البريد العثماني: طرق المواصلات ووسائل الاتصال
هل كانت هناك منظومة بريدية لدى الدولة العثمانية؟، كيف تطور البريد العثماني من النمط التقليدي إلى النمط الحديث؟، ما هي طرق المواصلات التي اعتمد عيها آل عثمان في إرسال بريدهم ؟ وما طُرق التواصل ووسائل الاتصال التي اعتمدوها في ذلك؟
مجموعة من الأسئلة يطرحها موضوع البريد العثماني، كل هذه الأسئلة وغيرها سنُحاول الإجابة عنها، لكن قبل ذلك يحسُن بنا أولاً تحديد مفهوم البريد.
في مفهوم البريد
لقد اختلف الدارسون في تحديد مفهوم البريد فمنهم من رده إلى أصول عربية، ومنهم من قال بالأصول الفارسية، فالمدافعون عن الأصول العربية للكلمة يقولون أن كلمة بريد مشتقة من المصدر برد أو برد بمعنى أرسل البريد «وقيل من برد ثبت لأنه يأتي بما تستقر عليه الأخبار»[1]، ويدعم هذا المعنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم «لا تقصر الصلاة في أقل من أربعة أبرد» وتعني هنا مسافة معلومة بين مركزي بريد قدرها الفقهاء وعلماء المسالك بأربعة فراسخ أو اثني عشر ميلا. أما دعاة الأصل الفارسي فيقولون إن أصل الكلمة بريد «برد دم» أي مقصوص الذنب، وذلك لأن من عادات الفُرس أنهم إذا أقاموا بغلاً في البريد عمدوا إلى قص ذنبه ليكون علامة على أنه من بغال البريد المحذوفة الذنب [2]، إلى جانب هؤلاء هناك من قال إن لفظ بريد تحريف لكلمة بردي، ومن قال بالأصل الآتيني Verdus أي الدابة التي يمتطيها المكلف بنقل مكاتَبة من مكان لآخر.
البريد العثماني من القديم إلى الحديث
كانت الدولة العثمانية في بداياتها تعتمد على بريد تقليدي قديم يعتمد على الجمال في نقل البريد في الأحوال العادية، إلى جانب ذلك استعملوا البريد السريع «سعاة التتر» الذين اختصوا في المسافات الطويلة والبعيدة واستعملوا الخيل والهجن في نقل البريد وإيصال الرسائل من وإلى [3]. وكان هؤلاء الموظفون يتقاضوْن مُرتباتهم من خزينة الإمبراطورية، وقد اعتنت الدولة العثمانية بطرق البريد فنثرت المنازل والخانات [4] على الطرق البريدية لتوفير سبل الراحة لموظفي البريد وكذا لتزويد الخيول والهجن بالعلف والماء ولتغييرها إذا دعت الضرورة لذلك، هذا وقد كان المشرفون على البريد يحددون لسعاة التتر أوقاتًا محددة مضبوطة للانطلاق من مكان والوصول إلى مكان آخر ولا يجوز تجاوز الوقت المحدد وفي المقابل يمنح الساعي مكافآت فوق راتبه المعتاد.
وكنتيجة للتطور الذي عرفته مؤسسة البريد في الدول المتقدمة عمِدت الإمبراطورية العثمانية إلى تحديث بريدها، ففي عام 1869م وضعت نظامًا لتنظيم البريد ويتكون هذا النظام الجديد من ثمانية فصول مكونة من 67 مادة تضمنت كيفية استخدام البريد وطرق إرساله ذهابًا وإيابًا، وحددت أجور الموظفين وقيمة الطوابع البريدية والدفعة المستوفاة، «وحددت فروع مؤسسة البريد محليًا في بلاد الأناضول وقسمت مديرياته وفروعه على الأقاليم المستعمرة»[5]. وفي عام 1878 استعملت الإمبراطورية على أعقاب المؤتمر البريدي الدولي السكك الحديدية كوسيلة لنقل البريد، ففي سنة 1895 تم إنشاء خط سككي يربط بين دمشق وبيروت وخط يربط بين دمشق وحوران المزريب الذي أعد عام 1894 ويصل طوله إلى 187 كم، وكذلك بين حماة و حلب، وآخر بين حمص وطرابلس، ونفس الأمر بالنسبة لبلاد الحجاز حيث تم ربط كل من دمشق والمدينة المنورة بخط سككي يبلغ طوله 1307 كم، وغير ذلك من الخطوط الحديدية التي وظفت في نقل الرزم البريدية؛ الشيء الذي وفر الجهد والمال ومكن الجودة في الخدمات البريدية.
