مسرحية عطيل: الجنرال المغربي بين شكسبير وأورسن ويلز
في ظل العبثية التي تحيط بالإنسان منذ بداية الزمن، واللا معنى الذي يُثقِل كاهن الجنس البشري، يخرج من جوف العدم رجال يعطون لوجودنا رونقًا وأُبّهة، بحسهم المرهف وقلمهم الفاحص المُدقِّق، يكشفون ظلمة الليل الجاثمة على صدورنا، وضوء النهار الذي يحدق إلى معانيه متسائلاً، يسبرون أغوار النفس البشرية باحثين عن لغز الأفراح والأتراح، عن حقيقة ما تراه العين وتسمعه الأذن. أنهار وينابيع تتدفق تروي العطشى من صدر الوجود والنجوم الحالمة. رجال ونساء كالبحار الممتدة ملء البصر تحوي أسرارًا وعجائب. التأمل في أرواح هؤلاء كإدامة النظر في جوف البحر. ولنا في شكسبير وأورسن ويلز خير مثال وأصدق مقام.
عطيل: موري البندقية
إن مسرحية عطيل تسلِّط الضوء عن حكاية حب صاخب لا يعرف الاستكانة، حكاية البراءة الصادقة المفعمة بالرقة والغيرة، حكاية البحث الدؤوب عن الحقيقة في عالم تاهت فيه كل الحقائق، عالم سلطانه الكذب والخديعة.
هي قصة عطيل القائد والجنرال الشجاع الذي أوقعه القدر في حب «ديسدمونا»، علاقة كالحلم بين موري أسود اللون وفتاة إيطالية بيضاء كالثلج، في عصر ينظر إلى كل ما ليس أوروبي أنه مرادف للبربرية والهمجية، هذه الفكرة السائدة لدى الجموع ستجذب حتمًا الغيرة والحقد تجاه هذا الرباط المخزي حسب أبناء البندقية، وهذا ما دفع العاشقين أن يتزوجا سرًا.
عندما علم «برابانسيو» والد ديسدمونا الخبر عن طريق «ياغو» وهو حامل علم عطيل والحاقد البغيض الذي سيدفع لاحقًا عطيل إلى المهلكة، حيث يذهب مسرعًا إلى دوق البندقية ليشتكي عطيل، مُتهمًا إياه أنه أوقع ابنته في حبه مستخدمًا السحر. لكن بطلنا الموري سيقنع الجميع من خلال استدعاء ديسدمونا على أنها أحبته ملء إرادتها، ليخرج الأب من المجمع الرفيع ثائرًا مزمجرًا.
مسرحية عطيل هي كذلك قصة حرب: حرب البندقية ضد الأتراك، حرب الصراع الأبدي بين الشرق والغرب، هي كذلك حرب الشخص مع ذاته ومع الآخر خاصة عندما يكون الآخر هو المختلف البعيد، الغريب الذي يشعل في النفس رهاب الأجانب.
بعد طي قضية الزواج، تم تعيين عطيل من طرف مجلس دوق البندقية، ليقوم بمهمة حماية موقع عسكري بقبرص يحاول الأتراك السيطرة عليه، فيغادر وزوجته معه. ياغو حامل العلم والنبيل «رودريغو»، الذي يعشق ديسدمونا منذ سنين قبل ظهور عطيل في المشهد، يرسمان خطة للإيقاع بالأخير. مؤامرة سينسج حبالها ياغو بخيط الشيطان المستعد دائمًا للإيقاع بخصومه. إنهم يريدون إزالة عطيل وأن يحلوا مكانه قائدًا وزوجًا.
يحاول ياغو أن يقنع عطيل أن ديدمونا في علاقة حب سرية مع «كاسيو» مساعده وأمينه. وبعد برهة يستدعي ياغو الضحية كاسيو وهو يتجول في فناء ليجاذبه أطراف الحديث عن امرأة مومس، يسمع عطيل المختبئ في ردهة قرب المكان، بعض الحديث الذي يترك لديه الانطباع بأنهم يتحدثون عن زوجته، يبدأ في تصديق ياغو وتشتعل نار الغيرة في قلبه، وتسكن حواسه وتستأثر بها. ولكي يُنجِح خطته يحمل ياغو منديل ديسدمونا وهو هدية من عطيل، ويلقيه بمضجع كاسيو، ليجده بعد ذلك عطيل فيكون دليلاً واضحًا على خيانة زوجته. يظل ياغو يحث عطيل على قتل ديسدمونا مُنكبًا على هذا الأمر دون كلل، واعدًا إياه على أن ينفذ بدوره مقتل كاسيو.
