المنطقي تسمية الفيلم باسم الحدث، لكنني سميته «أوبنهايمر» لأننا نرى كل شيء بعيون الرجل ومن داخل وجدانه.
كريستوفر نولان

يبدأ «أوبنهايمر» بخلفية أبوكاليبسية لعالم يحترق في منتصفها اقتباس عن «بروميثيوس» الأسطوري الذي سرق قبس النار من الآلهة ومرره للبشر ليبدأوا حضارتهم، ولهذا كبله «زيوس» بحجر وعاقبه بنسر ينهش كبده في تكرار أبدي.

يؤطر الكادر المبدئي الحُكم النهائي على بروميثيوس من منظور الآلهة، والحكم النهائي على أوبنهايمر من منظور التاريخ، القصتان فعل ملحمي سيغير العالم وسيذهب صاحبه كضحية وقربان لعواقب هذا الفعل.

ينتقل «نولان» بعد ذلك للقطة مُقربة لوجه «أوبنهايمر»، ثم لقطة للبطل الموازي «لويس ستراوس»، كليهما في لحظة استجواب ومُساءلة، أوبنهايمر في جلسة استجواب مُغلقة عام 1954 لسحب أو تمديد ترخيصه الأمني، وستراوس رئيس لجنة الطاقة الذرية في جلسة استجواب عام 1957 لسحب أو تأكيد ترشيحه لوزارة التجارة.

 مُساءلة أوبنهايمر بالألوان وباقتراب مزعج close up من الوجه سيحضر كموتيفة متكررة طوال الفيلم، بينما مساءلة ستراوس بالأبيض والأسود وبتفادٍ مراوغ لمواجهة الكاميرا، ستراوس نشط يحاور الجميع ويتحرك ويتحدث بقناعات واضحة، موقفه أبيض وموقف الآخرين أسود، بينما مشاهد أوبنهايمر مُلتبسة، تحاول استنطاق قناعات مخفية داخل جمجمته، تحاصره الكاميرا ولا ننال من هذا الحصار إلا إجابات مُنسقة رمادية تخفي أكثر ما تكشف.

كيليان ميرفي من فيلم «Oppenheimer»
روبرت داوني جونيور من فيلم «Oppenheimer»

يضع نولان لفظتين تؤطران خطي السرد السابقين، fission انشطار وfusion انصهار، عندما تنشطر الذرة تُطلق طاقة كافية لخلق قنبلة نووية، وعندما تنصهر ذرات الهيدروجين بفعل حرارة القنبلة الأولى تُطلق قنبلة أقوى مئات المرات.

يُخبرك نولان منذ البداية أن خط السرد الخاص بأوبنهايمر يُشبه الانشطار، وحدته المُتماسكة سيتم شطرها بعُنف مثل الذرة تحت رحمة التحقيق وستخرج حياته في صورة دفقات طاقة، ومضات سريعة وعابرة، فواصل حلمية تنتهي دومًا بكابوس العودة المباغتة لجلسة التحقيق المُغلقة، سرديات مبتورة ومشاهد دومًا غير مكتملة، لأنه لا يروي حياته كما حدثت إنما في إجابات مقتضبة على مقاس تحقيق يفترض أن يختزل قصته المعقدة الثرية برماديتها في إجابات قانونية، أبيض وأسود. تحقيق لا يسمح بالإسهاب ويرحب بالاختزال، سرد قاس لاهث وغير عادل للمتلقي بالمرة، يستمد قسوته من قسوة المساءلة التي يتعرض لها أوبنهايمر.

ومن شظايا السرد المبعثر non linear -الذي يُجيده نولان ويوظفه تلك المرة نفسيًا لأننا في قصة تاريخية نعلم كل أحداثها- علينا تكوين صورة عادلة عما حدث تنقلنا للانصهار أو خط ستراوس، الذي استمد زخمه وطاقته من جلسة أوبنهايمر التي سبقته بسنوات. كما تعتمد قنبلة الصهر الهيدروجيني على طاقة الانشطار التي سبقتها.

