الوجه الآخر لـ«المستشرقين»: شهادات عالمية أنصفت الإسلام
يتمتع المستشرقون بسيرة نمطية سيئة، جعلت الكثير من العرب والمسلمين يعتبرونهم حفنة من المخربين للعقل الإسلامي، وجواسيس غربيين جّل غايتهم تمزيق الهوية المحمدية؛ ما عطل كثيرا الانتباه إلى ضرورة استخدام آراء بعضهم الإيجابية، لتفكيك الصورة المتوحشة عن الإسلام في الغرب، وإعادة تركيبها من جديد، وفق حقائق ضاغطة، تستطيع تحطيم الأصنام النفسية، التي تتراص يوما بعد الآخر، من جراء إرهاب أصولي، بات يمثل مصدر تهديد للعالم أجمع.
ما الذي عاد بالقضية إلى الواجهة؟
مع تنامي الدموية، وعمليات القتل البربرية الموثقة على الإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي، وحملات الترهيب الداعشي للغرب، بات الإسلام نفسه يتعرض للتشويه والطعن فيه، وتصاعدت الهجمات الشرسة لربطه بالإرهاب وترويع الآمنين؛ الأمر الذي دعا الدكتور محمد عمارة، المفكر المصري الإسلامي الكبير، إلى مطالبة المسلمين في المجتمعات الغربية بإعادة نشر الشهادات الاستشراقية، التي كتبها علماء غربيون لإنصاف الإسلام والإشادة بعقلانيته وسلميته، باعتبارها شهادة شهود من أهلها، لابد أن تجد من العقل الغربي قبولا يسهم في تصحيح الصورة الزائفة التي يصنعها اليمين الغربي، بدعاوى الإسلاموفوبيا، ما جعلنا ننقب بين صفحات الكتب، ومراكز الدارسات الاستشراقية، عن هؤلاء الذين يمكن الاستدلال بآراء لهم، ربما تسهم في تذويب الفجوة بين الشرق والغرب، والإسلام وغيره من الديانات الأخرى.
تيودور نولدكه
مؤرخ وعالم لغة ألماني، مُلقب بشيخ المستشرقين الألمان، ولد عام 1836 في هامبورج، أتقن العربية، والعبرية، والسريانية، وحصل على القرآن الدكتوراه عام 1856، برسالة عنوانها «تاريخ ».
في كتابه «تاريخ القرآن»، يجيب نولدكه بموضوعية عن سبب اعتبار المسلمين للإسلام دينا ودولة، قائلا: لم يكن بوسع محمد أن يفصل بين الروحانيات والدنيويات، ومن العدل أن نعترف أن الدين ونظام المجتمع كان وثيقي الارتباط في ذلك الوقت، فإنزال الله تشريعات دينية، من شأنها أن ترفع في العموم من شأن الحياة اليومية.
ويضيف: دعوة محمد لبني قومه، رغم الخطر والسخرية، اللذين تعرض لهما، ليدعوهم إلى الإيمان، نموذج لحماس الأنبياء الذي يتصاعد حتى التشدد، وكلما ازدادت دقة تعرفنا على أحسن كتب السيرة، وعلى المصدر الصحيح للمعرفة وهو القرآن، ترسخ اعتقادنا أن محمدا آمن في صميم نفسه بحقيقة ما دعا إليه، للاستبدال بعبادة العرب الكاذبة للأصنام دينا أسمى، يمنح الغبطة المؤمنين.
ويتساءل نولدكه: لو كان محمدا دجالا فكيف انضم إليه رجال مسلمون كثر، كرام، عقلاء، من عائلات عالية القدر، تربوا على كل ما يحوزه العربي الأرستقراطي من كبرياء النسب، وارتضوا بالتآلف مع رهط معظمه عبيد، وأناس من الفئات الاجتماعية الدنيا، ما كان يُحسب عليهم عارًا كبيرًا، معتبرًا أنه صاحب رسالة سامية تستحق الاحترام.
إدوارد مونتيه
مستشرق فرنسي، ولد عام 1856، وكان صاحب اللبنة الأولى في ترجمة القرآن الكريم إلى الفرنسية، وله العديد من المؤلفات التي تنصف الإسلام، أهمها كتابه «حاضر الإسلام ومستقبله».
يقول الدكتور محمد عمارة المفكر الإسلامي عن «مونتيه»: كان يرى إن الإسلام في جوهره دين عقلي بأوسع معاني هذه الكلمة من الوجهتين، الاشتقاقية والتاريخية، كما كان يراه مجموعة من العقائد، تقوم أيضا على أساس المنطق والعقل، واعتبر أن بساطة هذه التعاليم ووضوحها تظهر القوى الفعالة في الدين الإسلامي وفي نشاط الدعوة إليه.
