لماذا يختبئ قادة التنظيمات في قلب المدن المزدحمة؟
أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية مطلع أغسطس/آب 2022، مقتل زعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري، بطائرة من دون طيار استهدفت المنزل الذي كان يقيم به في العاصمة الأفغانية كابل. ومما يلفت النظر هنا هو محل إقامة الظواهري، فلم يكن من المتوقع أن يكون محل إقامته عاصمة مكتظة بالسكان، بل وفي منزل يقع في منطقة محصّنة، بجوار منزل أحد قيادات الشرطة الأفغانية.
ولكن عندما تتبّعنا حوادث مقتل زعماء الحركات والتنظيمات المتطرفة أو الأماكن التي قضوا بها الفترة الأخيرة من حياتهم، وجدنا أن أشهرهم كان مثل أيمن الظواهري، يعيش في مدن وأماكن لا يتخيل أحد أنهم يعيشون فيها.
الملا عمر
بعد سقوط حكم طالبان عام 2001 في أفغانستان من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، أصبح، ملا محمد عمر مجاهد، زعيم حركة طالبان الأفغانية، والشخصية المعنوية لأفرادها، والمعروف إعلاميًا بـ«الملا عمر»، أحد أبرز المطلوبين من قبل أمريكا، والتي سعت بكل قوة من أجل الإمساك به، ورصدت 10 ملايين دولار من أجل القبض عليه.
وكانت أجهزة الاستخبارات الأمريكية تعتقد، بل وتثق أن الملا عمر يعيش خارج أفغانستان. وهو ما ذكره «ديفيد بتريوس»، مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية حينها والقائد العسكري السابق بأفغانستان والعراق، في مقابلة له، حيث أكّد أنه من غير المرجّح بقاء الملا عمر في أفغانستان، لأنه من الممكن استهدافه بسهولة فيها، مؤكدًا أن الولايات المتحدة يمكنها الوصول إلى أي مكان داخل أفغانستان.
كما ذكر بتريوس أن الملا أيضًا لا يغامر بالإقامة الدائمة في مكان واحد في باكستان، إنما يتنقل بين بلوشستان وكراتشي على الساحل الجنوبي. وهو ما ثبت عكسه بعد ذلك، حيث ثبت أن الملا عمر فرّ من قندهار بعد سقوط حكمه إلى ولاية زابل جنوب أفغانستان، وأمضى عدة سنوات في عاصمة الولاية مُختبئًا في منزل سائقه.
وبعد أن أنشأ الجيش الأمريكي قاعدة عسكرية قريبة من هذا المنزل، انتقل الملا إلى منطقة سيوراي الموجودة في زابل أيضًا، والتي ظل مقيمًا بها حتى وفاته في عام 2013. وكان المنزل الذي يقيم به قريبًا أيضًا من قاعدة أمريكية، لكنها أصغر من سابقتها.
ونرى أن الملا عمر فضّل المكوث في أفغانستان لعدة أسباب؛ أولهما خداع المخابرات الأمريكية التي لن تتوقع منه المغامرة بحياته بالبقاء في أفغانستان، وبالتالي ستتجه أنظارها إلى البحث عنه خارجها، وهو ما حدث بالفعل، بل إن الولايات المتحدة الأمريكية والعالم كله لم يعرفا وفاته إلا بعد أكثر من عامين.
أمّا السبب الثاني، فهو أن الملا كان على ثقة بأنه سيكون أكثر أمانًا في أفغانستان، بل وفي ولاية زابل مسقط رأسه، وفي منزل قريب من قاعدة عسكرية أمريكية؛ لأنه لم يكن معروفًا لدى الشعب الأفغاني، ولم يكن يظهر إعلاميًا، بل كان معظم أعضاء الحركة لا يعرفونه. وهذا الأمر كان مهمًا جدًا في تأمينه. واستفاد منه بعد ذلك تنظيم داعش، واتخذ منه استراتيجية لتأمين زعمائه، فـ«عبد الله قرداش» لم يظهر أبدًا في أي وسيلة إعلامية منذ توليه قيادة داعش وحتى مقتله في فبراير/شباط الماضي 2022. أمّا «أبو الحسن الهاشمي» الزعيم الحالي لداعش، فلم يظهر حتى الآن، ولم يعرفه أحد من أفراد التنظيم سوى من يطلقون عليهم أهل الحل والعقد.