كيليان ميرفي وكريستوفر نولان من كواليس فيلم «Oppenheimer»

لا يقدم الفيلم تجربة بصرية إعجازية تبرر إلحاح نولان على توظيف مدير تصويره van Hoytema لتقنية آيماكس، يُسخر نولان الآيماكس بدلًا من ذلك في الاقتراب المفرط من وجه أوبنهايمر وتصوير أدق اختلاجاته، ليحُذرك مع قطعات مونتاج قاسية وفواصل صوتية حادة أن تظن للحظة أننا نروي رواية مُحايدة من طرف ثالث، إنما نحن عالقين بالتقنية والصوت والموسيقى في وجدان رجل معطوب رهين جلسة مُغلقة لتعرية دواخله.

 نحن بداخل عقله، ولولا عجز الكاميرا الفيزيائي لعبرت مسام بشرته لندلف إلى ذلك العقل، نحن أسرى هذا الوجدان والسرد أسير تلك المُحاكمة المقتضبة بأسئلتها المبتورة وضيق ما تمنحه من سُلطة للراوي.

النبي

ينهشني حنين للوطن، وتؤلمني رؤى مُرعبة عن كون خفي.
oppenheimer

يستغل نولان طبيعة السرد المُتشظي الانشطاري التي أسسها من البداية في تقديم بدايات أوبنهايمر كنبي، شاب يحضر بنصف عقله فقط في عالمنا، لا تمر لحظة عليه في المختبر دون أن يحطم القوارير لشروده، وجدانه مشدود بالكامل لرؤى، ومضات وحي خاطف من عالم آخر قوامه ذرات، حزم طاقة، موجات ضوء. ومثل كل الأنبياء في تلك المرحلة، هو مُضطهد، مكذوب، مادة للسخرية ممن حوله.

كيليان ميرفي من فيلم «Oppenheimer»

يؤطر نولان تلك الفكرة أكثر عندما ينقلنا للشاب وهو يرتجف مُتزملًا أغطيته، كنبي تلقى وحي أكبر من قدرته على احتماله، يُعجب أوبنهايمر منذ البداية بمفكرين مثل فرويد وماركس وفنانين مثل بيكاسو وشعراء مثل إليوت، عباقرة لا يجمعهم سوى كونهم أنبياء شك، يرد ماركس أكاذيبنا المتحضرة لوضعنا الطبقي ويرد فرويد إرادتنا للاوعي، ويحطم بيكاسو النسب التي أسسها من سبقوه ليقدم عالمًا بصريًا جديدًا. أما إليوت يبدأ «الأرض الخراب» كمرثية للحرب الكبرى بقوله:

سأريك الخوف في قبضة غُبار

ينتمي أوبنهايمر لهؤلاء أكثر مما ينتمي لأنبياء الأديان، لأن فيزياء الكم أو الدين الذي يُبشر به قوامه الشك، عالم يرتجف الموقنون من وصاله، الخوف في قبضة ذرة صغيرة، لهذا فتح أينشتاين بابها ولم يدخل أبدًا، يؤمن أينشتاين أن الرب لا يلعب النرد بينما قانون الكم هو نظرية تستوعب الشيء ونقيضه في مقامرة على المنطق ذاته.

عندما يُقدم أوبنهايمر تعريف الحُب لزوجته يُخبرها أن العالم فسحة فارغة، تجاذبات من الطاقة تخلق الوهم بكوننا مادة صلبة، بكون جسده منفصلاً عن جسد حبيبته في العناق، في رؤاه يرى أوبنهايمر أن كل انفصال وهم، نحن جميعًا تجاذبات هشة للطاقة تحيا وهم الإرادة والاستقلال.

وبينما تُطارد الأديان قبس الهداية أو نجم الشمال الذي يرد المسافرين من التيه للوصول، يُطارد علم أوبنهايمر النجوم التي تحتضر، يُخبر صديقه أن النجوم في علمه جاذبيتها تبتلع الضوء ذاته، لذلك علامة الاهتداء في عالمه هي الظلمة الكاملة، وعلامة الوصول أن تبتلعك الوجهة التي تنشدها.

