الطريق المفتوح من «أوسلو» إلى نهاية السلطة الفلسطينية
بعيداً عن التنازلات التي قدمتها مصر في كامب ديفيد، كان مسار التفاوض المنفرد مع إسرائيل تحت مظلة أمريكية هو فاتحة التنازلات، وتدشيناً للمسار التالي كله، وترسيخاً للقواعد الإسرائيلية في التفاوض.
لا تدخل إسرائيل طرفاً في مفاوضات دون أن تمتلك الغالبية من أوراق اللعب، وقد كانت حالة التضامن العربي السابقة على إعلان السادات بدء مساره التفاوضي بمفاوضات الكيلو 101، تقف حجر عثرة أمام إرساء التسوية في الشرق الأوسط، فعلى الرغم من عدم التجانس داخل الكتلة العربية، فإن المظهر التضامني لتلك الكتلة كان يشكل بحد ذاته ثقلاً يفتح الاحتمالات على تسوية أقل إرضاءً لإسرائيل أو على تجديد الاشتباك.
كان رد فعل النظام العربي الرسمي الغاضب على إعلان السادات اعتزامه زيارة القدس، تعبيراً لا عن رفض لمشروع التسوية، بل على رفض المسار الأحادي في التسوية، هذا يثبته المسار التالي لكامب ديفيد، والذي تسارع بعد خروج قوات الثورة الفلسطينية من بيروت.
وفي ظل إصرار إسرائيلي على عدم التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية سعى عرفات لتوفير غطاء أردني للمنظمة بالاتفاق الثنائي في 1985، الاتفاق الذي أعلن فيه الجانبان رفضهما لفكرة الحكم الذاتي وهي الفكرة المؤسِّسة لاتفاق أوسلو. ثم جاء الإعلان الأردني بفك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية المحتلة في يوليو 1988 ليكون «مقدمة ضرورية وجزءاً أساسياً من متطلبات التسوية السلمية للصراع العربي – الإسرائيلي وحل القضية الفلسطينية»، بحسب خالد عايد في الملف الذي أعده لمؤسسة الدراسات الفلسطينية والمنشور في مجلة الدراسات الفلسطينية عدد 24 سنة 1995.
أوسلو – كامب ديفيد الفلسطينية
في 13 سبتمبر 1993، تم التوقيع في واشنطن بحضور الرئيس الأمريكي بيل كلينتون على «إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقال»، أو ما يُعرف باتفاقية أوسلو الأولى، بين ياسر عرفات أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وشيمون بيريز وزير خارجية الاحتلال الإسرائيلي. وفيها اعترف ياسر عرفات بحق إسرائيل في الوجود الآمن، وتخلَّى رسمياً عن الكفاح المسلح الذي توقفت المنظمة عن ممارسته فعلياً منذ خروجها من بيروت باعتباره إرهاباً، وتعهد بكبح جماح المنظمات المتطرفة التي ما زالت تتمسك بالبندقية.
في المقابل، اعترفت إسرائيل بمنظمة التحرير ممثلاً للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة، كما اتفق الطرفان على جملة من الترتيبات، كان من ضمنها إنشاء سلطة حكم ذاتي فلسطيني على أجزاء من الضفة الغربية وقطاع غزة، تحتفظ فيها إسرائيل لنفسها بمهام الدفاع ضد العدوان الخارجي، في حين تتكفل السلطة بالأمن الداخلي عبر إنشاء قوة شرطة فلسطينية يكون دورها حفظ الأمن في مناطقها.
منح الاتفاق لإسرائيل 78% من الأراضي الفلسطينية، مقابل سلطة حكم ذاتي فلسطينية مجردة من جميع أشكال السيادة على الأراضي التي تنسحب منها إسرائيل في الضفة والقطاع، وفي مقابل هذا، أسقطت المنظمة من دستورها الداخلي جميع المواد التي تتعلق بالكفاح المسلح وتعتبره السبيل الرئيسي لتحرير فلسطين.
بالإضافة إلى ذلك اتفق الطرفان على أن يبدآ معاً بعد ثلاث سنوات من سريان الاتفاق “مفاوضات الوضع الدائم”، التي تتناول مسائل المستوطنات وحقوق اللاجئين والقدس وحجم جهاز الأمن الفلسطيني والتنسيق بينه وبين جيش الاحتلال الإسرائيلي، دون أي ذكر لدولة فلسطينية حقيقية.
لقد تعمدت إسرائيل منذ بداية المسار التفاوضي مع الفلسطينيين في مؤتمر مدريد عام 1991 عدم التعامل مع الفلسطينيين كشعب له حق التمثيل السياسي المستقل، وأصرت على أن يشترك الفلسطينيون فقط كجزء من الوفد الأردني، واختارت المناطق التي ينحدر منها الممثلون، مع إصرار على ألا يكونوا من الوجوه البارزة في منظمة التحرير.