وحسب دراسة للباحث بالمركز الإسلامي للدراسات الاستشراقية، عصام فخري، كان مونتيه يدافع عن النبي محمد، ويرد على دعاوى المستشرقين وافتراءهم على الوحي، قائلا: «كان محمّد نبياً بالمعنى الذي يعرفه العبرانيون القدماء، صادقا يدافع عن عقيدة خالصة، يؤتى رؤيا ويوحى إليه، كما كان أنبياء بني إسرائيل في العهد القديم».
رينولد نيكلسون
من أكبر الباحثين في التّصوف الإسلامي، وُلد في عام1868، وكان زميلاً في كلية الثالوث بكمبردج، ثم انتقل إلى كلية الجامعة في لندن، كما كان من محرري دائرة المعارف، وعضوا بالمجمع اللغوي المصري.
الباحث بمؤسسة مؤمنون بلا حدود، خالد محمد عبده، يؤكد في دراسة له، أن مكتبة «نيكلسون» عن الإسلام، ثرية بالمؤلفات المتنوعة في التصوف والأدب، أهمها فصل قيم في كتابه «تاريخ الأدب العربي» يعرض فيه رؤاه عن محمد والقرآن قائلا: القرآن سجل إنساني كامل البنيان والبيان، ونتعرف منه على جميع أطوار شخصية محمد، وعن مختلف علاقاته في حياته الخاصة والعامة.
ويستكمل: القرآن كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإنه لكتاب عزيز؛ نستخرج منه مادة من حقائق لا نزاع فيها، كما نعرف منه الأصول والتطورات التي مرّ بها الإسلام في أول عهده، وهي ميزة لهذا الدين، لا توجد في غيره من الأديان الأخرى، كالبوذية والمسيحية واليهودية.
ليون كايتاني
أمير ومستشرق إيطالي، ولد عام 1869، وأتقن العربية وهو في الخامسة عشرة من عمره، وقام برحلات إلى كل أرجاء العالم الإسلامي لجمع مواد أبحاثه، وله كتاب شهير اسمه «حوليات الإسلام» يقول عنه الدكتور عبد الرحمن بدوي، في كتابه الفريد موسوعة المستشرقين: الكتاب يهمل الجانب الديني تماماً ويبرز العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والجغرافية التي نشأ فيها الإسلام، ويحمل ميزة كبيرة، ونقلة نوعية في منهج دراسة وكتابة التاريخ الإسلامي لدى المستشرقين.
ويضيف: يمثل أحد جوانب الكتاب رد اعتبار للدين الإسلامي ورسوله، بعد قرون من استصغار الإسلام، والتهجم على رسوله الكريم، فالروح النقدية التي سادت نظرة «كايتاني» عن الإسلام والسيرة النبوية، لم تصدر عن تحامل على الدين، كما هو الحال عند كثير من المستشرقين، بل عن نزعة وضعية في معالجة أحداث التاريخ، على النحو الذي صار شائعا عند المؤرخين، ذوي النزعة العلمية الوضعية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
هاملتون جب
مستشرق بريطاني، ولد بمدينة الإسكندرية المصرية عام 1895م، وهاجر منها إلى أسكتلندا وهو في الخامسة من عمره، والتحق بجامعة أدنبرة لدارسة اللغات السامية، وعمل محاضرا في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن عام 1921م.
في كتابه دراسات في حضارة الإسلام، يؤكد هاملتون أن التعاليم الاجتماعية التي جاء بها محمد في أساسها إعادة لإحقاق المبادئ الأخلاقية التي تشترك فيها ديانات التوحيد، فازداد ترسيخ معني الأخوة، ما جعل الجميع سواسية من حيث القيمة الشخصية الفطرية، دون النظر إلى مكانتهم الدنيوية، ووظائفهم وثرواتهم.
ويضيف المستشرق الشهير: تطور الثقافة الإسلامية على مدى القرون الماضية كان خلفها تعاليم الرسول التي تضمنت واجبات وحقوقا اجتماعية وأخلاقية يجب أن تؤدى لأتباع الديانات الأخرى.
جاك برك
مستشرق فرنسي، وأحد أهم أعلام الفكر الاستشراقي على الصعيد العالمي، ولد عام 1910، في ضواحي الجزائر العاصمة، وقطن بها طوال العشرين سنة الأولى من حياته، تعلم خلالها العربية، وتعمق فيها بعد انتقاله إلى المغرب، وعين مراقبا مدنيا إبان عهد الحماية الفرنسية فيها، وعرف باعتداله وموضوعيته، وإجادته اللغة العربية ما أهله للحصول على عضوية مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وكان دائما ما يصف نفسه بـ «أخا العرب».