كيليان ميرفي من فيلم «Oppenheimer»

لا يحكم عالم الكم أي مستحيل منطقي أو رياضي، يبدأ أوبنهايمر مُحاضرته الأولى في علمه الجديد، بشرح أن الضوء خيوط وأمواج وفوتونات، خليط مُستحيل لكن فيزياء الكم وحدها العلم الذي يقبل التناقضات والمُستحيلات كاملة في حيز واحد

يشرح نولان في سرد لاهث ملامح ورؤى العالم الذي يتوق أوبنهايمر الشاب لاستنطاقه من الظلمة للحضور، من الفوضى للنظرية، وفي ظلال الشرح العلمي تتجلى وحشية هذا العالم بتطبيقه على البشر، عالم الحب فيه لا يمنح الأفراد تماسكًا كافيًا لعناق، والنجوم فيه ليست هادية بل وحوش شرهة لابتلاع النور والمركزية الأخلاقية غير موجودة بل نسبية تسمح للملائكة والشياطين أن يستضيفهم حيز كمي واحد، قواعد علمية سترسم مصير أوبنهايمر الشعري في النهاية، عندما يضغط على زر تدمير العالم بإرادة مُستقلة ينفيها علمه ودون وجود نجم واحد يهديه للصواب، ليحيا طوال السرد في تناقض الملاك والشيطان بداخله، تناقضات تقبلها نظريته في حيز واحد ولا يغفرها ضميره أو يتسع لها أبدًا، وهذا الانقسام هو ما يمنحنا مفتاح شخصية أوبنهايمر

الإنسان

أنت تائه في عالم الكم الذي أسسته على أرجحيات لكنك تأتي هلوعًا لتطلب يقين.
oppenheimer

يُقدم «نولان» جوانب إنسانية من بطله، تدل على ثقل أخلاقي وضمير يقظ، ينغمس «أوبنهايمر» في أنشطة يسارية لا تدل على إيمانه بالشيوعية إنما انحياز أخلاقي للأقل حظًا، للمقموعين كأثر جانبي لتحقق الحلم الأمريكي، مع تأثر واضح بيهوديته وانتمائه لثقافة عانت من الاضطهاد طوال تاريخها.

دوافع أخلاقية ينساها بالكامل في لحظة جنون عندما يُحاول قتل مُعلمه بدس سم السيانيد في تُفاحة لأنه منعه من حضور ندوة «نيلز بور»، أحد أنبياء عالم الكم، لكنه يندم فيلهث في ما بعد للحاق بمعلمه كي لا يأكل التفاحة.

كينيث بران من فيلم Oppenheimer

تمثل تلك الحادثة العابرة نبوءة لما سيحدث تاليًا في حياة أوبنهايمر، وجدان متشظٍ بين ضميره الأخلاقي وهوسه باستنطاق علمه الوليد من الظلمة للنور، في البداية سينجح أوبنهايمر في إنقاذ معلمه، وفي النهاية أمام اختيار أكثر تعقيدًا سيأكل من تفاحة الخطيئة وسيخرج قنبلته للنور لتسقط البشرية بأكملها من فردوس الجهل لجحيم العلم بالعصر النووي وعالم يمكن أن يتلاشى بضغطة زر

العالم

نحن أصحاب نظريات، نستعمل خيالاتنا ويُرعبنا ما نتخيله، لن يفهموا ما نعنيه حتى يروه.
Oppenheimer

يؤمن أوبنهايمر أن كل نبي مكذوب حتى شهود مُعجزته. في الأسطورة يسرق «بروميثيوس» النار ويمنحها لنا، لأنه افتتن بالبشر، ورآهم جنسًا خلابًا لا يستحق أن يولد بهذا العالم من دون قدرة إعجازية تمنحه النجاة، ما دام أخيه «ابيمثيوس» استحوذ على قدرات الطيران والأنياب ومنحها لحيواناته سيستحوذ على المعرفة والنار ويمنحها للبشر.

