بين «نجيب محفوظ» و«عكاشة»: هل تصلح الفردية حلاً للنجاة؟
أرى أنه من الأخلاقي أن يعترف الإنسان بقصوره الأدبي وضعف ملكة التحليل النقدي لديه إزاء الغوص فى كتل الضباب وأزمنة مرصودة للنسيان، ولكنها تبقى محاولة تلو محاولة لجعل المحاولة ترتقي لتجربة، منذ عام تقريباً سألني أحد الأصدقاء بخبث معرفي أكثر منه سؤال ودي عن: لماذا أقرأ لنجيب محفوظ دون غيره؟ ولماذا لا أوجه نصف هذا الاهتمام لأدباء عرب آخرين لا يقلون بلاغة وخيالاً وجرأة عن نجيب محفوظ كتوفيق الحكيم، ويحيى حقي، وأنيس منصور، والطيب صالح، فأجبته: كلما قرأتُ لنجيب محفوظ عدت إلى بيتي وفي حقيبتي شيء جديد، فلا يخفى على أحد أن نجيب محفوظ اجتاز خياله الأدبي حدود الطبيعة ومضى إلى ما وراء الإعجاز والسحر، فتارة يبحث عن مفر من واقع يتفلت من بين يديه وتارة يسخط على المجتمع وموروثه وتارة يجعل من الإنسان إلهاً ورباً لمشيئته فيطلقه بلا أكبال وأغلال كجنود طروادة ليخلص العالم من دنسه ويجتث بذور الشر من مشاتلها.
اللص والكلاب: الفردية التي لا تُحتمل
يخرج سعيد مهران من السجن فيجد العالم قد تغير والقناعات تبدلت، ويُفاجأ أيضاً بتنكر ابنته الصغيرة له؛ لأنها لا تعرفه، ثم يلجأ إلى صديقه الصحفي القديم رؤوف علوان الذي علمه ولقنه الشعارات ودس فيه بخبثه المعرفي مقته على المجتمع وحقده على العالم فأحاله دون مشيئته إلى لص بالتبعية، فنجده قد بدل جميع ولاءاته وشعاراته فلم يظفر بغير النفور والإعراض وتأليب رجال الأمن عليه فيصطدم بهذا الواقع الأليم، ثم يتوجه كحل أخير للشيخ الجندي في صومعته ملتمساً أن ينتشله من هذا المستنقع ولكنه يفشل أيضاً في الوصول إلى حل فيقرر الانتقام من الخونة وأن يسترد سنوات عمره الضائع منه.
لقد كانت أزمة البطل منذ البداية نابعة من تنكر الابنة وخيانة الزوجة وغدر الصديق، الجميع خونة في مدينة الموتى تلك، يبدأ سعيد مهران رحلة بحثه عن حقه المهدور مواجهاً الخونة جميعاً.
فرح عندما أقدم على قتل عليش ذاك الخائن الذي سلبه زوجته وابنته متلذذاً بطيب العيش في إرث ليس إرثه وخير ليس خيره، قبل أن يغير القدر واجهة الرصاص فتقتل بريئاً ليس له في الأمر ناقة ولا جمل، جميعنا نتفق على أن رؤوف علوان يستحق أن ينال العقاب اللازم للصديق غير الوفي ولكن يغير القدر واجهة الرصاص فيموت بريء آخر، فالكلاب دوماً تحت يد خفية تحميهم فتغير اتجاه الرصاص إليهم ويُقتل الأبرياء بدلاً عنهم، ياله من عالم يحث على الغثيان.
هذه الفردية المطلقة التي أوكلها نجيب محفوظ لسعيد مهران في تخليص العالم من مدانس الشر ومنابع الرذيلة تكمن في إيمانه الشديد بقدرة الإنسان وقيمته فسعيد مهران هنا هو مسيحنا الشعبي الذي عليه أن يضع ما تبقى من عمره وألا يستلذ بطيب العيش كي نستلذ نحن بطيبته في عالم بلا أشرار وخونة، وبحكمة رجل معاناة يبدأ رحلته التي أثقلت كاهله فيُحمله نجيب محفوظ قضية أثقل منه وفلسفة أغلظ من عنقه.