في مذكرات نشرها «بيرك» عام 1989 اختار لها عنوان «بين الضفتين» حاول المستشرق الفرنسي التوفيق والتقريب بين بلاد الإسلام وأوروبا المسيحية قائلا: إن معاوية بن أبي سفيان، مؤسس الدولة الأموية، تأثر بالحضارة البيزنطية في بلاد الشام، ومعه بدأ «الإسلام المتوسطي» المنفتح على العالم، وبعده سار العباسيون في نفس الطريق، فصارت بغداد عاصمة الثقافة وساحة للقاء الحضارات.
ويضيف بيرك: الإسلام دين يحترم الطبيعة الإنسانية، والمسيحية أيضا تحترم الشخص، ما يؤدي إلى تكامل المجتمع، ليصل إلى جمال «أسطورة الأندلس»، حينما التقت الحضارتان الأوروبية المسيحية بالإسلام طيلة سبعة قرون.
مونتجمري وات
قسيس أنجليكاني، ولد عام 1909، درس الإسلام وتاريخه وحضارته على مدى أكثر من ثلث قرن، وحصل على دراساته العليا، الماجستير والدكتوراه، في الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام الإسلامي.
عن ضرورة الحوار بين الشرق والعرب، يقول مونتجمري في كتابه الإسلام والمسيحية في العالم المعاصر: من المستحيل عمل مقارنة بين الأديان بنزاهة حقيقية، فلا أحد يستطيع معرفة المسيحية من الداخل ولا أحد يستطيع معرفة الإسلام من الداخل بدرجة كافية، والشخص التارك دينه لا يستطيع أيضا فعل ذلك، ولا يمكنه أن يقدم تحليلا أو رؤية غير منحازة لخياراته، باختصار .. لا أحد من حقه أن يقول إن «ديني أفضل من دينك».
ويرى مونتجمري أن أقصي ما يمكن قوله من كل إنسان عن دينه إن تلك هي الرسالة الإيجابية لديني وأنا أعتقد وأؤمن أنها رسالة حقه، فالإنسان لو يؤمن حقا بصحة معتقداته، هو ليس بحاجة أن يؤكد دائما للآخرين أنها الأرقى والأفضل.
أوليفيه روا
مفكر فرنسي معاصر، مواليد عام 1948، من أبرز المتخصصين في الحركات السياسية الإسلامية المعاصرة بالشرق الأوسط، وكان يرى أن الإرهاب الذي يرتكب باسم الإسلام نتيجة ناجمة عن فشل مشروع إقامة دولة إسلامية، فضلا عن تبني الجماعات المنادية بتحكيمه في السياسة لأصولية دينية لا تلاقي قبول أغلب المسلمين أنفسهم.
في 2015 كانت فرنسا تتعرض لأبشع عمليات إرهابية في تاريخها، خلفت قتلى ورهائن، وتبناها تنظيم داعش، فكتب «روا» في اللوموند الفرنسية مقالا شارحا لأسباب الأزمة، ورفض فيه تحميل الإسلام المسئولية قائلا: الهجمات على فرنسا تصدى لها فرنسيون، وهم جزء من الثقافة والكينونة الغربية، صحيح أن داعش جندهم، ولكنه أتي بهم من عالم المخدرات والضياع، لينتقلوا إلى عالم مواز، يسهل لهم نقل التطرف سريعا، مضيفا: هؤلاء لم يصبحوا راديكاليين، لأننا علمناهم الإسلام الراديكالي في المدارس والمحاضن الأسرية، بل إنهم يبحثون عن الإسلام الراديكالي، لأنهم راديكاليون ويريدون الراديكالية.
آن الأوان لإعادة تدوير آراء المستشرقين الإيجابية، خاصة تلك التي تناولت الإسلام بإنصاف، فالتحالفات العسكرية رغم كونها تمثل قوة ردع خشنة للجماعات الإرهابية والتنظيمات التكفيرية، عليها ما عليها من الانتقادات؛ فالإنسانية أصبحت في حاجة إلى تحالفات فكرية، لمواجهة هذه الظواهر الهمجية، التي لا تفرق بين مسلم وغيره، خاصة أن هناك مشتركات نفسية، تفرض علينا احترام عقل الإنسان، وحريته في التفكير والتعبير، بجانب المحافظة على الأرواح البشرية، وهو مطلب يتفق فيه الإسلام مع كل الديانات السماوية.