أسامة أنور عكاشة: فن الكتابة عن مصر والمصريين
على مدار الثمانينيات والتسعينيات والعقد الأول من الألفية الجديدة، اشتهر أسامة أنور عكاشة بأعماله التي أسست نوعًا جديدًا في الدراما المصرية استقطب بدوره عديدًا من النقاد الذين كانوا لا يبرحون عالم السينما إلى الشاشة الصغيرة، فكانت أعماله محل اهتمام بالنسبة لربات البيوت والنقاد على حد سواء.
تجربة أسامة أنور عكاشة إحدى التجارب الاستثنائية في الدراما التلفزيونية، وأحد الكتاب القلائل الذين يمكن أن نعتبر كتابتهم للدراما ذات طابع أدبي وتتضمن عناصر وخصائص يتميز بها مبدعها، على غرار سينما المؤلف مثلاً.
في السطور التالية نقدم قراءة لأهم أعماله وأبطاله، متخذين من «الراية البيضاء» 1988 نقطة انطلاقة.
من معانقة الحلم إلى مكابدة الواقع
ينتمي أسامة أنور عكاشة لجيل الستينيات الذي ترعرعت ذائقته الأدبية على كتابات نجيب محفوظ، يقول عكاشة في أحد حواراته «أنا وكل كتاب جيلي خرجنا من عباءة نجيب محفوظ» في رأيي أعمال عكاشة هي المعادل الدرامي لأدب محفوظ. جيل الستينيات الذي انتمى له عكاشة هو ابن التجربة الناصرية التي كانت أهم إنجازاتها في رأي عكاشة هي المكاسب الاجتماعية وإفراز طبقة وسطى جديدة. وفي سبعينيات الانفتاح سلبت هذه المكاسب وتآكلت الطبقة الوسطى ربما بدءًا من انهيار أحلامها في 1967 وانفراط عقد المشروع الناصري. وراح ذلك الجيل الذي ينتمي بالأساس إلى الطبقة الوسطى يعكس بكتاباته هذا التحول بين الحقبتين وينقد بها طبقة الأغنياء الجدد التي صعدت إبان سنوات الانفتاح ويرصد أحوال الطبقة الوسطى في ذلك العهد.
كانت هذه التجربة والتحول بين «معانقة الحلم إلى مكابدة الواقع» -على حد تعبير صلاح عيسى- هي التي أفرزت جيل الكتاب والمخرجين السينمائيين الذين شكلوا ما عُرف بالواقعية الجديدة.
كان عكاشة أحد هؤلاء الكتاب ولكنه ركز كتابته للدراما التلفزيونية. قدم أعمالًا بعضها تطرح بصفة أساسية تساؤلاته عن الهوية كمسلسل «أرابيسك»، والبعض الآخر يقدم عرضًا بانوراميًا لحقبة زمنية كملحمته «ليالي الحلمية».
اشتهر عكاشة كمثقف ناصري بنقده سياسات الانفتاح عن طريق تقديم الصراع الطبقي في ثنائية الخير والشر التي تكون في معظم أعمال عكاشة الثيمة الرئيسية للعمل، واضعًا أبطاله في قالبين متناقضين اجتماعيًا وطبقيًا، وكان الراية البيضاء واحدًا من تلك الأعمال.
ولا يا حمو، التمساحة يلا
في ديسمبر 1988، وبهذا النداء الذي كان شهرة المسلسل امتدادًا لشهرته، افتتح صناع الراية البيضاء ما يقرب من ست عشرة حلقة تلفزيونية أعادت صياغة المخيلة الشعبية حتى أصبح تداول أسماء شخصيات العمل، كفضة المعداوي مثلاً، على ألسنة المصريين في حديثهم الدارج لا يخلو من دلالة.