الطريق: البحث عن أب، أم، عن معنى
يبدأ نجيب محفوظ رحلة أخرى في جعل الإنسان بمفرده قادراً على تخليص البقية واضعاً ثقته كلها ومرة واحدة في إيمانه بقيمة الإنسان فنرى «صابر الرحيمي» وقد حمل على عاتقه رحلة البحث عن معنى للحياة، وعن أين تكمن ضروب الاستقرار النهائي ومتى يمكن للإنسان أن يحصل على سعادة مطلقة ف «سيد الرحيمي» ذلك الأب الذي ترك ابنه تائهاً في كتل الضباب لأزمنة مرصودة للنسيان بعد أن أوقع بأمه في لزج الخطيئة، هو المعنى الذي حاول محفوظ البحث عنه «ما قيمة الإنسان بحرية مطلقة ما لم يجد من يسأله متى عاد إلى المنزل ولماذا تأخر بعد منتصف الليل»، يتساءل نجيب محفوظ، فيجيب صابر الرحيمي فى ظرفه الحالك «إن الإنسان بلا معنى ما لم يجد يداً توجهه» يترك موطنه بحثاً عن موطن جديد يغادر أصدقاءه ويصفي تجارته مضحياً باستقرار لذيذ من أجل اغتراب سيتألم لأجله لاحقاً بحثاً عن آخر الأمكنة التي على الإنسان أن يستقر بها ولأجل تلك الحقيقة على صابر الرحيمي أن يُضحي بكل شيء لأجل أن يقترف الحقيقة التي يجهلها الإنسان.
عكاشة و«الفردية» اللذيذة
يسير «أسامة أنور عكاشة» على نهج أستاذه نجيب محفوظ فيضع نصب عينيه الإنسان كقيمة ومعنى فكل أعمال عكاشة لا تخلو من بطل ناقم على واقعه ساخط على حقبته المعاشة، ساخر من رتابة الأزمنة، ضاحك من تفاهة الموروث كونه عادة، راغب في إحداث أثر أممي في أبناء جيله.
في «ضمير أبلة حكمت» نجد الأستاذة حكمت هاشم تخرج عن المألوف كونه عادة ولا تتبع سابقيها ولديها ما يكفي لإحداث تغيير ما ولكن هناك من يقف في وجهها، ترفض تحولها إلى ترس بطيء في ماكينة البيروقراطية تطرح فكرتها بجرأة فيتم رفضها بعنف وإقصاؤها إلى التقاعد، لقد ضحت حكمت هاشم بمصدر دخلها وقوت يومها لأجل ما تراه حلمها بتطبيق منظومة صحيحة في التعليم وارتضت لنفسها إقصاءً مبكراً من الخدمة على أن تعيش فى رتابة واقع محيط تراه يسير عكس عقارب ساعتها.
فى «آرابيسك» عليك أن تقف طويلاً أمام سيكولوجية حسن آرابيسك ذلك الفنان الذي أفقده واقعه المعاش قدرته على الإبداع ففر هارباً في وحل الذكرى يتغذى على مجده اللذيذ وأوراق خريفه الساقطة آنفاً من عالم أفقده توازنه وحس الدعابة لديه فاتجه إلى المخدرات وصحبة السوء على أن يرتضي لنفسه أن يعمل في فن منحط وبلا قيمة، رغم تجاوبه مع متطلبات الحقبة المعاشة، ماذا لو رضخ حسن آرابيسك لمتطلبات الواقع المعاش وسار في دائرة البقية كما يسيرون؟ هل كان سيعاني ما عاناه؟ يتساءل أنور عكاشة فيجيب قبل مائة عام من ذلك هيرمان هيسه «هناك أناس يفضلون الموت على أن يعيشوا في طور واقع لم يستجيبوا له».
السمان والخريف: انتقال الفردية من الفلسفة للأدب
دخلت كلمة «الفردية» لأول مرة على اللغة الإنكليزية كصفة تحقير، اُستخدمت من قبل «الأوينتيز – Owenties»، في نهاية الثلاثينيات من القرن ال19، رغم أنه من غير الواضح إذ ما تأثروا بالسيمفونية الفرنسية sant-simonisme، أو أنهم ابتدعوا المصطلح بشكل مستقل.
كان أكثر استخدام إيجابي للمصطلح في بريطانيا، حيث اُستخدم في كتابات «جيمس أليشاما سميث»، والذي كان «ملياري – millenarian» وإسرائيلي مسيحي، رغم أنه من أوائل الأوينتينز الاشتراكيين، ولكنه رفض في نهاية المطاف فكرة الملكية الجماعية، ووجد في الفردية «كونية» التي تسمح «للعبقرية الأصلية» أن تنمو، يحاجج سميث بأن دون الفردية لا يمكن للأفراد أن يكدسوا ملكيتهم ليزيدوا بذلك سعادتهم.
