فيلم «Oppenheimer»: كريستوفر نولان يحكي قصة رسول الموت
في فيلمه «أوبنهايمر» Oppenheimer المعروض حاليًا بدور العرض حول العالم حيث يتزاحم المشاهدون لحجز مقاعدهم لاختباره بأفضل وأكبر صورة ممكنة، يمرر كريستوفر نولان جملة حوارية على لسان كيتي أوبنهايمر (إميلي بلانت) زوجة الفيزيائي الشهير وأبو القنبلة النووية روبرت أوبنهايمر (كيليان ميرفي) تعنفه بها بما معناه: «لا يمكنك أن تقترف الخطيئة وتطلب منا الشفقة بعدها»، بعد ارتكابه فعلة شخصية ذاتية تسببت في أذية إنسان داخل حياته قبل أن يعاني العالم كله من عواقب طموحه وتفوقه العلمي، ربما تلخص جملة كيتي طبيعة الفيلم وتناوله لشخصية تاريخية خلافية مثل أوبنهايمر، وتستقي بشكل غير مباشر من كلامه هو عن نفسه وعن زملائه من العلماء في عام 1947، بحسب كلامه عرف العلماء المشهورون بحيادهم وانغماسهم في الأرقام والحسابات والتجارب الخطيئة الحقيقية، أعطوا للسياسيين بإرادة كاملة سلاحًا للإبادة الجماعية، وبعد فوات الأوان بعد وقوع المأساة، بدأ أوبنهايمر في المطالبة بتنظيم استخدام الأسلحة النووية واعتذر عن العمل على القنبلة الهيدروجينية بعد نجاح النووية واستخدامها من دون اعتراض منه.
يتعامل فيلم أوبنهايمر بشكل رئيسي في نطاق أفلام السير الذاتية، ينغمس في عقل شخصيته الرئيسية في أحد خطوطه السردية المتعددة، لكنه يعمل كذلك في إطار أفلام الحرب والأفلام الملحمية وأفلام المحاكمات منتجًا بناء ضخمًا بصريًا وسرديًا، غامر ومبهر في قدرته على إغراق التنوع النوعي في وحدة متماسكة والإمساك بالانتباه لمدة تزيد على ثلاث ساعات، لكن مع كل إنجازه التقني والدرامي فإنه يحاول جاهدًا تبني سياسات محايدة تفكك طبيعة البطولة الحربية وطبيعة الإنجاز العلمي وانفصال العلم عن السياسة، لكن تعقيد الشخصية الرئيسية وتمثيلها كعبقري معذب تنجح أحيانًا في خلق صورة متكاملة عن رجل يمكن تلقيبه بمجرم وبطل بشكل متداخل، وأحيانًا تتعثر في تمثيل الذنب الأبيض والمبررات القومية للقتل، أوبنهايمر فيلم عن الذكاء الشديد، عن القدرة العلمية وعن تحييد العلم عن الأخلاقيات الانسانية، عن هوس الحسابات الذي يحيل الأرواح البشرية إلى أرقام يمكن التفاوض عليها، عن وهم انفصال التطور العلمي والتكنولوجي عن السياسة وعن التخلي عن المسؤولية والتمسك بها بعد فوات الأوان، لكنه كذلك فيلم عن البطولة الحربية ووهم إنهاء الحروب، وما يعتبر انتصارًا للبعض وفاجعة للبعض الآخر.
فيلم يعمل ضد ذاته
تم التسويق لأوبنهايمر باعتباره تجربة بصرية غير مسبوقة، ودراسة شخصية دقيقة ترسم صورة لشخص مليء بالتعقيدات بالهوس العلمي والإعلامي والذنب القاتل، يعمل الفيلم في نصفه الأول ضد نفسه لأن الجميع يعرف التاريخ الحقيقي وراء الأحداث، وهنا يكمن عبء صناعة فيلم يعلم الجميع كيف ينتهي، لكن تلك الحقيقة تجعل مشاهدة أوبنهايمر تجربة غرائبية تعمل بها كل أيقنوغرافيا البطولة الأمريكية بتأثير معاكس، وتتحول السمات التقليدية لأفلام الحروب إلى إدانات عرضية لتلك الديناميكيات المعروفة في الواقع وفي الأفلام بخاصة الأمريكية منها، كل لحظة يرفع بها علم أو يخطط جيش أو وجه سياسي للهجوم أو تحدث لحظة انتصار هي لحظة مضللة على الرغم من تأطيرها داخل الفيلم كما هي، لا يُعرض الفيلم المشاهد الاحتفالية بإنجاز يعلم صانعيه مخاطره للنقد والتمحيص بصريًا أو سرديًا بل ينقد المشهد نفسه برموزه القومية الأمريكية على الرغم من التأطير الكلاسيكي بتصاعد الموسيقى الملحمية ومشهدية الانتصار، يفكك الفيلم نفسه ونظائره بشكل عارض لأن الحادثة التي سينتج عن تلك الاحتفالات بنجاح أول قنبلة لا جدال قوميًا على بشاعته، كل لحظة انتصار وتفوق علمي أو سياسي تمثل باعتبارها إنجازًا تدمر نفسها ذاتيًا وتصبح ساخرة بدلًا من أن تصبح تبجيلية.