كل نبوة تحوي في طياتها هوسًا بموضوع يجب إنقاذه، بروميثيوس مهووس بنجاة الجنس الذي يُفضله وأنبياء الإبراهيمية يبحثون عن خلاص البشر الروحي ويقنعونهم بالمعجزات، في السياقين نار بروميثيوس ومعجزات الأنبياء كانت وسيلة للهدف، وسيلة لينجو البشر من عالم زيوس القاسي ومن جحيم الرب للمكذبين، أما تفرد أوبنهايمر أن هوسه بالمعجزة نفسها لذاتها، بانكشاف الحجاب عن عالم الكم، لا مكان للبشر في نبوة أوبنهايمر إلا كمُتلقين لمجد العالم الذي بشر به ولم يُصدقه أحد. لا هدف وراء معجزته لإنقاذ البشر أو إهلاكهم إنما هدفه كشف النقاب عن المعجزة وحسب.

كيليان ميرفي من فيلم «Oppenheimer»

بالنسبة للسياسيين الذرة سلاح وللأخلاقيين هي خطر وجودي أما للعلماء هي حقيقة علمية يجب أن تنكشف ببساطة، يقول نولان إن «إدوارد تيلر» أبو القنبلة الهيدروجينية أخبر معارضيه ببساطة أن سلاحه ليس وحشيًا بل روتين للطبيعة فالشمس التي ننظر لها كل يوم هي أكبر قنبلة هيدروجينية

في أحد المشاهد يُصارح أوبنهايمر العقيد «غروفز» العسكري القاسي أن هناك احتمالًا أكبر قليلًا من الصفر أن تطلق القنبلة تفاعل مُتسلسل لا ينتهي إلا بإشعال الغلاف الجوي وتدمير الكوكب، يرتجف النقيب في زيه العسكري بينما يُخبره أوبنهايمر بهدوء أن الاحتمال قرب الصفر وهذا أفضل ما يمكن أن تصل له النظرية. 

كيليان ميرفي ومات ديمون من فيلم «Oppenheimer»

في لحظة يصير الفيزيائي أكثر إرعابًا من العسكري، لأن الأخير يقتل لحماية بشر يحبهم أما العالم أحيانًا فيستخدم البشرية كمادة لاستنطاق علم مخفٍ وإن كان مُهلكًا. وهو ما يظهر في رهانات العلماء قبل الاختبار حول مدى القنبلة وقوتها وحول ما إذا كانت ستطلق تفاعلًا متسلسلاً أم دمارًا محدودًا؟ رهانات تُفزع العسكريين لكونها بلا قلب بينما هي منطقية تبعًا لنظرة علماء لإنجاز لا يقيمونه إلا على سبورة المعادلات والنظرية

جوهر نبوة أوبنهايمر لا إنقاذ البشر أو إهلاكهم إنما كشف النقاب عن علم لم يره أحد بعد، لذلك ينجح في النصف الثاني من الفيلم في تحييد كل نوازعه الاخلاقية، يتخلى ببساطة عن أنشطته اليسارية لينضم لمشروع القنبلة.

يروض غرائبيته ويمتلك أهم أداة للنبي وهي حسن البيان، كاريزما يؤسس لها نولان منذ مشهده الأول في قاعة التدريس عندما يبدأ بتلميذ واحد وبحركة بسيطة للكاميرا نجد حشدًا أمامه، يتتبعه تلاميذه مثل حواريين ينقلون عن مسيح، وفي مشاهد متتالية ينوع أوبنهايمر حججه وقناعاته ليجتذب أكبر عدد مُمكن من العلماء لمشروع القنبلة. يصفه زميل بأنه أعظم مروج للعلم ولذاته كذلك. ويصفه آخر بأنه خلف كل حججه لا يؤمن بشيء سوى علمه.