شكسبير وشيم عطيل
لقد خط شكسبير شخصية عطيل من نسج الإنسان الصادق النبيل. رجل ينتمي إلى تلك القلة من البشر التي إن أحبت، تحب حد الجنون والولع، تلك القلة التي تحب بتطرف، وما تطرفها إلا دليل على صدق عشقها، فتندفع في أحاسيسها اندفاع النهر إلى البحر، مخرسة صوت العقل، وحده القلب يدير شئون القلب.
تم تصوير المغاربة وغيرهم من ذوي البشرة الداكنة بشكل سلبي في زمن شكسبير، مثل المجرمين والبربريين والمتوحشين ذوي الدم الحار، وعلى أنهم بشعون، ليس في شكلهم بهاء ولا في وجههم نَضَارَة. إلا أن شكسبير كان له التفرد، كمثله من عظماء القلم، وخط ما ارتآه صوابًا دون النظر إلى القشور، آخذًا باللباب. كما دوّن مظاهر العنصرية، وذلك من خلال أفواه الشخصيات المتعددة. دائمًا ما يسخر رودريغو من شكل عطيل، أوَ لم يقل مرات عديدة:
وعندما راح الاثنان، رودريغو وياغو، يصيحان أمام منزل والد ديسدمونا لكي يخبراه بزواج ابنته، صدح ياغو قائلاً:
ليضيف إلى قوله مرة أخرى:
زحزح شكسبير، من خلال مسرحيته، بشكل مباشر أو غير مباشر، رؤية الأوروبي للشعوب ذوي البشرة الداكنة أو السوداء، تاركًا من خلال عطيل صورة الإنسان الشهم ذي الأخلاق العالية، على الرغم من انتمائه العرقي، دون أن يظهر أن لأخلاقه وقيمه منبعًا يتمثل في تربية معينة أو دين معين، بحيث تجنب شكسبير أن يتحدث عن الإسلام أو المسيحية أو اليهودية، هاملاً عقائد الشخصيات.
المخرج أورسن ويلز: سيد الاسترجاع الفني
استخدم ويلز تقنية الاسترجاع الفني Flashback، كافتتاح لفيلمه «عطيل» وهو الذي سبق أن استخدمها ببراعة في أفلامه من أشهرها: المواطن كين Citizen kane، وهو بذلك يبدأ حيث انتهى شكسبير. استهل المشهد بجنازة مهيبة في جزيرة قبرص (لقد تم تصوير المشهد في «موكادور» أي مدينة الصويرة المغربية)، خارج قلعة مترامية الأطراف، مشيدة على جانب الساحل. هي جثة عطيل وزوجته ديسدمونا تخضع لطقوس جنائزية، بينما يظهر شخص محتجز في قفص، يبزغ المكر من عينيه، ومن نظراته يرسل الشقاء للمنكوبين والمفجوعين، هو بالتأكيد حامل العلم ياغو.
يبدأ الفيلم بغطاء أفقي مزدوج، يحاكي فتح ستارة المسرح، على الصورة المقربة من الكاميرا، يظهر وجه يعلو السواد بشرته، شاخص إلى السماء، لا حياة في عينيه أو شفتيه، شاحب أمام سلطة الموت. يبدأ موكب الجنازة على طول جدران القلعة، ناقلاً عطيل وزوجته إلى مثواهما الأخير. يتخلل هذا المشهد المحزن البديع مقطوعة بيانو هادئة وكأن عازفها يداعب بأنامله فقط نوتات البيانو، مدعومة ببعض الآلات الإيقاعية.
تبرز الصور الظلية للرجال الذين يسيرون مع الموكب مشهدًا متناقضًا، حيث يتعارك الأبيض مع السواد، وكأن الموت يثقل بكاهله على الحاضرين من الأحياء، يسيرون كمُجمَّع هموم تربطهم سلسلة آلام عظيمة.
إن محمود درويش صدق حين قال في قصيدته «لا أعرف الشخص الغريب»:
اختيار أورسن ويلز لهذه البداية المهيبة، يجعلنا نتأهب لأمر جلل ويوضح بجلاء عظمة الشخصيات التي تبرز أمامنا ومكانتهم المرموقة، كل ذلك يدفعنا أن نلزم جانب الصمت حتمًا، ونترامى بغثة على أجساد الضحايا صائحين: إن الصبابة عناء وجرح بشري تليد.