في النصف الأول من الفيلم نرى انحدار أوبنهايمر من اليسار إلى اليمين ومن الطموح الى الهوس، هذا رجل استمر في صناعة سلاح قاتل يعلم جيدًا ما هي عواقبه، لكنه لا يستطيع التوقف، يتعرض أوبنهايمر إلى ما وصفه الفيزيائي فريمان دايسون في الفيلم الوثائقي «يوم ما بعد الثالوث» The Day After Trinity 1981: «العجرفة التقنية»، يصفها في الفيلم قائلاً: «لمعان الأسلحة النووية لا يقاوم إذا صادفته كعالم، شعور أنه في المقدور إطلاق تلك الطاقة التي تغذي النجوم، أن تراهن عليها وتتركها تنفذ المعجزات، أن ترفع مليون طن من الحجارة إلى السماء، إنه شيء يعطي الناس وهم القوة اللانهائية، يمكن القول إن ذلك مسئول عن كل المصائب، ما يمكن تسميته العجرفة التقنية التي تجتاح الناس عندما يرون ما يمكن لعقولهم أن تصنع»، تظهر في القسم الأول عبثية التبريرات حتى دون تحليلها بل بمجرد سماعها، الخوف الشديد من ألمانيا النازية ومخاوف أوبنهايمر الشخصية كونه يهوديًا، يجعل اللجوء لسلاح مدمر خطة ضرورية، لكن مع مرور الوقت وتلاشي الأخطار الرئيسية تصبح الحاجة لذلك السلاح حاجة مجردة لإثبات عبقرية وتفوق علمي وليس فقط سياسيًا أو عسكريًا، يلقي الفيلم من حين لآخر جمل على لسان الأشخاص تلخص ببساطة طبيعة الموضوع المتناول، يرى أوبنهايمر نفسه أن عبقريته تجعله ينجو بكثير من تصرفاته التي لا تغتفر، وتخبره زوجته أنه يصنع الخطيئة بنفسه ثم يتفاجأ أن لها عواقب، تمهد تلك الأفكار لطبيعة دراسة الشخصية المرجوة، تتداخل الحياة الشخصية مع العامة بل والمأساة الشخصية مع العالمية، لكن ذلك التعقيد الذي يفترض أن يتصارع بداخل أوبنهايمر يتم تبسيطه في التصورات البصرية المتعلقة بالذنب.
البناء السردي والبصري
تتشكل المشاهد التي تصور كيليان ميرفي في دور أوبنهايمر من لقطات مقربة تظهر عينيه اللامعتين حائرتين أحيانًا، حزينتين غاضبتين، لكن في أغلب الأحيان يرى داخلها «أنا» ضخمة منغمسة في ذاتها، لا تمكنه من إيقاف هوس حقيقي بكتابة التاريخ والتحول إلى جزء منه، لكن بجانبه أفراد آخرين مشاركين علماء فيزيائيين وأفرادًا عسكريين وسياسيين، يستغلون تلك النزعة التي تمنعه عن التوقف، تسرد تلك الأحداث، من خلال تقنيات سردية تعتبر تقليدية يعمل الفيلم كسيرة ذاتية تقليدية لكنها مقسمة إلى خطوط زمنية متناثرة ومختلطة بحيث يعاد ترتيبها بشكل غير خطي يدمج الماضي والحاضر، والفعل وعواقبه جنبًا إلى جنب، بصريًا يتراوح الفيلم بين تجريد بصري وتركيز على الوجوه كمادة لقراءة ما خلفها.