من فيلم «Oppenheimer»

يرتدي ثوبًا عسكريًا في إشارة لاستعداده لاعتناق أي كينونة لا تشبهه ما دامت ستوصله لجوهر نبوته وهو انكشاف معجزة الكم ولو في صورة قنبلة.

يدرك كثير من العلماء أن هناك مفترق طرق بين الحكمة والعبقرية، العبقرية قد تجعلنا نخترع أسلحة دموية والحكمة تخبرنا ألا نخوض التجربة منذ البداية، يظهر ذلك في صورة أينشتاين، عبقري النسبية المنعزل في تمشياته الطويلة، الذي يُخبر أوبنهايمر أنه يقتحم علمه بلا يقين أخلاقي يحميه، زاده شغفه ووقوده عبقريته لكنه يطارد نجومًا ميتة، تبتلع النور، لذلك لن يصل أبدًا لنهاية آمنة وهو ما يخبره به «نيلز بور» أيضًا أن رفع صخرة عملاقة يقتضي الاستعداد لأفعى تقبع أسفلها.

من فيلم «Oppenheimer»

ربما لا يشبه أوبنهايمر بروميثيوس كثيرًا، بروميثيوس أحبنا ومنحنا العلم لننجو وأوبنهايمر أحب علمه ولو على حساب بشريته، وفي طيف آخر من القصة ربما لا يستعمل الجميع أوبنهايمر لأغراضهم إنما يستخدم أوبنهايمر الجميع كنبي يحاول وصال موضوع نبوته الحقيقي وهو انكشاف المعجزة ولو كنا ضحاياها. 

باندورا

أنا الموت، أنا مُدمر العوالم.
Oppenheimer

عندما يشهد أوبنهايمر القنبلة في اختبار ترينيتي، ينتقل السرد لأسطورة إغريقية أخرى، يُحذر «بروميثيوس» أخاه «ابيمثيوس» من تلقي هدايا «زيوس»، لكن «باندورا» زوجة «ابيمثيوس» تتلقى صندوقًا لا تدري أنه يحمل شرور الخليقة وبفتحه لا يعود شيء أبدًا كما كان.

كيليان ميرفي من فيلم «Oppenheimer»

يدرك أوبنهايمر أن نبوته كانت حجابه وأن اللحظة التي تحررت فيها مُعجزته من كونها نظرية لكونها حقيقة هي لحظة انفلاتها من بين يديه، تلك المعجزة لن تكون ملكه، بل ستصير ملكًا للآخرين. ورغم ذلك لا يفعل أوبنهايمر كثيرًا لمنع سقوط القنبلة على اليابان، ما زال النبي بداخله يبحث عن إعلان عالمي للمعجزة، خارج جدران مُختبر سري في صحراء لوس ألاموس، وبالفعل يشهد العالم شر القنبلة وتطبع صورة أوبنهايمر على غلاف التايم كأب لها

تحضر الشخصيات النسائية في الفيلم كمرايا صادقة لحقيقة نبوته، يُعرف أوبنهايمر الحب في البداية بكونه تجاذبًا قويًا للطاقة بين جزيئات مُنفصلة مثلما تمنح وهم الانفصال، تمنح وهم الوصال. لذلك يتعرى بذاته في حضرة عشيقاته وكل واحدة تُخبره حقيقته، تخبره عشيقته الناشطة الشيوعية جين:

أقنعت الجميع أنك أكثر تعقيدًا مما أنت عليه، بينما أنت شديد البساطة.

تكشف جين لأوبنهايمر حقيقة نبوته أنه ليس أخلاقيًا ولا شيوعيًا، إنما عالم مغرم بمعجزة وأسير كل ما يساعده على كشفها ولو كان نظامًا يعارضه في الجامعة ويحالفه في السر، بينما تكشف له زوجته «كيتي» عن حقيقته التي بدأ بها سرد الفيلم، كنبي كلما أثقله هول ما يرى يرتجف في أغطيته.

