أصل الحكاية: الصورة كلغة وسلطة صامتة
تتوافد علينا الصور خلال لحظات وساعات اليوم الواحد من كل حدب وصوب، بشكل لم نكن قد اعتدنا عليه من قبل، وبخاصة بعد ثورة النجوم الاصطناعية والسرعة الخارقة للبث، وذلك من خلال ما يُعرف بمواقع التواصل الاجتماعي، مثل الفيسبوك بشكل عام، والإنستغرام بشكل خاص، وغيرهما من مواقع التواصل الاجتماعي التي لا حصر لها.
كما تعتبر الصورة هي محرك البحث الأساسي لموقع التواصل الاجتماعي «الإنستغرام» وذلك من خلال مشاركة كل فرد لجميع لحظات حياته العامة منها والخاصة، في صورة فوتوغرافية، يشاركها مع أصدقائه من جميع أنحاء العالم، مما جعل الصورة تنتشر على نطاق واسع، بل وأصبحت أداة رمزية تنقل لنا كل ما هو جديد دون الحاجة إلى لغة وثقافة البلد المحلية. كما لم يقتصر بث الصورة عبر مواقع التواصل الاجتماعي فقط، بينما تُبث أيضاً عبر وسائل الإعلام المختلفة من برامج تلفزيونية ومواد إعلانية.
ولكن هل تطرقنا من قبل للسؤال عن ماهية الصورة وتاريخها؟ وهل بدأ ظهورها بالفعل مع ثورة النجوم الاصطناعية أم كان لها وجودة من قبل؟ وهل تقتصر فقط في شكل واحد أم لها أشكال متعددة؟ وهل هي أداة موضوعية أم سلاح ذو حدين؟ وهل نحن منْ نتحكم فيها أم هي التي تتحكم فينا؟
هذا ما سوف نتناوله من خلال وجهه نظر الفيلسوف الفرنسي «ريجيس دوبريه» Régis Debray.
تاريخ الصورة ونشأتها
احتلت الصورة مكانة مهمة في حياتنا على مختلف العصور ومختلف الثقافات، فقد تغنّى بها الأدباء والشعراء، وتناولها الفلاسفة والمفكرون بالبحث والتفسير، بل وتتبعوها أيضاً عبر مراحل تشكلها وعبر عصورها المتميزة، أي عصور تحولها.
فقد عكف الفيلسوف الفرنسي «ريجيس دوبريه» في كتابه «حياة الصورة وموتها» على إبراز قوة الصورة كأداة من الأدوات الأساسية التي تعتمد عليها الوسائل السمعية البصرية، الذي يعتبرها سلطة رمزية بامتياز، وتتبعها محاولاً الكشف عن أنظمتها حسب كل عصر وعن مبدأ فعاليتها ونمط وجودها وأيضاً مصدر سلطانها. [1]
وكان أهم ما ركز عليه دوبريه في الكتابة عن الصورة، هو ضرورة إبراز العلاقات والتقاطعات بين الصورة وتاريخ الفن وتاريخ الدين من جهة، وتاريخ الصورة وتاريخ التقنية من جهة أخرى.
فقد نجد أن الصورة في فكر دوبريه لا تعني له تلك الصور المُجسدة أو الحائطية أو المنقوشة سواء على جلد أو صخر أو قماش فقط، بل هي تلك المتمثلات الذهنية التي تكوّنت عند الإنسان قبل ثلاثين ألف سنة قبل الميلاد كشيء يحتمي به ضد المجهول.
فدوبريه في كتابه هذا لم يكن يبحث عن كيفية تكوّن الصورة، بل حاول الكشف عن القانون غير المرئي للمرئي، أي إنه بحث في التمثلات الذهنية والرموز والأساليب التي استخدمت في قراءة الصورة، وكان ذلك نتيجة لوعيه الكامل بمدى أهمية السلطة الرمزية، أي سلطة الكلام الصامت، كأداة للتحكم وفرض السيطرة على الشعوب.
لقد مارست الصورة تأثيراً كبيراً على أفراد المجتمعات المختلفة، ولكن قوتها وسلطاتها قد تتغير وتتنوع حسب التطورات التكنولوجية والمعتقدات الجماعية.
الصورة وسيلة لمحاربة الموت
تعتبر الصورة أقدم وجوداً من الكتابة، بل وأكثر ترسخاً في اللاوعي الإنساني، فقد اعتمد عليها الإنسان في عاداته وتقاليده منذ القدم كوسيلة لمحاربة الموت، الذي كان وما زال صورة.
