بأخذ نفس عميق وتذكر ما قد جرى في موسم 2018/19 من أحداث، ستكتشف كم كان مليئًا بالتشويق. السيناريوهات الجنونية والمفاجآت الكُبرى خاصةً في المعتركات القارية. لكن بالرغم من الذكريات التي تم نسجها خلال ذلك الموسم، لن نستطيع زحزحة ليلة «أنفيلد» الساحرة عن قمة هذه الأحداث.

وضع القدر سيناريو إعجازيًا للإلقاء ببرشلونة خارج دوري أبطال أوروبا بعد الفوز بثلاثية في الكامب نو، كان من الطبيعي أن يتقدم الكتلان نحو اللقب في هدوء، فقط إذا أتقن هجمة مرتدة واحدة على دفاع ليفربول في ظل غفلة مأمولة من حائطه المنيع فان دايك.

ما جعل مهمة ليفربول الأولية تبدو شبه مستحيلة، أن الخطة، التي كان على برشلونة تنفيذها، بسيطة جدًا: يمتلك «ميسي» الكرة في النصف الهجومي، ثم تمريرة بينية معتادة للفتى المُبدع «عثمان ديمبلي» يقوم من بعدها بما يتقنه بشدة في هذه المساحات، هذا طبعًا بعيدًا عما قام به في لقاء الذهاب، فقط كان يفترض أن يعيد نفس الخطة التي تم تنفيذها ضد تشيلسي، أو حتى ضد توتنهام، ما من مانع للتكرار.

لكن مع الأسف، أحبط ديمبلي كل طموحات جماهير فريقه، فهو لم يفشل فقط في تنفيذ أي هجمة مرتدة ضد ليفربول، بل فشل في اللحاق بالمباراة بأكملها، بعد إصابة تعرض لها أثناء خسارة فريقه ضد سيلتا فيجو بالدوري بهدفين للا شيء، ليُكمل سلسلة من الغياب -طالت- خلال موسميه الأولين رفقة «بلوجرانا».

تأثير «ديمبوز»

بذكر هدفه في مرمى توتنهام، فإن الحركة التي سجل منها هذا الهدف مُسجلة باسمه في قصص سُكان الحي الذي عاش فيه، يُطلق الأطفال في ضاحية «إيفرو» الفرنسية على أي تمويه بالتصويب ومن ثم الدخول إلى قلب الملعب اسم «ديمبوز»، نسبة إلى عُثمان ديمبلي.

يُعد الفرنسي الشاب هو المثل الأعلى للأطفال هُناك، يعتبرونه الشخص الأنسب والأفضل للاقتداء به. نجح في كسر خطوط الفقر بمهاراته وبقيامه بعديد الحركات على شاكلة «ديمبوز»، والتي مكنته من الانتقال بين محطة وأخرى، حتى نجح في مزاملة قدوته ليونيل ميسي في برشلونة، فريق طفولته.

أهنالك حلم أفضل من ذلك لتحقيقه؟

عثمان ديمبلي، برشلونة، دورتموند، قصة عثمان ديمبلي،
فتى صغير من ضاحية إفرو الفرنسية يرتدي قميص برشلونة وعليه اسم ورقم عثمان ديمبلي

لم تكن تلك الضاحية هي المكان الذي سُمع فيه بكاء الطفل عثمان لأول مرة، حيث وُلد لأبوين من أصول موريتانية من غرب أفريقيا، واللذين كالعادة أُرغما على الهجرة إلى فرنسا لكسب الرزق.

كان يُفترض أن تدخل القصة في مرحلة مملة ومنعطف قُتل تكرارًا، عن شاب من أصول أفريقية، هاجر أبواه لفرنسا فنجح في لعب كرة القدم بعد انتكاساتٍ وصعوبات عدة، حتى أنقذهما من الفقر، لكن ديمبلي لم يرغب في الاستمرار في هذه الرتابة مُدة أطول.

كانت ولادته في ضاحية فقيرة بشمال فرنسا في اليوم الـ15 من مايو/أيار من عام 1997،وحين بلغ السادسة من عُمره، انفصل هو ووالدته، والتي تمتلك زمام أموره حتى اللحظة كوكيلة أعماله، عن بقية الأسرة بالانتقال نحو الشرق الفرنسي، إلى مدينة رين، حيث يسكن «بادو سامباج»، خاله الذي سبق له تمثيل منتخب مالي كلاعب كرة قدم.