كيليان ميرفي من فيلم «Oppenheimer»

عندما تموت جين العشيقة وينهار مرتجفًا تخبره زوجته:

لا ترتكب خطيئة ثم تجعلنا جميعًا نشعر بالأسى حيالك لأنك لم تدرك العواقب، تحمل مسئولية ما فعلت.

لا تحضر الشخصيات المساعدة في أوبنهايمر إلا لكشف جانب من كينونة البطل، فالممثلون هنا حسب تعبير نولان أدوات لاستنطاق حقيقة البطل الذي يأسرنا في وجدانه وهو أوبنهايمر

أمريكا في صورة دوريان غراي

بالنسبة للرجل الصغير تأتي الدولة قبل القانون، الكذبة قبل الحقيقة، الحرب قبل الحياة.
فيلهلم رايش

يقول «روبرت داوني» إنه صاغ شخصية «ستراوس» بالتعاون مع «نولان» لتكون مُعادلًا لمنافسة موزارت الشهيرة مع ساليري، يجسد موزارت الموهبة والعبقرية، ويجسد ساليري الشعور المُنغص بكونه مديوكر أقل موهبة، الشعور بالنقص، شعور وصفه العالم النفسي «فيلهلم رايش» بمأساة الرجل الصغير، الذي يُحرك إحساسه بالصغر كل شيء.

من فيلم Amadeus

درس ستراوس الفيزياء بطريقة غير رسمية لذلك هو مطرود من جنة الاعتراف العلمي، ورغم رياسته للجنة الطاقة الذرية إلا أنه يحضر في كل كادر، حضور ضئيل جوار علماء مثل أينشتاين وأوبنهايمر، لا يرون فيه سوى أداة بيروقراطية لإمرار أو تعطيل قراراتهم.

عندما تدور الحكاية حول نبي، يحضر شخص مثل ستراوس باعتباره يهوذا أو لوسيفر الذي يحسد نبوة آدم، يحرك ستراوس الأحداث من هذا المُنطلق، يتحول أوبنهايمر بعد الحرب لنبي قلق ويستخدم نفوذه لتحجيم المجهود الذري الأمريكي.

كيليان ميرفي وروبرت داوني جونيور من فيلم «Oppenheimer»

ومثلما خرج آدم من الجنة بهمسة، بلفظة وسواس، يخلق أوبنهايمر عداءه مع ستراوس دون قصد في لحظة انفراد بأينشتاين ينسحب بعدها أينشتاين من دون أن يلقي تحية على ستراوس، يشعر الأخير بضآلته بين الشخصين، وبكونه ضحية لوشاية ما من أوبنهايمر، تبعًا لفيلهم رايش يشعر الرجل الصغير أنه محور الأحداث وأنه هامشها في آن واحد وتلك معضلة ستراوس، حضور العلماء ينفيه للهامش، ومن هذا الهامش يظن أن كل ما يحدث مؤامرة لنفيه بينما هو أكثر ضآلة في المشهد الكامل من أن يكون له مثل هذا التأثير.

يُسخر ستراوس طاقته لإسقاط أوبنهايمر بعدما يُسفه الأخير من قراراته في جلسات علنية، وبانكشاف سر القنبلة الذرية للسوفييت يصطنع ستراوس مُخططًا من وراء الستار لإدانة أوبنهايمر لكونه مسئولًا عن مشروع مانهاتن الذي تسربت منه أسرار القنبلة ولكونه يعطل مشروع القنبلة الهيدروجينية التي صارت ضرورة لاستعادة التفوق العسكري الأمريكي.

في الثلث الأخير من الفيلم نخرج قليلًا من وجدان أوبنهايمر وإيقاعه اللاهث، أسس نولان لنبوة بطله وصولًا لشهود المُعجزة، بينما الآن تتحول شخصية أوبنهايمر للسلبية الكاملة، يستسلم أمام مؤامرة ستراوس بينما زوجته تتوسل له ليُقاتل، يخطط ستراوس لإدانة أوبنهايمر في جلسة مغلقة لا يُجيد معها اصطناع دور الشهيد أو توظيف كاريزمته لخلق جمهور.