ياغو: «جوكر» شكسبير
بين ياغو وجوكر تشابه ذوي قربى، لأنه يتضح أن ياغو يدرك تمامًا نقاط ضعف عطيل ويمتلك دراية بشخصيته ونفسيته كما يدرك جوكر ضعف باتمان. كما أن الشخصيتين ترتبطان في عقدة القدر، واحد يدس الدسائس ويضحك باستمرار، والآخر صادق صارم في مشاعره، واحد أبيض والآخر أسود.
ياغو كشخصية سادية، متلاعب مُحرِّض، يصعب التكهن والتنبؤ بسلوكياته كالجوكر، ويصمم خططًا قادرًا على تكييفها وتعديلها باستمرار وفقًا للظروف. إنه قادر على السيطرة أو جعل أي شخص يشك ويرتاب في نفسه. لقد لخّص «ألفريد بينيورث» الخادم الأمين لدى بروس واين (باتمان) سلوك الجوكر على أساس أن هناك بعض الرجال يريدون فقط رؤية العالم يحترق، ويتضح من خلال ألاعيب ياغو منذ بداية المسرحية أنه يسير في مسار الفكرة نفسه، حيث أدت مكائده إلى حرق عالم من الصدق والنقاء، تهاوى أمام قدميه كالرماد.
على مستوى أعلى، يمكن فهم هذه المسرحية على أنها نفسية معنوية Psychomachia، وصراع من أجل روح الإنسان، حيث يُجسِّد عطيل أفضل جزء من الروح، ويمثل ياغو الدوافع السفلية.
عناء ويلز لتصوير عناء عطيل
أخرج «أورسن ويليز» عطيل على مدى أكثر من عامين، بين 1948 و1951، وتم تعديل جزء من طاقمه في مناسبات عديدة، واضطر لتمويل الفيلم بنفسه عدة مرات. كان سياق إنتاج الفيلم فوضويًا وقد أثرت العراقيل والقيود العديدة أثناء التصوير بلا شك على الخيارات الأولى لصانع الفيلم.
كان من المفترض تصوير عطيل في إستوديوهات de la Victorine في جنوب فرنسا، وتم الاتفاق على أن تصور المشاهد الخارجية في المغرب، بتمويل مستقل من مدير إستوديو إيطالي.
ورسن ويلز كان يبحث عن هذه الاستقلالية، لأنه منذ فيلمه الأسطوري Citizen Kane، لم يستطع أن يتحكم في إدارة أفلامه باستقلالية تامة، بل كانت الكلمة الأخيرة تظل في قبضة منتجي هوليوود. لذلك كان عطيل أول فيلم مستقل لـ ويلز، بحيث تطلع أخيرًا إلى حرية كاملة في الإبداع.
للأسف ولسوء الحظ أفلس المنتج وسقطت كل الخطط الأولية. هذا هو السبب في أن عطيل يتكّون بشكل رئيسي من لقطات قصيرة المدى مع صور بانورامية سريعة أو لقطات متنقلة. وقد وجد ويلز في «صويرة» ملاذًا، قلعة برتغالية من القرن الخامس عشر كاملة بأبراج وأسوار وأجراس وممرات سرية وأسوار وحتى مدفع برونزي يشير إلى المحيط الأطلسي، الذي سيتحول لضرورة القصة إلى البحر الأبيض المتوسط المحيط بقبرص.
«فكتور هوغو» مُفسرًا لشكسبير
لن أطرح قلمي ولن أفارقك أيها القارئ العزيز، دون أن نلتفت لكتاب فكتور هوغو عن ويليام شكسبير، وهو الذي استهل مشروعه بكتابة السيرة كتوطئة بمناسبة الترجمة الجديدة لأعمال هذا الأخير من طرف ابنه «فرانسوا»، ليتحول مشروع «التوطئة» إلى بيان من مئات الصفحات عن الرومانسية والنظريات الإستطيقية من خلال أعمال وحياة شكسبير، إن قلمي ليهتز محاولاً ترجمة ما قاله هوغو عن عطيل:
- The complete works of William Shakespeare, Geddes and Grosset Edition, P :477.
- The complete works of William Shakespeare, Geddes and Grosset Edition, P :477.
- The complete works of William Shakespeare, Geddes and Grosset Edition, P :478.
- William Shakespeare, Writed by Victor Hugo. A. Lacroix, Verboeckhoven et Cie, éditors, 1864. P :321.