يدور «الراية البيضاء» وعلى مدار ست عشرة حلقة حول محض صراع بين فريقين يمثل كل منها قيمتين، قيمة الأصالة التي يمثلها الدكتور مفيد أبو الغار (جميل راتب) وفريق من المثقفين من المحامي والفنان التشكيلي والصحفية، وقيمة السوقية التي تمثلها فضة المعداوي (سناء جميل) وفريقها من المحامي الفاسد وتاجر السمك والشغيلة الذين يعملون لحسابها.
أراد صناع العمل من البداية أن يرسموا الملامح الأخلاقية لفضة وفريقها. فضة المعداوي هي تاجرة سمك وسيدة أعمال ثرية ندرك أنها تنحدر من طبقة دنيا وصعودها الاجتماعي – كما يحدث عادة لأغنياء الانفتاح في الدراما العكاشية – جاء من طرق غير مشروعة. ذات مستوى متدن من التعليم فنراها في أكثر من مشهد تجلس على مكتبها الفخم تستمع إلى أحد أبناء المعلم حنفي، ليقرأ لها أخبارًا تافهة من إحدى المجلات.
كل شيء في فضة وعائلتها ينضح بالفساد، أحد الأبناء طبيب والآخر مهندس، لم يحصلا على مكانتهما الاجتماعية بمجهود شخصي بقدر اعتمادهما على نفوذ ومال أمهما، وكما تريد أن تستولي فضة على فيلا الدكتور مفيد، تريد الابنة أن تشتري قلب هشام الفنان التشكيلي بمالها وصيت أمها. المحامي الخاص لفضة يستخدم ذكاءه ودهاءه لمساعدة فضة بالتحايل والبحث عن ثغرات.
لكن ما الخلفية الاجتماعية التي تنتمي لها فضة في عالم عكاشة؟
إذا أمعنا التأمل للماضي الشخصي لشخصية مثل فضة، من الممكن أن تحيلنا إلى شخصيتي (بسة) و(الخمس) بالجزء الأول من ليالي الحلمية الذي رصد قاهرة الأربعينيات عقب الحرب العالمية الثانية وأثناءها. بسة والخمس هما السبرسجية، جامعي السبارس، اللذان عملا في معسكرات الإنجليز وتعاونا معهم بينما يكافح المثقف الجامعي طه السماحي والأسطوات الثلاثة زكريا وشاهين ومتولي في العمل الفدائي في مدن القناة.
كان بسه والخمس يجسدان شريحة اللصوص وأولاد الليل الذين انتشروا بعد الحرب العالمية الثانية في الأربعينيات، وكانت العلاقة بين الفدائيين وهؤلاء اللصوص قد لخصها الراحل صلاح عيسى في كتابه البديع «أفيون وبنادق»: «عانى المقاتلون كثيرًا من هؤلاء اللصوص، كانت لصوصيتهم تتغلب عليهم كثيرًا، فـيخونون أو يتواطئون أو يحاولون جر عمليات الكفاح كلها إلى السرقة وحدها».
ربما يجسد بسه والخمس، بشكل ما، الماضي الشخصي لفضة المعداوي، فهما ينتمان إلى نفس الطبقة والخلفية الاجتماعية، بل ويشتركان أيضًا في نفس المصير، فمع تقدم أجزاء «ليالي الحلمية» يترقى بسه والخمس في السلم الاجتماعي ويتربعان على قمة الهرم الطبقي مع أغنياء الانفتاح من أمثال فضة المعداوي.
من أبو العلا إلى أبو الغار
يبدو عمل مثل الراية البيضاء ظاهريًا عبارة عن نزاع بين طرفين على ملكية شيء مادي كالفيلا. لكن الهيكل الأساسي للعمل هو صراع أضداد، نزاع بين قيمتين، إحداهما سوقية المعلمة فضة التي تريد أن تستحوذ على الفيلا لهدمها وبناء ناطحة سحاب. والأخرى هي الأصالة متمثلة في الدكتور مفيد الذي يرفض بيع الفيلا متمسكًا بالهوية والتراث الفني والتاريخي الذي يمثله المكان.
