يتميز تاريخ آل عثمان بخصوبة تاريخية فريدة، فقد تمكن الرجل وأحفاده من فرض أنفسهم على مسرح الأحداث في قارات العالم القديم لمدة تربو على ستة قرون (1299 – 1924م)، نجحوا خلالها في توظيف ما عُرف باسم حركة الفتوح الإسلامية وحركة الجهاد الإسلامي لترتفع أعلامهم على العديد من مناطق آسيا الصغرى السلجوقية والبيزنطية، قبل نجاحهم في العبور إلى القارة الأوربية من أجل إخضاع الشرق الأوربي (الصرب والمجر والبلغار والبلقان) ثم العودة إلى الإجهاز على الإمبراطورية الرومانية الشرقية (الإمبراطورية البيزنطية) وفتح عاصمتها القسطنطينية عام 1453م في خطوة اعتبرها العديد من المؤرخين حدثًا مفصليًّا يصلح لأن يكون فاصلًا بين زمنين تاريخيين.

حدث هذا قبل أن تتغير استراتيجية الزحف العثماني ليتحول إلى أراضي الصفويين الشيعة في إيران، وأقاليم المماليك السنة في الشام ومصر والحجاز. حدث ذلك قبل العودة مرة أخرى إلى طرق أبواب الغرب الأوربي والنجاح في الوصول إلى أبواب فيينا مرتين 1529م و 1532م. قبل أن تتراجع السلطة العثمانية وتنكفئ على نفسها مركزة الاهتمام نحو ممتلكاتها الواسعة في القارات الثلاث من شمال أفريقيا، إلى الجزيرة العربية واليمن، إلى أراضي البلقان. قبل التورط في العلاقات السياسية المتشابكة مع الدول الأوربية، مرورًا بالحرب العالمية الأولى، ثم قرار مصطفى كمال أتاتورك إنهاء الخلافة العثمانية العام 1924م.

والحقيقة أن شخصية المؤسس «عثمان» وأبيه «أرطغرل» وأجدادهما من الأتراك القاطنين على الحدود الغربية لأقاليم الصين قد شابها العديد من الأساطير التي يمكن تبريرها بنقص المعرفة التاريخية الحقيقية، وهو ما أدى بمعظم كُتَّاب الحوليات في العصرين القديم والوسيط إلى الاتكاء على الأسطورة التي كان من أهم وظائفها هو معالجة النقص المنطقي في المعلومات التاريخية الموثقة؛ لذا كان من الطبيعي أن يلجأ المؤرخون العثمانيون الأوائل إلى ذلك التكنيك في الكتابة، وهو أمر لم يتفردوا به كما سوف نعرف في السطور التالية.

تشير أولى أساطير التاريخ العثماني إلى أن الأمير عثمان (1299 – 1324م) كان يحب علماء الدين والمتصوفين الذين انتشروا في آسيا الصغرى منذ زمن الأتراك السلاجقة، وكان يحتفظ بود خاص تجاه شيخه أده بالي، وفي إحدى الليالي التي نام فيها عثمان في بيت الرجل، بعدما قرأ العديد من آيات القرآن الكريم، رأى في منامه حلمًا تلقفته غالبية المصادر التاريخية العثمانية فيما بعد في القرن الخامس عشر الميلادي، فقد رأى قمرًا يخرج من صدر الشيخ أده بالي ليستقر في صدره، بعد ذلك نبتت في سرته شجرة هائلة حوت تحتها جبالًا وأنهارًا عظيمة، وعندما استيقظ في الصباح وحكى لشيخه عن حلمه، بشره الأخير بأنها السلطنة تسعى إليه، مفسرًا ذلك بأن الشجرة تعني ملك آل عثمان، وأن أبناءه سوف يحكمون مملكة عظيمة الاتساع، ثم وافق على تزويجه من ابنته مال خاتون.

