كتبتُ ذات يوم نصاً يختزل فكرة ما، ثم حفظته في الملاحظات المدونة على الهاتف، ونسيت أمره لأجدَه بعد فترة من الزمن بين ثنايا سطور رائعة نيتشه «هكذا تكلم زرادشت». قلت في نفسي: لو نشرت النص وقرأه شخص قد قرأ عمل نيتشه، لأطلق حكماً متسرعاً لا يُلام عليه: «هذا النص أو الفكرة مسروقة، أو في أفضل الأحوال تم إعادة صياغتها»؛ أو بكلمات أخرى دقيقة: «هذه الفكرة ليست أصيلة!».

لا شك أن المذنب هنا ليس القارئ الذي أصدر حكماً أشبه ما يكون باتهام الكاتب على أنه ليس كاتباً، وإنما الذنب، كل الذنب، يقع على عاتق المجتمع الثقافي والعقلية الثقافية السائدة التي تعزز فكرة أن أصالة الأفكار ترتبط ارتباطاً مصيرياً بالزمن أو الأسبقية في طرح الفكرة. فالكاتب الذي سبق كاتباً آخر في طرح أو كتابة فكرة ما أصبح يمتلك صكوك ملكيتها وحقوق نشرها، وأي كاتب ينشر فكرة مشابهة – حتى وإن لم يقرأ أصلاً عنها من قبل – هو بالضرورة وبلا أدنى شك كاتب سارق!

دعونا نتفق بدايةً أن الأفكار البشرية بصفة عامة كالمشاعر، نتشاركها مع بعضنا البعض، وهي ليست حكراً على أحد، ولا يمكن أن تكون كذلك. قد يراود شخصان فكرة ما، وقد يحظى أحدهما بالفرصة الزمنية المناسبة ليسبق الآخر في كتابتها ونشرها. ولا يعني هذا مطلقاً أنه قد امتلكها ملكاً مطلقاً، وأنه لا يمكن أن تُنسب هذه الفكرة في يوم ما إلى أي كاتب أو شخص آخر غيره.

لنأخذ مثالاً شائعاً في عالم الفلسفة: حين نسمع بمصطلح «العود الأبدي»، أول فيلسوف يتبادر إلى أذهاننا هو «فريدريك نيتشه» وعبارته الشهيرة عن دوامة التكرار الأبدي والتي تقول في جوهرها: «كل شيء حدث سيحدث مراراً وتكراراً في وقت لاحق». لكن الحقيقة أن هذه الفكرة الفلسفية ليست فكرة نيتشه «الأصيلة» – كما يشاء البعض تسميتها. فقد سبقه فلاسفة آخرون في طرحها مثل الرواقيين وفلاسفة الإغريق، ومنهم إمبيدوكليس.

«تظهر الصورة الميتافيزيقية للعود الأبدي في العقائد الفلكية اليونانية القديمة عند هيراقليطس وعند الرواقيين. على الرغم من أن بعض الباحثين يرون أنها أقدم من هيراقليطس، لأنها ظهرت قبلاً عند أنكسيمانس وأنكسيمندريس. اعتمد الباحثون القائلون بنسب فكرة العود الأبدي على بعض شذراته التي تشير إلى التكرار الدوري.»

الفلسفة حلقة مغلقة من الأفكار الأصيلة

الأفكار الأصيلة في الفلسفة معدودة ومحدودة. لا ينتج كل فيلسوف بالضرورة أفكاراً خاصة به لم يأتِ بها فيلسوف آخر من قبله. الأفكار في الفلسفة تظهر وتختفي لتظهر مجدداً في صورة جديدة ومتجددة حسب رؤية الفيلسوف الوجودية ونمط تفكيره وفلسفته في الحياة. أي أن جذور الأفكار تبقى ثابتة، وما يتفرع منها متغير ومتنوع.

«إن المتتبع لتاريخ الفلسفة يلحظ منذ طاليس إلى أفلاطون وصولاً إلى كانط أنه لا يوجد شيء داخل الفلسفة وما يحدث بداخلها سوى مسائل كررت نفسها. إن الفلسفة من وجهة نظر ألتوسير ما هي إلا تكرار للمواضيع التي سبق وأن طُرحت على بساط البحث والنقاش، وهي بهذا المعنى لا تضيف أي جديد للمعرفة. تظهر أفكار ثم تنقلب عليها أفكار أخرى، وتظهر محلها لتسرق منها الضوء الفلسفي أو ما يُعرف بالهيمنة الفلسفية.»