على الرغم من ضخامة البناء البصري والسردي فإن الوقت الأطول يهدي للقطات المقربة وليست الواسعة، فيصبح الملحمي هو الحميمي والعكس صحيح، تنقسم الأزمنة ووجهات النظر بصريًا إلى صورة ملونة وصورة بالأبيض والأسود طورها نولان خصيصًا للعرض بتقنية الأيماكس إلى مقاس 65 مم وهي سابقة لم تحدث من قبل، من خلال استخدام صيغة الفيلم الخام وكاميرات الآي ماكس الضخمة يصبح أوبنهايمر تجربة غامرة حتى عندما تكون حميمة أو حوارية، فكل تفاصيل الصورة حتى الوجوه المقربة مليئة بالملامس والتعبيرات والظلال وعندما نخرج من الخاص والداخلي إلى الكوني يصبح الفيلم في أفضل حالاته، في شذرات من انشطارات نووية أو انفجارات نجمية مجردة تمثل دواخل عقل أوبنهايمر وأفكاره، عندما يعطي لتلك الصور المجردة الفرصة في البقاء يمكن رؤية أهمية التجربة السينمائية وتأثيرها.
عالم كامل من الأشرار
يقضي «أوبنهايمر» وقتًا طويلًا في استعراض اللامبالاة، قلة اهتمام السياسيين بالأرواح المدنية، مزاح الجنرالات بشأن المدن اليابانية والاختيار بينها وكأنها مساحات ملونة على خريطة وليست مناطق حية مأهولة، نمضي وقتنا داخل غرف مليئة بالأشخاص الدنئين، يصبح أوبنهايمر بجانبهم متوسط الدناءة، ففي داخله صراع غير محتوم بين تاريخه اليساري وتوجهات السياسيين الدموية، بل وميله اللاواعي لاختيار الدماء لأنها سوف تستعرض إنجازه، بعد ذلك يأخذ الفيلم منحى أكثر انحيازًا تتحول السردية من فاجعة القنبلة النووية على هيروشيما وناجازاكي إلى مدى وطنية وقومية أوبنهايمر واستحقاقه لأمريكيته وبطولته، تعرض أوبنهايمر في الواقع لمحاكمات ومطاردات داخل بلده بسبب رفضه للاشتراك في مشروع القنبلة الهيدروجينية التي تبعت النووية بسبب شبق السياسيين الأمريكيين لمزيد من القوة، رأى أوبنهايمر عواقب وتأثير ما فعله وقرر بعدما عجز عن الرفض أن يرفض أخيرًا، ذلك الفعل الذي يمكن وصفه بالشجاعة المتأخرة التي لا تعني شيئًا بعد وقوع ما وقع يعرض من خلال محاكمتين متوازيتين الأولى مع أوبنهايمر والثانية مع لويس ستروس (روبرت داوني جونيور) الذي أوقع بأوبنهايمر وأبلغ عنه طمعًا في منصب المسئول عن المشروع النووي، يتبخر حياد الفيلم فجأة ويصبح مباراة بين من المخطئ والأكثر خطأ.
تتوقف السردية عن تصوير أوبنهايمر كما هو: شخص متعجرف يتسبب في فوضى في حياته الشخصية بسبب عدم قدرته على تحمل المسئولية حتى في علاقاته مع النساء وعلاقته مع زوجته وطفله، إلى شخص استشهادي ننتظر تبرئته، في مقابل شرير يظهر شره كالتواءة حبكة على الرغم من واقعية الأحداث وهو ستروس، مع الوقت يفقد الفيلم طبيعته الساخرة من البطولة الأمريكية ويصبح الذنب الأبيض هو الخصلة المنقذة لسردية بطولة أوبنهايمر، يلعب الفيلم قرب نهايته مثل أفلام العائدين من الحرب الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة، يتخيل أوبنهايمر تأثير القنبلة في جمهوره من المشجعين يرى جلودهم تنصهر ويمحهم ضوء يعمي الأبصار، فيتفتت الفيلم إلى اثنين: الأول الذي يفكك الصراع بين العلم والسياسة، وبين العجرفة الشديدة والطموح المدمر، وحقيقة أن هنالك بشرًا حقيقيين هم المضرورون من ذلك الطموح العلمي والفيلم الآخر هو صراع تقليدي بين شر وشر أقل منه أو حتى خير وشر، يصبح هناك بطل سينمائي تقليدي وشرير سينمائي تقليدي وصراع في انتظار التشجيع.