من فيلم «Oppenheimer»

يرى «روبرت داوني» أن شخصية ستراوس رغم كونها أسيرة عقدة النقص ورغبة مريرة في إثبات الذات، فإنها وطنية بالمقياس الأمريكي، نجح في الدفع بمشروع القنبلة الهيدروجينية للأمام ليضمن تفوق وطنه، وظهر كرأس الحربة للشخصية الأمريكية التي انتصرت على تردد أوبنهايمر الأخلاقي.

يقع أوبنهايمر بين المطرقة والسندان، بين بيروقراطي أقل شأنًا يُظهره كخائن لوطنه وسندان الرئيس الأمريكي ترومان، أرفع سلطة في الحلم الأمريكي، الذي يحتقر تردد أوبنهايمر وضميره المؤرق، يفقد أوبنهايمر في حضرة الرئيس كاريزمته وذكاء لاعب الشطرنج في محاوراته السابقة مع العسكريين والعلماء، يحضر كنبي قتلته مُعجزته، كضال لم يهتد بنجم لأن نجوم عالمه مُحتضرة وتبلع الضوء، ينشد الغفران من الرجل الذي أطلق القنبلة.

روبرت داوني جونيور من فيلم «Oppenheimer»

يُجسد ستراوس بأدنى درجات البيروقراطية وترومان بأعلاها الباثولوجي أو التناقض الكامن في الحلم الأمريكي، أمة تأسست على دماء سكان أصليين، وبدماء عبيد مُختطفين من قارة أخرى، تستمد تفوقها الاخلاقي دومًا من وجود آخر أكثر شرًا منها، ورغم زوال الآخر بانتحار هتلر، أصرت أمريكا على إلقاء القنبلة الذرية لاستعراض هيمنتها وامتلكت الفلسفة لتصوير الأمر كفعل رحمة!

يُجسد أوبنهايمر قصة «صورة دوريان غراي»، اللوحة التي لو نظر لها المرء لوجد ركام شروره، وثمن صورته الكاذبة، لذلك يُسمي نولان فصل ستراوس «الانصهار».

تنصهر هالة أوبنهايمر في مؤامرة يقودها بيروقراطي صغير، وسيناتور ماكارثي متطرف، ورئيس يحرس تناقضًا تأسست عليه أمته منذ قرون، لا أحد يحب النظر في لوحة تصف عفن روحه. وأوبنهايمر بندمه الأخلاقي بعد هيروشيما صار تلك اللوحة

نُدرك في النهاية أن الحوار الذي دار بين أوبنهايمر وأينشتاين واستثار غضب ستراوس لم يتعلق به من الأساس، كانت نبوءة أينشتاين لموقف السياسيين من العلم، استخدامه دومًا كسلاح للفوز ثم القضاء على العلماء لأنهم يملكون صورة دوريان غراي، التي يرى فيها المنتصر نفسه على حقيقتها، كنسخة من الشر الذي ظن أنه قضى عليه.

يرى أوبنهايمر مستقبله في صورة آينشتاين، عبقري منبوذ لأنه في انعكاس عباراته وانحيازاته الأخلاقية المتأخرة التي خلقها ضمير مثقل سترى أمريكا نفسها في صورة الشرير، صورة لو منحتها شرعية ومنبر سيتفتت الحلم الHمريكي ذاته وتنفضح كابوسيته.

من فيلم «Oppenheimer»

نُدرك أن التفاعل المتسلسل الذي خلقه سوء الفهم عندما ظن ستراوس أنهم يتحدثون بشأنه، تفاعل يُشبه ما يحدث بعد الانشطار ويؤدي للانصهار الهيدروجيني القوي، كان تفاعلًا متسلسلًا نفسيًا تافًها حدث في وجدان رجل صغير ليخلق للنبي مقبرته الأخيرة ويدمر به أوبنهايمر كليًا. مثلما دمر أوبنهايمر العالم بشطر ذرة، كان ضحية سوء فهم تافه لم يجاوز دقيقة من بيروقراطي بلا وزن.