هل هذا يعني أن «الفلاسفة الحقيقيين» – كما يحلو للبعض تسميتهم بذلك – هم قلة قليلة في تاريخ الفلسفة؟ تعتمد الإجابة عن هذا السؤال على مدى فهم ووعي السائل بطبيعة الإنتاج الفلسفي وتكوينه، وإدراكه الفرق بين سرقة الأفكار وبين التأثر بها وبناء أفكار جديدة ومختلفة بناءً عليها.

توارد الأفكار وتبادلها بين الفلاسفة هو جزء مهم وأساسي من عملية الإنتاج الفلسفي. لا يهم إنتاج الأفكار فحسب، بل تطويرها كذلك يساهم في تعزيزها والحفاظ على طول أمدها.

الأفكار الأصيلة ليست فعالة دائماً

الأصالة في عالم الأفكار ليست بالضرورة مفتاح الإبداع أو التأثير في المجتمع؛ فقد يأتي فلان بفكرة لم يسبقه أحد من قبل في طرحها، لكن فكرته جامدة، لا تزال في صورتها الخام الأولى، تحتاج إلى بعض الإضافات والتعديلات، وتحتاج إلى بعض الإسقاطات الوجودية الواقعية حتى نقول عنها فكرة ذات تأثير وفعالية.

ثمة فرق دائماً بين أصالة الفكرة وفعاليتها. ليست كل فكرة أصيلة هي بالضرورة فكرة فعالة ومؤثرة. فمثلاً، اكتشاف الدورة الدموية حصل لأول مرة على يد العالم العربي ابن النفيس، ورغم أصالتها كفكرة، لم تكن ذات تأثير علمي كبير في الأوساط العلمية إلا بعد عدة قرون مع العالم الإنجليزي هارفي. وهذا ما يُسمى في عالم الفلسفة بمصطلح «هيمنة الأفكار» أو الهيمنة الفلسفية، نسبة إلى هيمنة الأفكار الفلسفية على بعضها البعض من خلال ظهور أفكار معينة بشكل بارز وفعال بعد اختفائها لمدة من الزمن على يد فلاسفة ومفكرين آخرين.

«فالمقصود بالهيمنة الفلسفية هو تكرار ظهور واختفاء بعض المواقف الفلسفية، يعني أن الأطروحات القديمة يُعاد إحياؤها لتظهر مرة أخرى في شكل فلسفات جديدة. ذلك أن الفلسفات القديمة، كما يرى ألتوسير، في حالة كمون واستعداد للوثوب واحتلال موقع الصدارة من جديد. ومن هذا المنطلق، فإن تاريخ الفلسفة كله هو تكرار مستمر لعملية التداول وانقلاب الأفكار المادية والمثالية.»

لص أفكار أم شريك آخر في صناعتها؟

حين نتطرق إلى موضوع كتابة الأفكار وتكرار صناعتها وإنتاجها من قبل أشخاص آخرين، يتبادر إلى الذهن سؤال جوهري مهم: كيف نميز إن كانت فكرة الكاتب الفلاني هي فكرته التي أخلص في كتابتها لوحده أم أنها فكرة مكررة ليس بدافع الصدفة وإنما السرقة الفكرية المحضة؟

لا يستطيع الواحد منا إنكار حقيقة أن الأفكار تُسرَق. بعض هذه السرقات تكون واضحة ومكشوفة لدى القراء، والبعض الآخر منها قد يصعب على القارئ تمييزها، أو بكلمات أدق، يصعب اتخاذ حكم منصف بحقها وبحق كاتبها: هل سرقها الكاتب من كاتب آخر أم أن الصدفة الزمنية هي الفارق الوحيد بين الفكرتين؟ في مثل هذه الأمور، يُعوَّل دائماً على القارئ الفذ؛ الذي يقرأ العمل الإبداعي بوجدانه وقلبه قبل عينيه، ولا يتسرع في الحكم لمجرد أنه صادف فكرة مشابهة في عمل آخر أو سمع رأي قراء آخرين يتهمون فيه العمل بالتزييف أو قلة الأصالة.