مستشرقون ومهتدون في مشهد الحج الأعظم
استكشاف مكة
للمستشرقين والرحّالة والمهتدين الغربيين في مكة مشاهد وجولات، تتميز هذه المشاهد بطابع التدوين الانطباعي الذي يعكس أمرين في غالب ما كتبه هؤلاء؛ الأول: أثر المعتقدات الغربية على ثقافة هؤلاء ونظرتهم للآخر المسلم، ولشعائر الإسلام ومنها الحجّ. والثاني: أثر مشهد الحج ذاته، ومكة المكرمة على نفس هذا الرحّالة أو المستشرق بعد الزيارة والمعاينة والتلاقي مع المسلمين من أصقاع العالم أجمع. ولهذا الموضوع أهميته بلا شك.
لقد كان أول من ادّعى الوصول إلى مكة المكرمة من المستشرقين «جون كابوت» عام 1480م. أي قبل 12 عامًا من سقوط الأندلس واكتشاف أمريكا، ولكن لم يصل إلينا أي شيء مما كتب عن تلك الرحلة على حد قول الكاتب خالد الطويلي[1].
على أن أول تقرير وصلنا حول رحلة مستشرق إلى الحج، كانت من رجل إيطالي يُدعى «لودفيجو دي فارتيما» عام 1503م، حيث دخل مكة المكرمة بوصفه جنديًا في حرس المماليك، وانتحل لنفسه اسم الحاج «يونس المصري»، وفي الثامن من أبريل/نيسان 1503م، تحرّك فارتيما إلى مكة المكرمة في زي جندي مملوك، وحينما وصل إلى المدينة النبوية بقي فيها ثلاثة أيام، ودخل الحرم النبوي الشريف، فوصفه وصفًا موجزًا.
لقد مضى فارتيما في نقل انطباعاته ومشاهداته عن مكة المشرفة في موعد الحج، فيذكر في الفصل المخصص للحج من رحلته أن مركز مكة المكرمة يوجد فيه «معبد» جميل جدًا، على حدّ تعبيره وهو يقصد بذلك المسجد الحرام، وللمسجد الحرام أو المعبد كما يسميه مئة باب، ثم يشير إلى وجود الكعبة الشريفة في الوسط بوصفها برجًا، ثم يصفُ بئر زمزم قائلًا:
وعن الأعداد الكبيرة، والأجناس الشتى من الناس الذين رآهم في مشهد الحج فإنه يقول:
رحّالة القرن التاسع عشر
أما السويسري «جون لويس بوركهارت» فيُعد من أشهر رحالي القرن التاسع عشر، والذي شارك في موسم الحج متخفيا تحت اسم مستعار وهو «الشيخ إبراهيم» وقد نزل في جدة عام 1814م، وسار منها إلى الطائف لمقابلة محمد علي باشا والي مصر، ثم قصد مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، وعن رحلته لمكة ومشاهدته على موسم حج ذاك العام يقول:
لقد دُهش الكولونيل والمؤلف البريطاني «ف . بودلي» من شعيرة الحج وثباتها على مدار السنين، ففي كتابه «الرسول» يُعلّق على مشهد حج الرسول – صلى الله عليه وسلم-، وأصحابه – رضوان الله عليهم- قائًلا:
وقد تمكن السير البريطاني «ريتشارد بيرتون» من النفاذ إلى زيارة مكة المكرمة بالفعل في موسم الحج لعام 1853م، وقبل أشهر عديدة علي رحلته استعدّ بيرتون متخذًا جميع التدابير اللازمة للقيام بمهمته، حتى أنه عمد إلى الاختتان وهو يومئذ في الـ 32 من عمره، وقد وصل بيرتون إلى المدينة المنورة أولاً، وكتب عن تشكيلات خدم الحرم النبوي، ثم إلى مكة المكرمة التي يقول عنها حينما وصلها لأول مرة:
مكة في عيون جرمانوس وهوفمان
أما عبد الكريم جرمانوس فمن المستشرقين المجريين المحدثين نسبيًا، وأحد هؤلاء الغربيين المهتدين القلائل الذين زاروا الأماكن المقدسة في مكة والمدينة في النصف الأول من القرن العشرين حيث سافر عام 1935م، وكتب مذكرات رحلته إلى الأماكن المقدسة باللغة المجرية تحت عنوان «الله أكبر»، وتُرجم هذا الكتاب إلى لغات عدة، ولشدة تأثّره بهذه الفريضة عاد إلى الأراضي المقدسة مرة ثانية حاجًا عام 1939م[7].