بكون نجيب محفوظ دارساً للفلسفة بل إنه أديب خسرته الفلسفة كما يحب للبعض أن يقول فهو يعي بصورة سيتم تحويلها في ما بعد، من المجاز الأدبي إلى الإدراك البصري في أكثر أعماله إثارة «السمان والخريف» أو كما يحب تسميتها صديق لي «سمان الخريف»، قيمة الإنسان وقدرته ورهافة الحس لديه ونعومة غايته ومدى تأثره بهويته وكينونته.
تدور «السمان والخريف»، والتي نُشرت فى الحقبة الستينية من القرن الماضي، عن «عيسى الدباغ» ذلك السياسي الشاب الذي كان من المنتظر أن يرتقي أعلى المناصب القيادية في التيار الوفدي الحاكم، ولكن الزمن يجيد اللعب بأحلام الطموحين.
يفقد منصبه بعد ثورة 23يوليو، ويُطاح به ليس خارج حبال حلبة السياسة فحسب وإنما خارج دورة الحياة والتاريخ، للوهلة الأولى حتى ولو كنت أشد المتعصبين حماسة للحقبة الناصرية سُيثيرالدباغ فيك العطف والشفقة، سترثي لحاله وما آل إليه، رغم أنك ستتفاجأ بالصراع النفسي داخله والذي يحيله لشخصين لا يُعرف أيهما سينجو، فتارة تجده يلتقي الفدائيين على ضفاف قناة السويس وتارة يتقاضى الرشاوى من أعضاء الحزب لأجل مقعد فى مجلس النواب.
تبدأ نكبة عيسى الدباغ فى صبيحة يوم الـ 23 من يوليو، عندما يستيقظ على صوت مذياع يبث أن حركة التصحيح نجحت وتم تفكيك الأحزاب وعلى رأسها حزب الوفد؛ يبدأ عيسى الدباغ في التشتت والتمرغ كخنزير في وحل الكارثة، يلوذ بالفرار من واقع يتفلت من بين أصابعه، يتمرد على واقع مستجد ويرفض العيش في واقع يمقته لأنه يعلم أنه لن يدركه وبالتالي لن يستطيع مجاراته، يرتضي لنفسه أن يُحال إلى عربيد وزير نساء على أن يبيع مبادئه التي لم تعد تناسب تلك الحقبة.
إن معاناة عيسى الدباغ ليست فى كونه عاطلاً محالاً للتقاعد، فأحد أصدقائه الذين أصبحوا أحد أقطاب النظام الجديد يعرض عليه عملاً ولكنه يرفض، بل إن معاناته تكمن في عدم قدرته على إدراك هويته أو اللحاق بها، ثم الإمساك بها، إذاً فالصراع النفسي عند الدباغ لم ينشأ من مجرد سلبه منصبه وإنما لعدم قدرته على فهم واقعه المعاش؛ فيلوذ كفأر صغير بالفرار متغذياً على أمجاد ماضٍ يُستحال رجوعه، إنه صراع بين لحظتين مريرتين لحظة لن تعاد على ما فيها من لذة، ولحظة فيها من اللذة ما فيها ولكنها لا تستجيب له تحديداً، هكذا كان على عيسى أن يعاني لأجل قدسية أزمنة ولت ومبادئ لن تصلح وأفكار ما عاد زمن تطبيقها أو الاستماع إليها، فكان عليه أن يبحث فيبحث عن الوفاء للأزمنة في وجوه أصدقائه وأثر المكان وعبير الطرقات، فلم يجد من أبقى على قسمه فالكل باع والكل تبدل وكل شيء حال إلى ما حال «ياله من عالم يثير القيء والغثيان».
إذاً فرحلة هروب عيسى الدباغ ليست جبناً بقدر ما هي بادرة شجاعة في رحلة بحث عن معنى لحياته وحياة الآخرين، لقد أحال محفوظ بطله إلى منقذ آخر ولكن بلا أمجاد، سلب منه كل مجد فراح يفتت عضد الأزمنة بحثاً عن طريقة ليميتها، ليجعل من الإنسان قيمة، فأولاً وأخيراً الإنسان هو من يصنع الأزمنة ويغيرها فلماذا تتلاعب الحياة به بمثل هذه الطريقة؟