أخلاقية التسلية
في معرض حديثه عن الافلام التي تتناول شخصات ذات تاريخ عنيف له عواقب حقيقية على الأرض، ذكر المخرج النمساوي ميشيل هينيكة فيلم قائمة شيندلر لستيفن سبيلبرج، عبر هينيكة عن اشمئزازه من خلق الإثارة من قلب المأساة بخاصة المأساة الحقيقية، وتحويل المصائب التاريخية إلى تسلية لكن تلك الرؤية الأخلاقية الدقيقة لا مجال لها في السينما الهوليوودية، يمكن لأي محتوى أن يكون ترفيهيًا ومسليًا وإثاريًا، لكن ذلك الترفيه يخبرنا عن أنفسنا ربما أثر مما يخبرنا عن صانعيه، قرب منتصف فيلم أوبنهايمر لكريستوفر نولان تقع الذروة التي ينتظرها أبطاله ومشاهديه، تجربة القنبلة النووية «الثالوث» Trinity الأولى في ساحة فارغة في لوس الاموس في نيو مكسكو أمريكا.
يلعب المشهد كقنبلة موقوتة حرفيًا، يعين نولان المؤلف الموسيقي لودفيج جورانسون لخلق موسيقى تحوي تكات الساعة مشابهة التي أصبحت علامته من قبل مع هانز زيمر، يترقب العلماء صانعو القنبلة حادث يسبب الدمار، لكن بالنسبة لهم بشكل مجرد يحوي الكثير من الجمال والاكتشاف الخصب، هو ذروة إنجازهم وذروة إنجاز أوبنهايمر نفسه، أن يمتلك القدرة على خلق قوة كبرى ضوء لا يمكن تحمله وصوت لا يمكن إيقافه وقدرة حارقة لمسافات يصعب تحديدها، تصبح اللحظة لحظة فارقة في الفيلم نفسه كما هي للعناصر الممثلة داخله، تصبح لحظة انطلاق تلك القنبلة خلاصًا يستحق الصبر الجماهيري، وكأنه لحظة إطلاق أنفاس وراحة، كما أنها لحظة تم التسويق لها من حيث الإبهار البصري، لكن هل يجب أن تكون كذلك؟ ما الذي يجعل لحظة إطلاق قوة مدمرة على العالم قوة قاتلة تقع في أيدي سياسيين لا يفكرون إلا بأنفسهم ويعدون البشر مثل المادة لحظة بتلك الإثارة؟
يعين كريستوفر نولان تقنيات سينمائية كلاسيكية تجعل من تلك اللحظة مشهدًا ساحرًا ومثيرًا ويصبح الجميع على أطراف مقاعدهم بانتظارها، يضعنا ذلك المشهد في نفس مقاعد العلماء المهووسين بإنجازهم التقني الخاص، في انتظار لحظة: «أنها تعمل!» التي وحسب فرانك اوبنهايمر شقيق روبرت هو أول ما قاله أخوه لحظة انفجار ترينيتي، خلق الإثارة من الإنجاز التقني وانتظار القنبلة يثير تساؤلات ذاتية وتساؤلات متعلقة بالوسيط عن خلق التسلية من قلب المأساة، وربما يعمل كذلك مثل بقية الفيلم كانتقاد داخلي رغمًا عنه، نقد للحماس المجرد تجاه العنف، أو ربما الحماس الغريزي تجاه رؤية الأشياء تتفتت وتشتعل وتتحول إلى طاقة مرئية مثيرة تثير صانعيها مثل مشاهديها طالما ظلوا على الجانب المتفرج وليس الجانب المعرض لها، يتناول نولان وفريقه البصري والسمعي تلك اللحظة ببراعة سردية ومرئية توزع الصدمة على مراحل صوتية وبصرية، فتبني الإثارة والترقب للضوضاء المنتظرة، وعوضًا عن الضوضاء المفاجئة يصبح العالم صامتًا للحظات قبل أن يغمره دوي لم يسمع مثله وضوء يتفوق على ضوء الشمس.
فيلم أوبنهايمر فيلم ضخم، Blockbuster كلاسيكي مصنوع للكبار، يتناول موضوعًا خلافيًا بالقدر الذي يتاح له من الحياد، ويصيغ تجربة سردية وبصرية مثيرة للإعجاب، وتكمن فضيلته الكبرى في إحياء التجربة السينمائية كتجربة خارجية، يتحرك بها الفرد من مكان لآخر لاختبار وسيط بصري وسمعي في مكان مخصص لذلك، من دون أن يكون جزءًا من سلسلة أو إعادة إنتاج لفيلم شهير، لكن مع كل فضائله فإن تعثر رؤيته السياسية أصبحت غصة في حلوق كثيرين بخاصة من هؤلاء الذين عاشوا عواقب أفعال أبطاله.