إن هذا العنصر هو ما جعل دوبريه يذهب للبحث عن أهم الثقافات التي اعتمدت حضارتها على الصورة، مثل حضارة مصر الفرعونية، وحضارة الإغريق، اللتان اتُخذا كأفضل وسيلة لتخليد الحياة لدى الأفراد والأمم. فقد اتخذت الصورة مكانه عظيمة منذ البداية، واستطاع الفرعون القديم عن طريق وعيه بالموت أن يرسم لنفسه صورة تجعله خالداً دائماً وأبداً، ولم تقتصر فقط على مجتمعه ووجوده حينذاك، وإنما أيضاً لكي يخلده عبر التاريخ وعبر الأجيال المتتالية.
ولعل سر خلود هذه الحضارة يكمن في تمكنها واستيعابها لمدى قيمة السلطة الرمزية، وبالتالي سلطة الصورة لتحنيط الزمن، التي بفضلها استطاعت حضارة اليوم أن تصنع متاحفها، ووجود حضارة الـ7000 سنة، وليصبح الميت هو منْ يعطي للحي قيمته -على حد تعبير دوبريه- إذ يبقى هاجس الموت هو المحرك الأساسي، فكلما كان الموت كان الأمل وكان الجمال.
لقد كانت الصورة محاكاة للطبيعة أو للإنسان، رسماً للإنسان الذي يغادر هذا العالم، فكانت وسيلة لمقاومة التناهي (الموت)، ولقد كان إبداع الصورة يعتمد على تقنية يدوية بدائية، إلى أن انتقلت شيئاً فشيئاً لتوصِل بين عالم الأحياء وعالم الأموات.
تأثير الصورة في القرون الوسطى
تناول دوبريه أيضاً العلاقة بين تاريخ الصورة وتاريخ الدين، الذي يجد أنها قد ظهرت مع البدايات الأولى لظهور الصورة، ولكنها عُرفت مع المسيحية على وجه الخصوص في القرون الوسطى، في الصراع بين الروحي والجسدي داخل الصورة التي ظلّت أكثر تعبيراً من الكتابة، فالنص دون صورة كالنظرية دون تطبيق.
فنجد أن للصورة حركة مؤثرة أكثر من الفكرة، وهذا ما اعتمدت عليه المسيحية في نشر أفكارها والترويج لها، التي تمت عن طريق المسرح باعتباره لوحة مليئة بالمعاني والدلالات.
والصورة بحسب رأي دوبريه هي لغة يتكلمها كل سكان العالم، كل بلهجته المحلية، وكل حسب ثقافته، وحسب ظروفه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فمجال الصورة المقروء أكثر اتساعاً من الكتابة، فالصورة هي اللغة الوحيدة المفهومة في كل أرجاء العالم والقادرة على مد الجسور بين الأمم والثقافات، إنها تربط عائلة الإنسان، فكل فرد يستطيع أن يقرأ ما تعبر عنه الصورة من خلال نظرة العين، بعيداً عن لهجته وثقافته.
سلطة الصورة
على المستوى الشخصي، نجد أن كثيراً ما يميل الإنسان لتجميل وجوده برسم صورة لعالم مُتخيل، يحبذ العيش فيه هروباً أو بحثاً عن استقرار وجودي، تُنعشه جملة العلاقات التي ينسجها بين العالمين.
يقول دوبريه في كتابه «مجتمع الاستعراض»:
والاستعراض هو وسائل الاتصال الجماهيرية التي تجعل السطحي يبدو الأشد بريقاً. [3] وحين يتحول العالم الواقعي إلى صورة بسيطة، تصبح هذه الصور حوافز فعّالة لسلوك في حالة تنويم، حيث يحقق الاستعراض السيطرة على المجتمع بواسطة أشياء تفوق الحواس وهي محسوسة كذلك، فيحل محل العالم المحسوس الصور التي توجد فوقه، التي تقدم نفسها على أنها المحسوس بلا منازع.