وبعد ظهور التليغراف الكهربائي اتضح للإمبراطورية العثمانية مدى نجاعته في نقل الرسائل وبشكل سريع ومضبوط. ويعود أول تلغراف برقي أنشئ على الأراضي العثمانية إلى عام 1854م، حيث تم إنشاء شبكة برقية بالسودان ووصل طولها في تلك السنة إلى 2000 كم [6]، وفي سنة 1855م تم إنشاء خط برقي ينطلق من إستانبول ويتفرع عند أدرنة إلى فرعين: الأول يمتد من على نيش وصوفيا ثم فله، ليصل إلى بلغراد ، والثاني يتفرع مع خط وَانا، شُمنى [7]، ليتم بعدها ربط تركيا وحلب سنة 1862م ثم دمشق 1868م، ومن ثم تشبيك مدن سوريا به، ونفس الأمر بالنسبة للعراق التي أنشئ بها سنة 1860م، ليتم بعدها الربط بين بغداد والبصرة وجنوبًا حتى خانقين بالجنوب والشمال الشرقي، كما تم ربط العراق مع إيران شرقًا وشمال العراق مع الموصل وتركيا وأحدِث نمط يصل بين ميناء الفاو العراقي والهند من طرف إنجلترا [8]. أما منطقة الحجاز فقد تم توصيل المدينة المنورة بخط البرق عام 1900م والذي تم استقدامه من الجنوب بمحاذاة سكة القطار، ونفس الأمر بالنسبة لكل من جبل لبنان وفلسطين.
أخيرًا، وبالنظر إلى النتائج الإيجابية التي تُحدثها الوسائل الحديثة في الاتصال والمراسلات، فقد انفتحت الإمبراطورية العثمانية على مختلف هذه الأمور الجديدة التي من شأنها أن تُحسن خدمات مؤسسة البريد على الخصوص، فإلى جانب استحداثها لشبكة خطوط التلغراف أو البرق كما أشرنا، فقد استعملت الهاتف اليدوي في المراسلات البريدية، وفي هذا الصدد تعتبر مصر أول بلد عربي أدخل إليه الهاتف المحمول وذلك عام 1881م، ليدخل بعدها إلى سوريا سنة 1908م. وتجدر الإشارة كذلك إلى أنه كان في البدء منحصرًا على الدائرة الملكية والعسكرية لتتوسع يعدها أسلاكه شاملةً المنازل وحوانيت التجار؛ الشيء الذي أحدث نقلة نوعية في مؤسسة البريد العثماني.
[1] – فؤاد كنج أبو راس، البريد في الحضارة العربية والإسلامية، دار نور حورن، دمشق، ط&، 2015، ص7.[2]– عبد الفتاح رجب حمد، نظام البريد عند العرب والمسلمين خلال العصر الإسلامي الوسيط، جامعة عمر المختار كلية الآداب قسم التاريخ، ص1.[3] اكمال الدين احسان اوغلى، الدولة العثمانية تاريخ وحضارة.[4]– سعى العثمانيون إلى التكثيف في بناء الخانات والمنازل التي نشروها في مختلف طرق البريد، مثلاً في الشام تم إعداد خانة حسية، وسجد المضيق و خان العسل، ومعرة النعمان الأول،وخان سعسع، ثم خان شيخون، …إلخ، فؤاد أبو راس، م س، ص179، 189 [5]– نفسه، ص184.[6]– نفسه، ص187.[7]– اكمال الدين إحسان أوغلى، م س ، ص718.[8]– فؤاد كنج أبو راس، ص187.