وإنّ لجرمانوس فضل غير مباشر في حثّ الكاتب والأديب المصري «محمد حسين هيكل» على الحج وزيارة الأماكن المقدسة التي سجّلها في كتابه «في منزل الوحي»؛ حيث يقول في مقدمة كتابه الآنف:
ويقول محمد حسين هيكل: فقلتُ في نفسي: «أو يكون هذا الأستاذ الأوروبي الحديث العهد بالإسلام أصدقُ عزماً مني في زيارة الأماكن الإسلامية المقدسة؟».
أما من أشهر المستشرقين المهتدين من زاروا مكة في الأعوام الثلاثين الأخيرة فهو المفكر والدبلوماسي الألماني المسلم «مراد هوفمان» الذي حج مرارًا منذ أسلم في بداية الثمانينات، وفي حجه الثاني في بداية التسعينيات، يروي تأملاته القيّمة حول هذه الفريضة العظيمة؛ إذ يقرر أنه اضطلع على معظم التقارير التي كتبها بنو جلدته من الغربيين حول الحج مثل بيرتون وبوركهارت وغيرهم، لكنه يُقرّ بأنه لم يجد أفضل من القرآن زادًا لتلك الرحلة، وهو عن يوم عرفة وما شاهده فيه يقول:
وحسبنا بقول هوفمان هذا أن نختم هذا التطواف السريع لمشاهد بعض هؤلاء الغربيين عن الحج منذ القرن السادس عشر الميلادي وحتى القرن العشرين، وهي في مجملها لا تخلو من بعض الأغاليط والأخطاء التي رسّختها الثقافة الغربية في نفس هؤلاء المستشرقين، لكن انطباعتهم وتدويناتهم كانت في المقابل تفنيدًا لهذه المزاعم، وانعكاسًا لتجربة ذاتية جديدة أثّرت فيهم، حتى إن بعضهم تداعى للحج مرة أخرى كما فعل جرمانوس وهوفمان.
- خالد الطويلي: مقال بعنوان "الحج والحجاج في كتب المستشرقين"، مجلة المعرفة – ديسمبر 2008م.
- رحلات فارتيما (الحاج يونس المصري)، ترجمة وتعليق عبد الرحمن الشيخ ص55. الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة، 1994م.
- رحلات فارتيما (الحاج يونس المصري)، ترجمة وتعليق عبد الرحمن الشيخ ص52، 53.
- خالد الطويلي: مقال بعنوان "الحج والحجاج في كتب المستشرقين"، مجلة المعرفة – ديسمبر 2008م.
- ر.ف.بودلي: الرسول، ترجمة محمد محمد فرج و عبد الحميد السحّار ص314. مكتبة مصر – بدون.
- رحلة بيرتون إلى مصر والحجاز، تحقيق عبد الرحمن الشيخ 3/7. الهيئة العامة المصرية للكتاب – القاهرة، 1995م.
- ياسر حجازي: مقال بعنوان "عبد الكريم جرمانوس؛ المستشرق عاشق القرآن والعربية"، موقع إسلام أون لاين.
- محمد حسين هيكل: في منزل الوحي ص39. دار المعارف، الطبعة الثامنة.
- مراد هوفمان: الطريق إلى مكة ص24. دار الشروق، الطبعة الأولى – القاهرة، 1998م.