كان مؤتمر مدريد هو المنصة التي أدار منها الأمريكيون مشروع التسوية الشرق أوسطية، التي منها يجب أن تنشأ اتفاقات ثنائية بين دولة الاحتلال الإسرائيلي ودول المواجهة العربية: الأردن ولبنان وسوريا والشعب الفلسطيني. جاء مدريد ظرفاً شديد القسوة بالنسبة للشعب الفلسطيني، تم سحق الانتفاضة بمشاركة فعالة من منظمة التحرير، نهاية حرب الخليج بسحق التحالف الدولي للجيش العراقي، نهاية الحرب الباردة وأفول المعسكر الشرقي، وهكذا كان الظرف الدولي والإقليمي ملائماً تماماً لطموحات البرجوازية الفلسطينية في إقامة سلطة أو شبح سلطة على الأرض التي يتنازل عنها الاحتلال.
وفي حين خرجت منظمة التحرير من بيروت خائرة القوى ومشتتة بين تونس وقبرص وسوريا واليمن، جاءت انتفاضة الأرض المحتلة كقارب نجاة لقيادة عرفات، لا لاستعادة مسار الكفاح المسلح من الداخل المحتل، بل لتمرير مشروع التسوية بينما أثبتت الانتفاضة للاحتلال أنه بحاجة إلى ما هو أكثر من كسر منظمة التحرير عسكرياً، إنه بحاجة إلى استثمار شعبية المنظمة في ضبط الشارع الفلسطيني، إن قيام طرف فلسطيني بهذا الدور يعد أقل كلفة وأكثر نجاعة مما لو قام به جيش الاحتلال، هكذا كانت أوسلو بالنسبة للإسرائيليين مجرد جهاز أمن فلسطيني ملحق بأمن الاحتلال، وبالنسبة للبرجوازية الفلسطينية سوق فلسطينية ما تمارس عليها تلك البرجوازية هيمنتها.
إتماماً لما بدأ في أوسلو الأولى، عُقدت اتفاقات مكملة كان أبرزها اتفاق غزة-أريحا، وبروتوكول باريس للتعاون الاقتصادي، والذي ينظم العلاقة الاقتصادية بين سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني ودولة الاحتلال، ثم اتفاق القاهرة أو أوسلو 2 عام 1994، وفيه تحديد لصلاحيات الشرطة الفلسطينية وإعادة انتشار قوات الاحتلال في مناطق من الضفة بما يحفظ أمن المستوطنات القائمة، وتشكيل السلطة الفلسطينية المزمع إقامتها ومستوياتها الهيكلية، وكذا آلية اختيار أعضاء السلطة.
ولعل قراءة بنود هذه الاتفاقية تزيل أي وهم عن أي استقلال مزعوم للسلطة الفلسطينية، ففي البند الثالث المتعلق بهيكلية وتكوين السلطة الفلسطينية يمكننا أن نقرأ: «تبلغ منظمة التحرير الفلسطينية، حكومة إسرائيل، بأسماء أعضاء السلطة الفلسطينية، وبأي تغيير للأعضاء، وتصبح التغييرات في عضوية السلطة الفلسطينية نافذة، بتبادل الخطابات بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة إسرائيل». يُلزم هذا البند الطرف الفلسطيني بإبلاغ الاحتلال بأي تغيير في عضوية السلطة، ولا يصبح هذا التغيير نافذاً إلا بتبادل الخطابات بين الطرفين!
أما بند الولاية فإنه يستثني المستوطنات من الخضوع لولاية السلطة، المستوطنات والمنشآت العسكرية الإسرائيلية وغيرها مما هو كائن في أراضي غزة والضفة غير خاضعة لولاية السلطة الفلسطينية، وبالطبع سكان هذه المستوطنات من الإسرائيليين، بالإضافة إلى ذلك يتضمن بند الولاية أن “تتعاون إسرائيل والسلطة الفلسطينية حول أمور تتعلق بالتعاون القانوني في الأمور الجنائية والمدنية من خلال اللجنة الفرعية القانونية المنبثقة عن اللجنة المشتركة؛ للتنسيق والتعاون في الشئون المدنية (C.A.C)”.
تحت بند الأمن نقرأ التالي: «يتم إنشاء لجنة مشتركة للتنسيق والتعاون بشأن أغراض الأمن المتبادل (من الآن فصاعداً مكاتب تنسيق المنطقة (DCOS) كما هو محدد في الملحق رقم 1».
ثم تحت بند قوة الشرطة:
فيما عدا الشرطة الفلسطينية، والقوات الإسرائيلية لا تنشأ أو تعمل أي قوة مسلحة أخرى في قطاع غزة أو منطقة أريحا.
فيما عدا الأسلحة والذخائر والمعدات الخاصة بالشرطة الفلسطينية الموصوفة في الملحق رقم «1» مادة «3»، وتلك الخاصة بالقوات العسكرية الإسرائيلية، لن يسمح لأي منظمة أو فرد في قطاع غزة ومنطقة أريحا بتصنيع أو بيع أو الحصول على أو تملك أو استيراد أو إدخال أي أسلحة نارية أو ذخائر أو أسلحة أو مفرقعات أو بارود أو أي معدات من هذا النوع إلى قطاع غزة أو منطقة أريحا، ما لم يرد ذلك في الملحق رقم 1.
