تشريح أوبنهايمر بين فرويد ويونج
ينهي الرائع «جوني كاش – Johnny Cash» أغنيته «أذى- Hurt» بجملة شرطية تفيد التمني:
بعد نواح طويل عن مدى الأذى الذي قدمه لنفسه وللآخرين، عن كم الخذي الذي يشعر به بناء على مجمل أعماله في حياته، يتمنى في النهاية لو يعود مرة أخرى لبداية القصة، للنقطة الفارقة الأولى التي جعلت منه هذا الشخص الذي يبغضه للغاية حتى يحافظ على نفسه ويجد طريقًا أفضل يسلكه. لكن السؤال المهم، هل فعلًا تفيد العودة؟ هل إن عاد سيختار اختيارات مختلفة؟
أوبنهايمر: عالم نولان الذي عذبته خيالاته
يبدو أن خيالات أوبنهايمر؛ والمقصود هنا أوبنهايمر نسخة نولان وليس العالم الحقيقي، فالمنوط بالبحث في هذا المقال هو الشخصية الخيالية التي قدمها المخرج مجردة من أي حيثيات أخرى، دمرته شخصيًا قبل أن تدمر مدينتين يابانيتين وتهدد العالم أجمع بشر لا يمكن السيطرة عليه. يبدأ الفيلم في سرد قصة الطالب المغترب، المشوش، المهمش والمنفصم جاي روبرت أوبنهايمر (كيلين مورفي) على خلفية معزوفة موسيقية\ فيزيائية مصورة. يشرح نولان بكل الطرق الممكنة حال هذا الطالب المتيم بفيزياء الكم، الذي اغترب فقط ليدرسها، ليكون في ما بعد هو حامل شعلة العلم فينقلها لمسقط رأسه.
يظهر منذ اللحظات الأولى لأوبنهايمر التناحر الشديد بداخله للخير والشر، الحياة والموت، في لحظة يقرر دس السم في تفحة أستاذه، وفي اللحظة التالي يندم على ذلك أشد الندم ويهرول حتى ينقذه. يقرر بعنفوان أن ينضم للشيوعية ويحارب لأجل قضاياهم وفجأة، ولأجل مجد العلم الذي سيضعه في المكان الذي يريده بالضبط يضرب بكل مبادئها عرض الحائط ويقرر التخلي عن الجميع، حتى عن حبيبته التي سعى لأجل النيل بحبها، تركها خلفه، لم يعبأ لحالة الاكتئاب التي عصفت بها، تركها للموت، الكل يهون ويمر في سبيل تحقيق مجد العلم.
يؤكد نولان في حدوته التي يحكيها بالشكل الذي يجعلنا نتعاطف مع مجرم، قتل ملايين البشر في حرب منتهية في الأساس، ومع ذلك ينسج قصته مستخدمًا صورة مبهرة، مزيكا قوية مناسبة تشعرك وكأنها سيمفونية فيزيائيه تصاحبك في كل مشهد تربطك عاطفيًا بهذا العلم الوليد الذي من المفترض أنه سينقذ البشرية، إضافة لكل ذلك يقدم أوبنهايمر إنسانًا قابلًا للتشريح النفسي، بل يقول على لسانه لا تحكموا عليّ قبل أن تسمعوا الحكاية كاملة، قبل أن تسمعوها بلسان ورؤيته. وتبدأ هذه الحكاية بالشاب المهمش الذي كسر في شبابه فأصبح متعطشًا لإثبات ذاته، حتى ولو على حساب حياة الملايين.
لم تأت غريزة الموت عند فرويد من فراغ
وجد فرويد بين مرضاه من جنود الحرب العالمية الأولى ما لم يتسق مع نظريته الأولى «ما وراء ما مبدأ اللذة»، التي تخلص إلى أن ما يحرك الفرد في الأساس هو الرغبة في الشعور باللذة، إرضاء رغبات الهوا. لكن ما وجده بين الجنود وهو حالة عامة من «إجبار التكرار» التي بها الفرد يعيد خلق الذكريات السيئة في عقله فيصحاب ذلك نفس الألم الذي تعرض له في البداية، وكانت تلك الملاحظة أقوى ما اعتمد عليه فرويد في إثبات غريزة الموت. ومع ظهور الحرب العالمية الثانية على السطح، قام أتباع فرويد بإثبات نظرية الموت من خلال الميل الإنسانية الشديد لإنهاء نفسها في سبيل حروب وانتصارات مزيفة.
في نهايات الحرب العالمية الأولى قدم فرويد -معتمدًا على حالاته السريرية- نظرية «غريزة الموت»، التي هي النقيض من غريزة الحياة، فبناء على الأحداث التي عايشها فرويد بنفسه في حالة التدمير التامة التي صاحبت الحرب العالمية الأولى، وجد أن الفرد يتحكم بداخله قوتان، ومثلما علمتنا الفيزياء على يد نيوتن أن التوازن هو نتيجة قوتين متساويتين، فإن التوازن النفسي هو نتيجة تدافع غريزة الحياة وغريزة الموت داخل الفرد بمقدار متساو، تجعله يعيش في حالة السواء.