يرسخ صناع العمل التقابل بين الفريقين من البداية. عندما يعود الدكتور مفيد الدبلوماسي السابق، بعد رحلة عمل طويلة إلى مدينته الإسكندرية، يظهر في فيلته وهو يقرأ جريدة أو كتابًا، يستمع إلى موسيقى غربية كلاسيكية، ويمكث هشام الفنان في غرفته الأشبه بالمتحف، تتصفح أمل صبور مجموعة شعرية لصلاح جاهين وكتابًا تاريخيًا.
وإن كانت فضة تحيلنا إلى بسة والخمس، فيمكننا القول إن الدكتور مفيد قد يحيلنا إلى أبو العلا البشري. نموذج المثقف الحداثي النقي أخلاقيًا يشكل عنصرًا أساسيًا في دراما عكاشة، ويطرح عكاشة على لسان ذلك المثقف تساؤلاته وهواجسه. الأستاذ وفائي-حسن حسني في «أرابيسك» أحد أبرز هؤلاء النماذج وعلى لسانه طرح عكاشة مسألة الهوية التي كانت تؤرق عكاشة وأبطاله.
لكن «أبو العلا» بالتحديد يتشابه مع «أبو الغار» في أن كلًا منهما يخوض نفس الرحلة تقريبًا. كما يقف الدكتور مفيد أبو الغار وفريق المثقفين ضد بلدوزر فضة المعداوي، يخوض أبو العلا البشري رحلة مشابهة، ولكنه وحيد بلا فريق، كدون كيشوت يحارب طواحين الهواء، يغادر السكينة في قريته النائية إلى صخب المدينة، متأثرًا بقراءاته في التاريخ والاجتماع يحاول بشجاعة فارس أن يعيد الأمور إلى نصابها ويحقق حلم المدينة الفاضلة بعد أن انقلبت هذه المدينة رأسًا على عقب، يغرس قيمه وأفكاره التي تنتمي لزمن غير زمنه وسط انتهازية مجتمع آخذ في التفسخ.
سؤال الهوية
في «زيزينيا» يمثل (بشر عامر عبد الظاهر)، ابن الإسكندرية الكوزموبوليتانية، وفقًا للسياق الزمني الذي تدور فيه أحداث العمل، السؤال الأول عن الهوية، وتغمره حالة التيه التي طالت معظم أبطال عكاشة، بشر صاحب الهوية المختلطة، هجين من أب مصري وأم إيطالية، يتأرجح معذبًا بين حي كرموز حيث يقطن أبوه وأولاد البلد، وزيزينيا الحي الأرستقراطي حيث يسكن الخواجات مثل أمه وخاله الإيطاليين.
كان طه حسين من طليعة المثقفين الذين طرحوا مسألة الهوية المصرية عقب ثورة 1919، فحسب عميد الأدب العربي تتكون الهوية المصرية من مزيج من عنصر مصري يختلط مع العنصر العربي متمثل في الدين واللغة، إضافة للعنصر الغربي الأجنبي.
في «زيزينيا» يتمثل عكاشة برأي طه حسين في ما يخص الهوية المصرية، فيأتي (بشر) صاهرًا كل الثقافات ومتعايشًا مع جميع الجنسيات التي حوتها مدينة عكاشة الأثيرة.
وفي «أرابيسك» تغادر هذه الروح المعذبة (بشر) لتسكن (حسن النعماني) الذي يعاني من اغتراب نفسي عما حوله، ومثل بشر الذي يتأرجح بين عالمين، يتأرجح النعماني بين زمنين وقيمتين بعد أن فُقدت كل المعاني والقيم، حتى قيمة صنعته (الأرابيسك) التي ورثها أبًا عن جد.