وفيما بعد جرت تنويعات على الأسطورة لتشير إلى الأنهار التي وردت في الحلم بأنها تعني دجلة والفرات والنيل والطونة (الدانوب)، وأن الجبال هي طوروس والقوقاز والبلقان وأطلس. وهو ما اتسق في النهاية مع امتداد ملك عثمان وأبنائه عبر القارات الثلاث آسيا وأوربا وأفريقيا.

 ومن الواضح بالنسبة إلينا أن أسطورة «حلم عثمان» وتوظيفها السياسي والديني لم تكن فكرة جديدة وليدة القرن الخامس عشر الميلادي، إذ إن الباحث المتابع لمسألة «الأحلام» التي لعبت دورًا كبيرًا في تشكيل حركة التاريخ، وبشكل خاص «حلم الشجرة» ودوره في تأسيس بعض الممالك والأسر الحاكمة، سوف يجد أنها فكرة قديمة وصلت إلينا أول مرة من التراث التاريخي اليوناني القديم، مرورًا بالتراث العربي قبل الإسلام وبعده أيضًا.

لقد أشار المؤرخ اليوناني هيرودوت (484 – 425 ق.م) إلى أن جد الملك الفارسي قورش (560 – 529 ق م) قد رأى حلمًا مفاده أن شجرة تخرج من رحم ابنته لتغطي جميع أرجاء قارة آسيا.

 كما يخبرنا التراث الإسلامي عن «حلم عبد المطلب» جد الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – الذي حلم بشجرة فارعة يبلغ طولها عنان السماء، بينما تغطي أغصانها المشرق والمغرب ويخرج منها نور ساطع عظيم، ويسجد لها العرب والعجم، ويتعلق بها رهط من قريش، بينما أراد آخرون اجتثاثها لولا بروز شاب قوي ووسيم طيب الريح قام بتعنيفهم ومنعهم من تحقيق مأربهم، وجرى تفسير ذلك الحلم بأن رجلًا من صلب عبد المطلب سوف يؤسس مملكة كبرى تملك المشرق والمغرب، وهو الحلم الذي جرت الإشارة به إلى الرسول القرشي الكريم الذي سوف يؤسس عالمًا مترامي الأطراف كما حدث بالفعل.

كما أننا أيضًا نعرف أنه عبر التاريخ الإنساني كله لجأ بعض مؤسسي الأسر الملكية الذين يعودون إلى أصول اجتماعية متواضعة إلى أسلوب ابتداع مثل تلك «الأحلام» من أجل الحصول على شرعية مفتقدة، وكذا توظيفها سياسيًّا مع تضخيم المسحة الدينية المصاحبة لها، وفي الغالب لم يكن يجرى ذلك في عهد المؤسس بل في عهد خلفائه.

ونظرًا لأن عملية التأريخ الباكر لآل عثمان لم تحدث من العدم، فقد كان من الضروري أن يتأثر المؤرخون العثمانيون الأوائل بالمدارس التاريخية الموجودة في عصرهم، خاصة المدرستين الإسلامية والبيزنطية.

ولتفصيل ذلك يجب علينا أن نتوقع تأثر قادة حركة التأريخ العثماني الباكر بالمصادر الإسلامية المكتوبة باللغة الفارسية، التي كانت لغة القراءة والكتابة عند الأتراك السلاجقة والعثمانيين الأوائل، ولا بد أنهم علموا بكتاب «طبقات ناصري» لمنهاج الدين الجوزجاني (1193 – 1260م) الذي أشار فيه إلى «حلم» سبكتكين والد السلطان محمود الغزنوي فاتح الهند، الذي رأى في نومه حلمًا مفاده أن شجرة هائلة نمت في منزله، وأنها امتدت لكي تغطي العالم بأسره.

واستمرت تنويعة «الحلم بالشجرة» في التراث الإسلامي الفارسي، حيث أشار المؤرخ رشيد الدين الهمذاني (1247 – 1318م) في الجزء الأول – الذي لم يترجم بعد إلى العربية – من كتابه «جامع التواريخ» إلى أن أحد حكام الغز الأسطوريين قد حلم أيضًا بشجرة ذات ثلاثة جذوع هائلة تخرج من سرته لتغطى أرجاء الدنيذي، وحدث أن أخبره المنجمون أيضًا أن تلك هي إشارة إلى مملكة واسعة سوف يقوم أبناؤه الثلاثة بحكمها.