أمّا السبب الثالث، لبقاء الملا في بلاده فذكره الأستاذ «أحمد موفق زيدان»، الباحث المتخصِّص في الشأن الباكستاني والأفغاني في دراسة له بعنوان «طالبان أفغانستان: قصة اختفاء الزعيم وتحديات ما بعد الرحيل»، حيث قال، إن الملا عمر لم يترك أفغانستان، وأقسم على عدم الخروج منها، وأنه رغم مرضه أصرَّ على البقاء في أفغانستان حتى الموت والدفن فيها. كما ذكر زيدان أن أحد عناصر الحركة نقل له قَوْلة الملا:
السبب الرابع لبقاء الملا في زابل وهو أكثر واقعية من السبب الثالث، سبب سياسي ذكره «برهان عثمان» كبير المحللين في مجموعة الأزمات الدولية؛ حيث ذكر أن الملا لم يذهب إلى باكستان لأنه كان يتشكك في نوايا القادة الباكستانيين؛ لوضعهم مسئولين كبارًا من طالبان تحت الإقامة الجبرية، وأضاف أن ما توصل إليه من مصادر متسقة يفيد أن الملا كان يخشى أن يتلاعب به القادة الباكستانيون أو أن يستخدموا وجوده لديهم لتحوير اتجاه الحركة.
أسامة بن لادن
في 2 مايو/أيار 2011 استيقظ العالم على خبر مقتل أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة، في هجوم نفذته قوات خاصة من البحرية الأمريكية على المنزل الذي كان يقيم به في مدينة آبوت آباد، التي تبعد حوالي 50 كم عن العاصمة الباكستانية إسلام آباد.
وكان المنزل الذي يقيم به بن لادن منزلًا كبيرًا به حديقة كبيرة مزروعة بالخضراوات والأشجار وفقًا لتقرير مصور نشرته قناة «الجزيرة»؛ ذكرت فيه أن الصور المعروضة التقطت للمنزل بعد ساعات من الهجوم، مضيفة أن بن لادن عاش في هذا المنزل لمدة 6 أعوام. كما كان المنزل قريبًا جدًا من الكلية العسكرية الباكستانية، وهو ما أثار الدهشة؛ حيث كان يُعتقد أنه يعيش في جبال أفغانستان.
ونرى أن سبب وجود أسامة بن لادن في مدينة آبوت آباد وليس في جبال أفغانستان أو على الحدود الأفغانية الباكستانية، أو في أي فرع من فروع القاعدة، هو نوع من التخفي، والوجود في أماكن بعيدة إلى حدٍ ما عن توقعات المخابرات الأمريكية التي كانت تراه أخطر رجل في العالم، ورصدت ملايين من الدولارات لمن يرشد عن مكانه.
وبالطبع لن يكون في مأمن إن ظلّ في جبال أفغانستان، أو على الحدود الأفغانية الباكستانية، أو في مناطق تواجد أي من فروع القاعدة في شبه الجزيرة العربية أو غرب إفريقيا، لذلك وجد ضالته في منزل كبير به كافة مقومات العيش من حديقة ومكان لتربية الدجاج والحيوانات، في مدينة قريبة من العاصمة إسلام آباد.
ويؤكد ذلك ما ذكره «عبد الباري عطوان» من أن بن لادن والظواهري كانا في حالة من التخفي الدائم، وانخرطا في توفير أمنهما الشخصي وتجنب الوقوع في أيدي مطارديهم من أجهزة الاستخبارات الأمريكية. ويؤكد عطوان أن هذا الانخراط قد شغل بن لادن عن متابعة تنظيم القاعدة وتطورات الأوضاع على الأرض وخصوصًا في العراق. ويستشهد عطوان لذلك بحديث بن لادن عام 2010 عن التغيير المناخي والكوارث الطبيعية التي من الممكن أن تهدد إفريقيا وباكستان.