عاش ديمبلي بضاحية إيفرو، والتي امتلأت بساحات شعبية يجتمع فيها أولئك المهاجرين باختلاف جنسياتهم وأديانهم، اتفق هؤلاء المهاجرون على أن ديمبلي هو أفضل بني جيله خلال فترة تواجده هُناك، وحتى انضم إلى أكاديمية إيفرو.

كانت الكرة ملاصقة لقدميه بشكلٍ لافت، فتُمكنه من القيام بأي حركة تطرأ في عقله، ولا سيما حركته المميزة والتي سُميت باسمه فيما بعد. وقت أن انضم للفريق الأكبر في مدينة طفولته، ستاد رين، بعد التدرج في مراحله السنية واحدة تلو الأخرى.

انبهر الجميع من سرعته في الركض والمراوغة، وهو لم يبلغ الـ18 بعد! لكن لم يكن أحد يعلم أن هذه النعم سيتحول تأثيرها من إيجابي، رسخ وجوده بين الأطفال في منطقته، إلى سلبي.

شبح الـ «هامسترينج»

غاب الفرنسي الشاب عما مجموعه 45 مباراة لفريقه برشلونة، تملك إصابة عضلات الفخذ أو ما هو معروف في الإعلام الرياضي بإصابة الـ «هامسترينج»، نصيب الأسد خلال هذه المُدة، حيث تسببت في غيابه لأكثر من 180 يومًا، بنسبة 65%، من مدد غيابه عن الملاعب خلال فترته في إسبانيا.

عثمان ديمبلي، إصابة عثمان ديمبلي، برشلونة،
تاريخ إصابات عثمان ديمبلي مع توضيح مدة الغياب عند كل إصابة

يمكن لأي فريق كرة قدم محترف يضم 25 لاعبًا توقع حوالي خمس إصابات في عضلات الفخذ في كل موسم، أي ما يعادل أكثر من 80 يومًا توقف للإصابة وحوالي 14 مباراة ضائعة.

للتعريف بنوع هذه الإصابة، فهي كأغلبية إصابات أوتار الركبة والعضلات الملاصقة لها، تأتي لنتائج غير الالتحام، حتى بالرغم من كون هذه الإصابة أحد الأكثر شيوعًا في لعبات كالرجبي وكرة القدم الأمريكية، التي تعتمد على الالتحام كعامل أساسي للعبة.

وبالتالي، لا يمكن ركن هذه الإصابة على مهارته التي تتسبب في تعرضه للضرب أو للتدخلات الخشنة من قبل الخصوم، لكن للأسف، فإن لحركة الديمبوز والركض بسرعة في عدة اتجاهات، عوامل سلبية هُنا.

أجريت العديد من الأبحاث على لاعبي كرة القدم الأمريكية والرجبي بسبب تلك الإصابة التي تهدد معظم ممارسي تلك الألعاب. كانت النتائج سلبية لحد بعيد، إذ أكدت الأرقام الأولى أن نسبة 36% من هذه الإصابة تتكرر مع الوقت، وأن الإصابة بها في بداية الموسم، يعني أنها ستعاود الظهور مرة أخرى خلال نفس الموسم.

ما يعني أنها قد تتسبب في إنهاء مسيرة اللاعب تمامًا، وهذا هو الهاجس الذي يهدد حياة ديمبلي في الوقت الحالي والذي كسر نمط التكرار في قصته من النجاح اللافت إلى الخفوت الواضح في السنين الأخيرة.

عثمان ديمبلي برشلونة
رسم تشريحي لعضلات الفخذ

كما هو واضح بالشكل التشريحي لعضلات الفخذ، فإنها تتكون من أوتار عدة تُكون ثلاث عضلات، تغطي المساحة من الحوض وحتى أوتار وأربطة الركبة الداخلية، هذه العضلات مسئولة عن حركة الركبة وتتأثر بشدة في حالة الركض المتواصل، وكذلك تتأثر بتسريع الاتجاهات أو تباطئها أو تغييرها بسرعة، أو حتى التصويب بوضعية قدم غير سليمة، حيث يقع على عاتق هذه العضلات كل حركة الجزء السفلي من القدم.