وهذا ما استغلته التيارات الليبرالية الجديدة، لخدمة قضاياها وفرض سطوتها وهيمنتها، وذلك من خلال مجتمع الاستعراض، بحيث تحول المجتمع إلى عرض واستعراض كبير، أصبحت الأشكال المرئية للسلع تسيطر على الحياة اليومية بشكل كامل، ففي لحظة الاستعراض تحقق السلعة تحكمها في الحياة الاجتماعية، فلا يعود باستطاعة المرء أن يرى سواها، فالعالم الذي يراه هو عالمها، كما يتحول المستهلك الواقعي إلى مستهلك للأوهام، والسلعة هي هذا الوهم الواقعي.
وبما أن الصورة ليست أبداً موضوعية، ولا تكتفى بإعادة إنتاج الواقع كما هو، فهي تفرض على مستهلكيها حمولاتها وتوجهه تبعاً لرغباتها، متحكماً فيها أعين خفية، تسمح لها بمراقبة كائن أصبح ساكناً في مكانه، ينتظر قدومها، مُعتقداً الاستمتاع بها.
الصورة كسلاح متطور
أصبحت الصورة اليوم سلاحاً متطوراً للغزو والتأثير على الجماعات والأفراد والشعوب، وغدت وسيلة حرب مضمرة أحياناً ومعلنة أحياناً أخرى، وأصبح المتحكم في الصورة هو المسيطر على الرأي العام. فنظرة المشاهد أو المتفرج في عصرنا الحالي لا يدرك بها غير المرئي من وراء المرئي ولا الموضوع المطروح بموضوعية. ماذا يرى إذن؟ [4]
قد يجيب البعض على أنه يرى العالم، ولكن دوبريه يكشف عمّا يحجبه التلفزيون ويمنع رؤيته، وقدرة الصورة ووسائل الإعلام على إقصاء الواقع أو إبعاده عن ساحة الإدراك، فالصورة تكاد تعوِّض الواقع، فلا وجود إلا لما تُظهره عيون الكاميرا، أي لا وجود إلا لما هو مرئي أو ما نريد أن نجعله مرئياً، فالأحداث التي لم تلتقطها عيون الكاميرات أو القنوات التلفزيونية هي أحداث محتجبة أو منسية، فالصورة تملك المقدرة على استحضار الغائب وتغييب الحاضر.
وقد اعتبر دوبريه أن فاعلية الفكرة تُقاس بمدى قوتها المادية، وكل عصر برع بطريقته في إخراج الفكر إلى بعده المادي عبر مرتكزات ووسائل نقل تعددت واختلفت باختلاف المجتمعات ووسائطها، التي لا يمكن الاستغناء عنها من أجل تمرير الفكرة. [5]
كما انتقل عصرنا الحالي مع تطور الوسائل التقنية والوسائل المتعددة إلى مرحلة متسارعة، أصبح فيها الجمهور يميل إلى التحصل على المعلومة بأسرع الطرق، وهو ما عوده عليه نمط الحياة الجديدة في مجتمعات استهلاكية لا تعرف التباطؤ.
فالعمل ونظام السوق فرضا تبعية رهيبة للوسيط المادي، فليس بإمكان عقل أن يؤثر على عقل آخر إلا بالتجسيد في صورة مادية معينة (كلام، كتابة، صورة). دون هذا لا يمكن لأي فكرة أن تُصبح حدثاً وتؤثر.
إلا أن دوبريه لم يؤكد خطورة الفكرة في حد ذاتها، بل على خطورة الوسائط التي تنقلها، وبخاصة تلك التي تُمرَّر للإنسان عبر الأجهزة التقنية، وتكون الصورة وسيلتها.
وما أقوى تأثير الصورة لأنها تخلق حولها الحياة وإدراكها يتم بجميع الحواس، فعصرنا عصر أصيب بالعمى جرّاء كثرة الصور التي تُعرض علينا، عمى مُبرر لأن القيمة تتلاشى ولا ترى الأشياء على حقيقتها، أو كما قال دوبريه:
- D. Regis، Vie et mort de l’image، Paris: Ed, Gallimard, 1992.
- ش. عبد الحميد، “عصر الصورة”، المجلد 311، الكويت: سلسلة عالم المعرفة، 2005، ص119.
- م. فوكو، “المراقبة والمعاقبة”، بيروت: مركز الإنماء العربى، 1990، ص 13-15.
- ن. ا. العياضى، “إعلام العربية بين البصر والبصيرة”، المجلد 1، الإذاعات العربية مجلة فصلية، 2006، ص 77.
- ريجيس دوبريه، “محاضرات في علم الإعلام العام (الميديولوجيا)”، بيروت: دار الطليعة، 1996، ص 201.
- المرجع السابق.