أبو بكر البغدادي وعبد الله قرداش
في 26 أكتوبر/تشرين الأول 2019، قُتل أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم داعش، نتيجة غارة أمريكية على المنزل الذي كان يُقيم به في قرية باريشا، إحدى قرى إدلب، شمال غرب سوريا.
وفي مطلع فبراير الماضي (2022)، أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن مقتل أبو إبراهيم القرشي المعروف بـ«عبد الله قرداش» زعيم تنظيم داعش الذي تولى قيادة التنظيم خلفًا للبغدادي، في عملية إنزال بالمروحيات استهدفت المنزل الذي كان يقيمُ فيه في بلدة أطمه شمالي إدلب أيضًا. وهو أمر مثير للدهشة، حيث تقع إدلب تحت سيطرة هيئة تحرير الشام، جبهة النصرة سابقًا. ومن المعروف أن هناك خلافًا كبيرًا بين الهيئة وداعش منذ إعلان الثاني الانشقاق عن القاعدة عام 2013. هذا الخلاف أدى إلى حرب طاحنة بين التنظيمين، طالت مدن سورية مختلفة، بل إن الجولاني زعيم الهيئة هدّد بنقل المعركة مع داعش إلى العراق، وضربهم في عقر دارهم. كما أن داعش يصف الهيئة على منصاته الإعلامية بـ«ميليشيا الجولاني».
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا يوجد زعماء داعش في إدلب ولا يقيمون مع أفراد التنظيم في الجبال أو القرى المهجورة التي لجئوا إليها بعد هزيمتهم في سوريا والعراق؟
نرى أن ذلك نوعًا من التخفي، وشيئًا من البراجماتية التي تجعل قادة التنظيم يقيمون على أرض هي في وجهة نظرهم وفي أدبياتهم «ديار كفر». كذلك هناك بُعد أمني لإقامة قادة داعش في إدلب، وهو صعوبة إقامتهم في الأماكن والمدن التي حُررت من قبضتهم مثل الرقة أو الباغوز أو الموصل في العراق، حيث يسهل اصطيادهم في مثل هذه الأماكن. كما يصعب على قادة داعش الاستقرار في شمال شرق سوريا أيضًا؛ حيث قوات سوريا الديمقراطية، الشريك الأساسي للتحالف الدولي ضد داعش، والمدعومة دعمًا قويًا ومعلنًا من الولايات المتحدة الأمريكية. وقد سبق واعتُقلت شقيقة البغدادي وزوجها في هذه المنطقة على يد القوات التركية في مدينة إعزاز.
لذلك فضّل قادة داعش الإقامة في إدلب؛ حيث يصعب توقع وجودهم على أرض يسيطر عليه الجولاني الذي يناصبهم العداء، ويقوم بتصفية أي فرد يثبت انتماؤه لداعش، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر إعدام هيئة تحرير الشام 10 أفراد تابعين لداعش في إدلب وذلك في مارس/أذار 2019.
وهناك آراء أخرى تقول إن تفضيل قادة داعش الإقامة في إدلب يرجع إلى حالة الفوضى السائدة هناك، وغياب القانون، وهزلية الحوكمة لتحرير الشام، وهو ما قد يؤدي إلى موجة عنف جديدة بين الجماعات المتشددة.
خلاصة القول، نرى أن زعماء التنظيمات الإرهابية حريصون على أمنهم الشخصي لأقصى درجة، وفي سبيل ذلك قد يقيمون في أماكن كثيرًا ما وصفوها بـ«ديار الكفر»، وقد لا يظهرون في أي وسيلة إعلامية، بل قد يتخفّون حتى عن أعضاء تنظيماتهم، وهو الأمر الذي يجعلهم ينفصلون عن الواقع تدريجيًا، وعن أخبار التنظيم، ولا يربطهم به إلا رابطة رمزية ومنهجية، وهو ما ظهر بقوة في تنظيم القاعدة في أواخر أيام أسامة بن لادن، وطوال فترة أيمن الظواهري الذي بدا مُنظِّرًا للقاعدة أكثر من كونه زعيمًا لها.