تعرض ديمبلي لهذه الإصابة لأول مرة، بعد تنفيذ غير سليم لتصويبة خلفية بجسد في وضعية غير مناسبة، في ذلك الحين خرج المدرب «إرنستو فالفيردي» ليؤكد أن هذه الحركة كان يُمكن تفاديها، وكان يمكن تجنب غيابه لمدة 20 مباراة وأكثر من 100 يوم. وبعيدًا عن تبادل الاتهامات بين ممثلي برشلونة وممثلي الفرنسي الشاب حول سبب وطول مدة إصاباته وتكرارها، فإن كلام فالفيردي منطقي جدًا لحد بعيد.

ليكن ميسي هو القدوة

كنت أقول إنني أريد أن أكون مثل «كريستيانو رونالدو». كان عثمان يجيب بأنه يفضل أن يكون مثل ليونيل ميسي. لقد وعدنا جميعًا بهذا الوعد.
«محمد إماريجان» زميل عثمان ديمبلي السابق أثناء طفولته.

أنتجت شبكة أمازون مؤخرًا سلسلة وثائقية تبرز بعض النقاط المضيئة في اللعبة، كان لليونيل ميسي، بالطبع، الحظ الأوفر ليكون بطل الحلقة الأولى من تلك السلسلة. ظهر خلالها المُدير الفني الإسباني «بيب جوارديولا» مادحًا عديد الصفات في فتاه المُدلل، والتي كانت إحداها: ظهوره يمشي أثناء أحداث المباراة ملقيًا النظر على الجهات كلها. للوهلة الأولى يبدو ذلك ذكاءً فطريًا من الأرجنتيني، لكنها كانت تعليمات طبية بحتة تم استخدامها للأفضل فيما بعد.

في العقد الأول للبرغوث مع برشلونة، عانى من إصابات هامسترينج متكررة، تسببت في غيابه لما يتخطى 160 يومًا، تضاءل تأثير هذه الإصابة، وغيرها، بوصول بيب إلى كامب نو، حيث نجح في تخطي 300 مباراة بدون إصابة واحدة. رقم كبير مقارنة بما كان معتادًا.

كان لدى ميسي مشكلة في نمو العضلات، تلك التي نجح الفريق الطبي ببرشلونة في تخطيها في عمر أصغر وهي قصة لا تخفى عن الكثيرين، لكن حدث ذلك عن طريق نمو غير طبيعي لهذه العضلات، تسبب في عدم اتزان بعضلات الجسم بالكامل، مما يعني ضعف مناطق مقارنة بالأخرى، وهنا كانت عضلات الفخذ إحدى الضحايا.

بوصول جوارديولا، تم مشاورة الجهاز الطبي حول أسباب تعدد إصابات ميسي ولم تتوقف عند ضعف العضلات ونموها غير الكامل فقط، بل طالت الأسباب لتصل إلى نوعية الطعام وطريقة ركض ليو في أرض الملعب، والتي كانت غير منتظمة بالمرة.

إن كان ديمبلي يملك حركته الموقعة باسمه، فكم يملك ميسي من حركات؟ وإن كان ينجح الفرنسي في تحويل اتجاهاته بشكلٍ مباغت، فكيف يستطيع ليو تنفيذ ذلك؟ ينخفض معدل إصابات الأرجنتيني عن رفيقه الشاب بفضل الانتظام كمحترف فيما يخص الأكل ووقت وضرورة الركض والمراوغة في الملعب، يملك الشباب من نوعية عثمان رغبة جامحة في العودة من الإصابة سريعًا والركض من جديد، لكن بزيادة الخبرة مفترض أن ينتهي كل ذلك بالتدريج.

الآن، ترى ميسي يأكل السمك بعدما كان غير مُدرج في قائمة طعامه تمامًا، يمشي كثيرًا أثناء أحداث المباراة، ولا يركض إلا إذا استدعت الحاجة، وكذلك لا يستخدم مراوغة تغيير الاتجاه إلا إذا انحصرت الاحتمالات عليها، والنتائج جلية بالدرجة التي تسمح لنا بتأكيد أن مسيرة ديمبلي لم تنتهِ بالكامل بعد، لكن إن كان يرى في ميسي قدوة حقيقية، فعليه السير على نفس الخطى، أو أن يقرر الآن ويودع كرة القدم إلى الأبد.