وبالعودة إلى الراية البيضاء، رغم أن سؤال الهوية لم يكن مباشرًا مقارنة بالعملين السابقين، فإن فريق المثقفين الذين يلتفون حول أبو الغار يخوض كل منهم حربه الخاصة وصراعه مع نفسه ومع المجتمع من حوله. أمل صبور صحفية تعاني من أزمة ثقة في نفسها وفيمن حولها بعد تجربة قاسية دبرت لها من نماذج بشرية تنتمي إلى نفس نمط فضة. هشام الفنان التشكيلي هو أيضًا معذب ومتشكك في كونه فنانًا حقيقيًا. وهذه الأزمة لا يقتصر أثرها على شخوصهم بل تلقي بظلالها على علاقتهما العاطفية، تمامًا كما تتعثر العلاقة بين (بشر) و(عايدة) في «زيزينيا».
دائمًا يضع عكاشة أبطاله في حلقة مفرغة يبحثون فيها عن ذواتهم المعلقة بين عالمين، أشخاص معذبة يؤرقهم هاجس ما يتعلق بكينونتهم التي لا يستطيعون أن يضعوا أيديهم على كنهها.
عبقرية المكان
يتجاوز المكان في دراما عكاشة كونه بناءً ماديًا يشغل حيزًا ما، بل يشكل دائمًا ركيزة أساسية يبنى عليها الصراع لما يسبغه ذلك المكان من أبعاد ثقافية أو تاريخية.
في ملحمته «ليالي الحلمية» يجلس الأسطوات الثلاثة زكريا وشاهين ومتولي يغمرهم الأسى والعجز بعد أن تم بيع مقهى (زينهم السماحي) لنماذج من الانفتاحيين. يشكل المقهى للأسطوات ذاكرة حية لأفضل سنوات عمرهم وأيام الكفاح الوطني لأبناء حي الحلمية. وفي «أرابيسك» تجاوزت الورشة كونها مصدرًا للرزق بالنسبة لحسن النعماني فهي تجسد «فن الصنعة» وزخم التاريخ المتعاقب على مدى أجيال تمتد نسبها إلى النعماني الكبير، فنان الأرابيسك الذي نقله العثمانيون إلى أسطنبول ليستفيدوا من خبراته في البناء.
يأخذ المكان في الراية البيضاء متمثلاً في فيلا الدكتور «مفيد» مساحة أكبر مقارنة بمقهى السماحي أو ورشة حسن النعماني، فالصراع طوال العمل يدور حول نزع ملكية الفيلا من صاحبها. ومثلها مثل الورشة أو المقهى، تمثل الفيلا أيضًا صرحًا تاريخيًا وفنيًا، يستمد قيمته من كتب التراث واللوحات الفنية التي رسمها فنانون من مختلف الجنسيات، وتستمد هويتها التاريخية بالتحديد من القبو الذي استخدمه الوطنيون للاجتماع والاختباء من الإنجليز أثناء ثورة 1919.
ربما تطرح هذه السردية لتاريخ الفيلا الإسناد التاريخي والاجتماعي لصاحبها مفيد أبو الغار، فإذا كانت فضة المعداوي النسخة الأحدث للسبرسجية بسه والخمس، يمكننا القول إن مفيد أبو الغار والمثقفين وأولاد البلد الذين يصطفون معه في الحلقة الأخيرة ضد بلدوزر فضة المعداوي، هم الصورة الأحدث لطه السماحي والأسطوات الثلاثة. بيد أن الصراع بين الفريقين في عالم عكاشة أزلي وأبدي.
مر اثنا عشر عامًا على رحيل أسامة أنور عكاشة، لم يتمهل الموت ليشهد عكاشة ثورة الشباب وأبناء البلد الذين انحاز لصفهم دائمًا في أعماله التي ما زالت تستحق المشاهدة والاشتباك معها، عسى أن نجد إجابة لسؤال حسن النعماني «إحنا مين وأصلنا ايه؟» وحينها لن يضطر مفيد أبو الغار إلى رفع الراية البيضاء.