصلت أجزاء كبيرة من الأراضي العثمانية عنها وشكَّلت دولاً منفصلة، سواء كانت تدفع لها الجزية أو مستقلة كلياً.
ويقدم فريمان تحديده لأسباب التدهور قائلاً:
كان المفترض أن ضعف السلاطين وتناقص قوتهم والاضمحلال العام للإمبراطورية سيصب بشكل مباشر في صالح الأمم الخاضعة للدولة العثمانية في أوروبا، لكن ما حدث هو أن هذا الضعف رافقه تزايد في قوة الولاة المحليين وقدرتهم على الظلم. وأصبحت أغلال عبودية الرعايا الأوروبيين أثقل من قدرتهم على الاحتمال. وهذا الوضع يدفع المؤلف للاعتراف بحقيقة هامة؛ هي أن السلاطين الأوائل لم يكونوا مُحبين للظلم أو الاضطهاد، ويُقرِّر ذلك بقوله:
هذا التغير رافقه تحول كبير في السياسة العثمانية القديمة وتخليها عن أحد أهم أسباب القوة، وهو قوات الانكشارية. فخلال القرن السابع عشر تم إلغاء تدريجي لتجنيد الأطفال قسراً في تلك القوات، وفَقَدَ الانكشاريون ما يتدفق إليهم كل عام من دماء جديدة، ولم يعودوا كما كانوا في السابق، حيث تبدلت الأدوار تماماً بين الأتراك ودول أوروبا في المسائل العسكرية. فقد قاد «محمد الفاتح» جيوشاً لم تستطع أي قوة أوروبية أن تصمد أمامها في الميدان، لكن في القرنين التاليين لذلك العصر، تحسَّن النظام العسكري لكل القوى الأوروبية، في الوقت الذي تراجع فيه نظام الأتراك، حيث فقدوا انضباطهم القديم، ولم يتعلموا انضباط الجيوش الأوروبية الحديث. وهكذا كان الجزء الأخير من القرن السابع عشر هو وقت الخسارة العامة للهيمنة العثمانية. كان الأتراك في حالة حرب مع جميع جيرانهم، وخسروا الأرض في غالب المواقع.
كل ما سبق من أحداث كان يتعلق بسببين مهمين للانهيار، وهما:
- التحولات والفوضى الداخلية في الدولة العثمانية.
- الحروب الخارجية المتعددة وما رافقها من استنزاف لقدرات الإمبراطورية الكبيرة.
لكن يتطرق الفصل السادس إلى ثالثة الأثافي في طرد العثمانيين من أوروبا وهو: «الانتفاضات داخل الأراضي المحتلة ضد السلطة العثمانية».
قد يذهب تفكير الكثيرين إلى أن ثورات البلاد الخاضعة للعثمانيين كان سببها هو دعم القوى الأوروبية الغربية لها، لكن الحقيقة التي يُقرها المؤلف ويؤكد عليها بشدة هي أن الباعث الأصلي لتلك الانتفاضات؛ هو الخيانة والخذلان الذي لاقته شعوب تلك الدول على يد أوروبا الغربية. فقد كانت الحروب المتعددة والكثيرة بين الدول العثمانية من جهة وأوروبا الغربية وروسيا من جهة أخرى؛ وما رافقها من سياسات ودبلوماسيات وحوارات ومعاهدات وغيرها، قد أدت إلى تغيرات دائمة في موازين واعتبارات المصالح الخاصة بأوروبا الغربية من وجهة نظر حكامها.
كانت النتيجة المباشرة لهذه التغيرات هي إجراء تنازلات عن بعض المناطق والأقاليم للعثمانيين -بعد أن انتزعتها الجيوش الأوروبية بالقوة– مقابل تنازل العثمانيين عن مناطق أخرى مقابلها. والمهم أن كل تلك المفاوضات والتبادلات كانت تجري بمعزل عن أهل الأرض، الذين يجدون أنفسهم يوماً تحت حكم العثمانيين، ويوماً آخر تحت حكم رفاقهم الأوروبيين، ثم يفاجئون بعودتهم ثانية إلى ظل الحكم العثماني. ويستفيض الكتاب في ذكر هذه الوقائع بالتفصيل.
النقطة الأشد على أهل البلاد الخاضعة كانت أنهم وبعد أن ذاقوا طعم الحرية من العثمانيين، عادوا إليهم وقد تفشت الفوضى وزالت سلطة السلاطين. وأصبحت البلاد الخاضعة أُلعوبة في يد القادة العسكريين العثمانيين المحليين، وزعماء الانكشارية الخارجين على الدولة العثمانية (يسميهم المؤلف بالعصابات)، حيث انتشرت جيوشهم التي كانت تستمتع بتدمير ونهب البلاد الخاضعة للإمبراطورية.
والطبيعي في وسط كل ذلك أن يلجأ أهل البلاد أو بعض منهم إلى محاولة انتزاع استقلالهم بأيديهم، وكان من حظهم أن يتوافق ذلك مع رغبة بعض السلاطين؛ في السماح لشعوب تلك الأراضي بحمل السلاح في وجه المتمردين المسلمين المنشقين على السلطان. كان الدفاع عن النفس قد توافق -دون اتفاق- مع الدفاع عن السلطان.
هكذا أصبحت الدول الخاضعة تكتسب الشجاعة على المواجهة وتتعلم استخدام الأسلحة. وفي مثل هذه الأوضاع أصبح حكم السلطان بالفعل هو أقل الشرور؛ لذلك كان من المعتاد أحياناً وجود تحالفٍ بين السلطان العثماني والشعب المسيحي؛ ضد السادة المحليين المسلمين الظلمة.
وكان هذا هو الحال في صربيا؛ فالصرب الواقعين تحت نير المضطهدين المحليين استصرخوا السلطان طلبًا للمساعدة، وكان السلطان لفترة من الوقت يميل إلى تفضيل استغلال جهودهم ضد ضباطه المتمردين عليه. لكن الحرب ضد الظلمة والمستبدين المحليين تطورت إلى حرب ضد الزعيم الكبير (السلطان نفسه). فرغم أن نير السلطان كان أخف وطأة من ظلم الطاغية المحلي؛ لكن الناس الذين أزاحوا عن أعناقهم نيراً ثقيلاً؛ لن يقبلوا بأي نير آخر مهما كان خفيفاً.
ويُلخِّص فريمان تلك العملية بقوله:
الأهم أن المنتفضين في البداية -حسب تأكيد المؤلف- لم يتلقوا أي مساعدة من الحكومات الأوروبية الغربية، سواء الروسية أو أي دولة أخرى. كانت معظم القوى ضدهم؛ ولم يكن معهم أحد سوى أنفسهم. حتى أخذت الأمور مع الوقت مساراً جعل الحكام الأوروبيين لا يطيقون تحمل خزي النأي عنها وعدم التدخل فيها، وتدخلت القوى الأوروبية وقضت على ما تبقى من الهيمنة العثمانية في أوروبا الشرقية.