ندرك أن أوبنهايمر لم يقاوم مُحاكمته وتشويهه كخائن طمعًا في أن ينال العقاب، في أن يقابل قدره باستسلام المسيح، أملًا في أن ينال الغفران، تخبره زوجته في النهاية:

هل ظننت إن تركتهم يعذبوك، سيسامحك العالم؟

ندرك أن الغفران رهين الأجيال التالية، التي تنظر للشاشة الآن وقرارها، هل يستحق أوبنهايمر الغفران أم لا؟

هل كان نولان مُناسبًا؟

ربما أول سؤال يقفز للذهن بعد المشاهدة الأولى لأوبنهايمر، هل كان نولان المُخرج المناسب لتلك الحكاية بالسرد غير الخطي وألعاب الزمن؟ هل كان يجب أن تروى حكاية أوبنهايمر كتشظي لمدة 3 ساعات في وجدان رجل معطوب أم كرواية تاريخية تقليدية؟

كيليان ميرفي وكريستوفر نولان من كواليس فيلم «Oppenheimer»

يقول نولان، إنه روى الحكاية بتلك الطريقة لأنها حكاية تحذيرية cautionary tale لا تنتمي للماضي بل للمستقبل، وتحديدًا الذكاء الاصطناعي الذي يحيا وفق تعبير علماؤه ما يُعرف الآن باسم «لحظة أوبنهايمر»، لحظة التأسيس لعالم جديد نُطلق فيه معجزة لن نملك أي سيطرة عليها.

يقول نولان، إن الرعب الأكثر سوءًا من القُنبلة الذرية أن الشرور التي سيرتكبها الذكاء الاصطناعي بلا عواقب، لا يوجد ضمير مُثقل، ولا يوجد روبوت يُمكنه أن يُعذب ذاته لاختياره ويطلب الغفران، لذلك خلق نولان تلك الحكاية في صورتها العُصابية كتجليات وجدان رجل قلق ومُعذب بالعواقب، التي يراها نولان الكلمة السحرية لوصف فيلمه.

هذا العذاب النفسي هو الملاذ الأخير للبشرية، ضمير أوبنهايمر لم يمنعه من إطلاق القنبلة، لكنه في النهاية منحه القدرة على ختم كل ما فعله بختم الندم، ووصم نفسه بكونه مُدمرًا للعوالم.

الندم والذنب هما السمتان اللتات ميزتا إنسانية آدم عن الشيطان، لأن الندم هو ما جعل آدم آدميًا، وما جعل الرب يمنحه فرصة ثانية ويُسقطه من الفردوس للأرض، ندم أوبنهايمر وخلق قصة بسرد متشظٍ تحتجزنا جميعًا في وجدان معذب بذلك الشعور لن يُعيدنا لفردوس ما قبل العصر النووي، لكنه يؤكد إنسانيتنا وكون الندم الشعور الوحيد الذي يُمكنه إنقاذنا وعكس آثار القنبلة نحو عالم آمن.

أما في عوالم الذكاء الاصطناعي لا توجد تلك المشاعر، لا يوجد آدم نادم أو إبليس غيور، لا يوجد شيء، آلة قد تضغط الأزرار وتُنهي العالم دون حتى عقاب أبدي من زيوس، لا شيء وهذا أكثر ما يُثير الرعب في فيلم أوبنهايمر، الانعكاس التاريخي لقصة قديمة على حاضر ومستقبل أكثر رعبًا، لذلك كان يجب أن يُروى بتلك الطريقة، مُرثية بطولتها الندم ورحلة في متاهة وجدان رجل معطوب، لا كسرد تاريخي خطي يعلمه أغلب المشاهدين قبل مشاهدته.

اقرأ أيضًا: روبرت أوبنهايمر: لهذا لم تعد هيروشيما كما كانت