وهكذا يمكن القول إن المصادر التاريخية العثمانية الباكرة قد تأثرت بشكل واضح بتقاليد الكتابة عن «الأحلام» في المصادر الإسلامية السابقة عليها.

على أن ما لا ينبغي إغفاله هنا، وما يستحق الاهتمام بشكل جدي، هو تأثر المؤرخين العثمانيين بالمدرسة التاريخية البيزنطية في الكتابة التاريخية عند التعاطي مع مسألة الحلم المتعلق بتكوين أسر وسلالات ملكية حاكمة، ويبدو هذا طبيعيًّا عندما نعلم أن الدولة العثمانية قد نمت وتطورت على أنقاض أقاليم ونظم الدولة البيزنطية إلى أن نجحت في القضاء عليها في النهاية.

لقد كان البيزنطيون هم ورثة التراث اليوناني الكلاسيكي الحافل بالخيال والبلاغة والجمال، والمتمعن في الحوليات البيزنطية سوف يعثر أيضًا على العديد من الإشارة حول الأحلام وشجرة الأسرة الإمبراطورية التي تحكم العالم أيضًا، فقد حلم والد الإمبراطور موريس (582 – 602م) بأن شجرة سوف تخرج من سريره تتسم بفروعها وأغصانها الهائلة، كما تكرر نفس الحلم تقريبًا فيما بعد في أحد المصادر التي تتحدث عن أم الإمبراطور باسل الأول (811 – 886م) التي رأت حلمًا يحتوى على شجرة تخرج من بطنها، بينما يعتلي ابنها قمة هذه الشجرة.

ويستمر الأدب البيزنطي في مرحلة ما قبل ظهور العثمانيين على مسرح الأحداث في آسيا الصغرى والأناضول في الاحتفاء برمزية «الشجرة»، حيث نجد المؤرخ والخطيب يوستاثيوس السالونيكي (1115 – 1195م) الذي تابع الصراع بين البيزنطيين والأتراك السلاجقة، ليصف الأخيرين في إحدى خطبه بأنهم يشبهون «شجرة» عجيبة النوع، في الوقت الذي لا تمتلك فيه جذورًا قوية فإن الرياح لا تستطيع اقتلاعها، فهي تنحني فقط لدرجة أنها تكاد أن تنكسر، غير أنها تعود لتنتصب من جديد، وفي هذا دلالة على اعترافه بصلابة وشجاعة الأتراك السلاجقة الذين أذاقوا البيزنطيين عديد الهزائم مثل ملاذكرد عام 1071م، قبل أن يحل الأتراك العثمانيون مكانهم في حمل راية الجهاد ضد الإمبراطورية البيزنطية إلى فتح القسطنطينية 1453م.

وهكذا تبدو أسطورة «حلم عثمان» الموجودة بالمصادر التاريخية العثمانية، والتي تؤسس للتاريخ العثماني كله، مجرد تقليد اعتيادي في إطار تقاليد الكتابة التاريخية الإسلامية والبيزنطية، وذلك من أجل إسباغ هالة أسطورية على صاحبها وعلى سلالته من بعده، ومن أجل توصيل رسالة مفادها أن دولتهم لم تكن إلا تعبيرًا عن إرادة السماء، خاصة بعد اصطباغها بالدين اعتمادًا على مبيت عثمان وهو يقرأ القرآن في منزل الشيخ أده بالي، كما أن هذه الأسطورة، كسابقاتها التى اعتمدت على «حلم الشجرة»، قد تم ابتداعها في زمن تالٍ من أجل اصطناع شرعية سياسية وعسكرية مباركة من السماء لأمير من أصل اجتماعي متواضع تتيح له ولأسرته التمدد تحت مظلة روحية تتطلب الدعم والطاعة من جميع الأتباع والرعايا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.