هذا التناحر ينتج عنه «طاقة اللبيدو» أو الطاقة الجنسية التي تدفع الإنسان للقيام بكل الأفعال التي تضمن له البقاء، بداية من مضغ الطعام وحتى العلاقة الجنسية التي تؤدي لاستمرار النسل، مرورًا بالرغبة في العمل وتحقيق الذات. حالة متكاملة من النشاط، يشبه النشاط الفيزيائي المعقد داخل الذرة أثناء انشقاق النواة.
أما عن أوبنهايمر، فبعد أن قادته غريزة الموت مسقطه على الآخرين، بعد أن قادته كذلك رغبته الداخلية في الظهور والإنجاز، رغبته في نصرة هذا الشاب المهمش الذي سخر منه الجميع بإنجاز القنبلة الذرية التي كانت عبارة عن نظرية على ورق، لم يصل مع ذلك للأسف إلى التوازن النفسي والراحة، بل بدأ فصل جديد من اضطرابه النفسي. يتلخص هذا الفصل أولًا في مبدأ إجبار التكرار الذي كان حينئذ اكتشاف فرويد الحديث، بدأ لا وعيه في تقديم نوع جديد من الخيالات، ليست متعلقة بالفيزياء مليئة بالألوان مثل تلك التي صاحبته في بدايات الحكاية، إنما أخرى مليئة بالذنب والخزي، دماء ووجوه منصهرة ونوبات هلع مما أدى إلى محاولات فاشلة لتصحيح الوضع، محاولات تصل بنا للجزء الثاني من اضطرابه
بالطبع هي عقد المخلص/ المسيح، فبعد أن هدم أوبنهايمر المعبد فوق رؤوس كاهنيه، قرر أن يكون مسيحهم المخلص، سأنقذكم حتى لو كنت سأفقد نفسي في سبيل ذلك. عذب أوبنهايمر نفسه عامدًا حتى يخلص نفسه من إحساس الذنب، أراد أن يثبت لنفسه مرة آخرى أنه بطل، فارس نبيل. ولأنه في العوالم الرأسمالية لا يُعبأ كثيرًا بما يريده الفرد تم اللعب بأوبنهايمر كأي عروسة ماريونت، اقترب من الساحة السياسية في الوقت الذي أردوه وعُزل عنها إجباريًا بإرادتهم كذلك.
لن يفيدك فرويد ويونج إن كنت بهذا الكم من الاضطراب.
في النسخة الكاملة من الفيلم غير المعروضة في مصر، يظهر في مشهد جنسي أن أوبنهايمر يعاني من خلل ما أثناء علاقته مع جين، التي نصحته بكل بساطة أنه بدلًا من الخضوع للتحليل النفسي لمدة عامين على يد أعلام التحليل النفسي في كامبريدج عليه فقط ممارسة الجنس، والتوقف عن إقناع الجميع أنه أكثر تعقيدًا مما يبدو عليه. بالنسبة لـ فرويد، أوبنهايمر هو شخص يحاول الوصول للتوازن، توازن تدافع غرزتي الحياة والموت اللتين أثرتا على كل شيء، علاقته الجنسية، علاقته بزوجته، علاقته بطفله الذي كان على استعداد التخلي عنه، واخيرًا على العالم أجمع بقنبلة ذرية مميتة، غرائزه كانت بالتأكيد أقوى منه.
وعلى النقيض من مدرسة فرويد، ففي مدرسة علم النفس التحليلي التي أسسها تلميذه «كارل يونج»، رفضت عديدًا من الآراء التي نادى بها الأول بعد فترة من العمل سويًا، ومنها اللاوعي الفردي، الحياة الجنسية لدى الطفل، الأهمية المبالغة بها التي أعطاها للغريزة الجنسية وغريزة الموت، كلها أساسيات في نظرية فرويد رفضها يونج، وأدى ذلك إلى القطيعة العلمية والشخصية بين علمين من أعلام التحليل ليكون لكل منهما مدرسته الخاصة.
وإن خضع أوبنهايمر باختياراته للتحليل اليونغي، سيكون هو نفسه تأكيدًا على مبدأ مهم نادى به يونج، ويعتبر أساس علم النفس التحليل وهو «تحقيق الذات من خلال التميز». فيرى يونغ أن تحقيق السلام/ السواء النفسي يأتي من ولاء الفرد لنفسه، أن يستخدم كل مكوناته الداخلية، بما فيها اللاوعي الجمعي في تحقيق التميز والتفرد، بالتالي ينشق اللاوعي الفردي لديه عن اللاوعي الجمعي الذي يكون عند الفرد منذ ميلاده تقريبًا، الذي يولد به الطفل ليمده بمحصلة التاريخ البشري كله من خبرات تساعد الفرد على التطور والنضوج.
ملخصًا لما سبق، وإذا اتبعنا وجهة نظر فرويد، فبالتأكيد إن عاد الزمن بأوبنهايمر سيفجر القنبلة مرة أخرى، رغبة في تحقيق غريزة الموت، رغبة في لعب دور المسيح المخلص، رغبة في إثبات ذاته. أما بناء على نظرية يونغ، كذلك سيفجرها، رغبة من تحقيق ذاته، إثبات ولائه لنفسه، حتى بقوانين اللاوعي الجمعي المخزن به ملايين السنين من الحروب البشرية لإثبات القوة. فـأوبنهايمر مكبل بحروب داخلية ومكنونات لا شعورية معقدة، مثلها مثل صخرة سيزيف التي لا يمكنه التخلص منها.