الفقيه «العثماني» وقاعدة ارتكاب أخف الضررين
تشكلت أخيرًا، الحكومة المغربية بعد حوالي 6 أشهر من البلوكاج (التعطيل)، برئاسة الدكتور سعد الدين العثماني رئيس المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية، بعد تكليفه من طرف العاهل المغربي محمد السادس، خلفًا لزميله في الحزب عبد الإله بن كيران، الأمين العام لحزب المصباح، بعد فشله في تكوين الأغلبية.
نجح الطبيب النفساني سعد الدين العثماني، خلال 10 أيام من تكليفه، فيما عجز عنه أستاذ الفيزياء عبد الإله بن كيران، طيلة خمسة أشهر من المشاورات والمفاوضات مع عزيز أخنوش رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، الذي يتزعم تحالفًا حزبيًا يجمع بالإضافة إلى التجمع، كلاً من الاتحاد الدستوري والحركة الشعبية والاتحاد الاشتراكي، بتنازله عن كل الشروط التي كان يتمسك بها بن كيران، وحزب العدالة والتنمية في صفة أمانته العامة طيلة تلك المدة.
تنازلات رآها البعض من أعضاء الحزب والمحللين السياسيين وكذا المتتبعين للأحداث السياسية انبطاحًا يبشر ببداية الانهيار. في المقابل، يرى أبرز القيادات أنه تنازل تكتيكي لإعادة ترتيب الأوراق وتنظيم الصفوف للفوز في الصراع، معتبرين أن الهزيمة في المعركة لا تعني خسارة الحرب.
ما لا يدرك كله لا يترك جله
تعامل السيد العثماني بمنطق براغماتي مع الأزمة السياسية التي عرفها المغرب، إدراكًا منه بضرورة تقديم تنازلات لإعادة الحياة إلى المفاوضات مع عزيز أخنوش حتى تتشكل الحكومة.
فالدكتور كان أمام خيارين؛ إما الانبطاح، أو الذهاب إلى المعارضة، فاختار الفقيه السوسي تكوين الأغلبية عملاً بالقاعدة الفقهية القائلة «ما لا يدرك كله لا يترك جله»، ففشل الأمين العام في تشكيل حكومة منسجمة، وفق المقتضيات الدستورية، وتحترم نتائج الانتخابات التشريعية السابع من أكتوبر 2016.
والمنهجية الديمقراطية، لا يعني تحدي القصر، بالاستمرار في نهج نفس أسلوب عبد الإله بن كيران، والتشبث بكافة شروطه، والتأكيد على أن أخنوش ومن خلفه هم المسؤولون عن الأزمة الحكومية، لا بن كيران خلافًا لما أشار إليه كل من بلاغ الديوان الملكي، القاضي بإعفاء الأمين العام وتعيين الطبيب النفساني خلفًا له.
ومضمون الرسالة التي بعثها الملك مع العثماني إلى أعضاء المجلس الوطني، بكونه لا زال يريد العمل مع الحزب؛ أي إما تنازل أخنوش وجماعته أو استمرار البلوكاج الذهاب إلى المعارضة، مفوتًا إمكانية المشاركة في بلورة السياسات العمومية، وفرصة التواجد ضمن دوائر اتخاذ القرار، ومانحًا للتحكم في صفة الأحزاب الإدارية فرصة العمل بأريحية وحرية.
وأيضًا تضييع فرصة استثمار نتائج عمل الحكومة السابقة، التي ستظهر في هذه الولاية لكسب مزيد من الأصوات في الانتخابات التشريعية المقبلة، فالاصطفاف في المعارضة لن يفيد الحزب بقدر ما سيضره؛ لأن دور الحزب السياسي السعي للممارسة السلطة للمشاركة في صناعة السياسات واتخاذ القرارات، وهامش الفعل في المعارضة محدود جدًا.
كما أن لولوج الحكومة من جديد سيحتاج الحزب خمس سنوات على أقل تقدير، وعندما يلجها سيجد نفس العراقيل والعوائق التي يجدها الآن ووجدها سابقًا، ما يعني إهدار زمن سياسي مهم والاستمرار في دوران داخل حلقة مفرغة.
خسارة معركة لا تعني خسارة الحرب
رغم كل التنازلات التي قدمها الحزب في سبيل استمراره في رئاسة الحكومة، لا زال بإمكانه رد الصاع إلى خصومه صاعين.
لأن خسارة هذه المعركة الآن لا تعني خسارة الحرب ضد الفساد والاستبداد، وذلك باستغلال سنوات رئاسته للحكومة في لملمة الأوراق التي بعثرت جراء هذه الضربات الموجعة التي تعرض لها الحزب، وتنظيم الصفوف وإعادة إصلاح جسور الثقة مع قواعده.
وكسب المزيد من المتعاطفين من خلال استثمار ما تمنحه السلطة لمساعدة أعضاء الحزبِ؛ رؤساء المجالس الجهوية ورؤساء المجالس المحلية، إضافة إلى استغلال القدرات، والإمكانيات التواصلية للأمين العام عبد الإله بن كيران الذي سيكون قادرًا على التعبير بأريحية أكبر بعد تحرره من مسؤولية الحكومة التي تتطلب قدرًا معينًا من التحفظ.
إن نجاح العدالة و التنمية في شخص رئيس الحكومة الجديد في تجاوز هذه الضربات المتتالية عن طريق الاستمرار بالمشاركة في وضع السياسات، واتخاذ القرارات ستقوي مناعة الحزب وستزيد من قدرة تحمله ومرونته في التعامل مع الأحداث والأزمات السياسية، واستهدافه بهذه الشراسة لأجل تدجينه واحتوائه سيؤدي إلى تمتين روابط التضامن بين أعضاء و قيادات الحزب.
إن قيادة الحكومة سترفع من خبرة الحزب في الجانب التدبيري والتسييري للشؤون العامة، وستتيح له إمكانية اتخاذ تدابير استباقية لتجاوز كل المحاولات المقبلة، لتدجينه والتحكم في استقلالية قراره، مستغلاً نقاط قوة وضعف خصومه، بالاطلاع على ما يجري في الكواليس، وما يدبر ضده داخل الغرف المغلقة ووراء الأبواب المقفلة.
والتي سيحرص خلال هذه الولاية الحكومية على معرفتها إدراكًا منه بكونهم لا يتعاملون معه لوطنيته، أو سواد عيون قياداته، إنما لحاجتهم لخدماته حتى يتجاوزوا الوضعية الصعبة التي يعيشها البلد.
على الحزب الآن العمل ثم العمل، وعدم الالتفات إلى ما يقال في الجرائد وشبكات التواصل الاجتماعي، وما يحاول بعض خصومهم تسويقه على أن البيت الداخلي بدأ يتداعى؛ لأن معركة الإصلاح ومحاربة الفساد والظلم الاجتماعي تحتاج إلى نفس طويل.