إن الاقتباسين الأخيرين من نصوص الاتفاقية إنما يشكلان عصبها الرئيسي، وجوهر اتفاقيات أوسلو وملاحقها، فبناءً على ما سبق، غير مسموح لأي منظمة أو فرد حيازة السلاح، بل غير مسموح إنشاء أي منظمات مسلحة في الضفة أو غزة، وبداهة، كل من يبادر إلى إنشاء منظمة من هذا النوع يدخل في تناقض مباشر مع الشرطةالفلسطينية وجيش الاحتلال. إننا هنا بصدد ترتيبات أمنية لا سابق لها في التاريخ الفلسطيني، تتمثل في تحول منظمة التحرير كإطار نضالي وسياسي مشترك لفصائل المقاومة الفلسطينية إلى جزء من منظومة الأمن الإسرائيلي، لذا لم يكن رد فعل الفصائل الأربعة الكبرى في المقاومة الفلسطينية على هذه الاتفاقيات مفاجئاً، ففي حديث أدلى به الأمين العام للجبهة الشعبية الحكيم جورج حبش بعد الاتفاقية قال:
كما أضاف حول دور أوسلو في كبح العمل المسلح:
لقد كان واضحاً منذ البداية بالنسبة لقيادات الفصائل أن أوسلو ليست حلاً بل تصفية، أمر واقع جديد من شأنه ضرب الكفاح المسلح الفلسطيني في الداخل المحتل بعد أن استطاعت إسرائيل تصفية الثورة الفلسطينية في الأردن ولبنان. وفي حين تنازل عرفات في أوسلو عن ثوابت مفصلية كموضوع القدس وحق العودة للاجئين، فإنه بتوقيعه لأوسلو قد ترك عرب 48 في مهب الريح كمواطنين من الدرجة الثانية في أراضي 48 المحتلة.
وعن هذا وفي معرض رفضه لأوسلو، قال فتحي الشقاقي، أمين عام حركة الجهاد الإسلامي السابق:
غزة وأوسلو- مسار معقد
على عكس الضفة الغربية التي تم تقسيمها في اتفاق أوسلو إلى ثلاث مناطق (أ، ب، ج) تم تقسيم إسرائيل القطاع إلى منطقتين، إحداهما فلسطينية تضم أجزاءً واسعة من القطاع، والأخرى إسرائيلية وتضم ثلاثة تجمعات استيطانية، أكبرها غوش قطيف جنوب غربي القطاع، هوجمت بضراوة أثناء الانتفاضة الثانية، التي أعقبها مباشرة الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من القطاع في 2005، لتئول إدارته إلى السلطة الفلسطينية، حتى اكتسحت حركة حماس الانتخابات التشريعية التي أعقبها اشتباكات مسلحة بين فتح وحماس، وبداية الحصار الإسرائيلي الطويل للقطاع.
يمكن القول إن غزة تحررت من أوسلو مبكراً، وجاء هذا التحرر في شكل اقتتال فلسطيني – فلسطيني بين رؤيتين للقضية الفلسطينية متباينتين أشد التباين، إحداهما مثلتها منظمة التحرير، وبشكل أكثر دقة منظمة فتح التي ارتضت بكل الشروط التي أملاها الإسرائيليون في أوسلو، وهي في القول الأخير تصفية الصراع مقابل ظل سلطة على نتف من الأرض الفلسطينية المحتلة، في مقابل رؤية حماس وباقي الفصائل التي رفضت أوسلو مبدئياً، وإن لم تشترك في الاقتتال الداخلي فإنها وجدت في خروج غزة من اتفاق أوسلو أي خروجها من قبضة الأمن الوقائي والوجود العسكري الإسرائيلي ساحة لاستمرار الصراع.
لقد تعرضت السلطة الفلسطينية منذ تأسيسها لامتحانات عسيرة، أولها كان الرفض القطعي للفصائل الأربع الكبار لاتفاق أوسلو، والذي تمت ترجمته في سلسلة من العمليات الاستشهادية في الضفة في النصف الثاني من التسعينيات، ثم جاء الامتحان الأكبر باندلاع الانتفاضة التي وضعت أوسلو على المحك، أوسلو التي بحسب مهند عبد الحميد كانت:
يتضمن عبء السكان ظروف حياتهم من تعليم وإسكان وصحة وشئون إدارية، لكن في القلب منه هو محور الأمن الإسرائيلي، لأن وجود الاحتلال يعني بقاء التناقض الذي يولد المقاومة باستمرار، التناقض بين الاحتلال وضحيته.
شكَّل اندلاع الانتفاضة تحدياً وجودياً، ليس لأوسلو، وإنما للطرف الفلسطيني الذي أبرمها، واندفعت السلطة في عملية إثبات جدوى أوسلو وجدوى بقائها عبر ممارسات فجة وسعي محموم لتصفية العمل المقاوم في الضفة، فكان اعتقال أحمد سعدات أمين عام الجبهة الشعبية والخلية التي نفذت اغتيال رحبعام زئيفي وزير السياحة الإسرائيلي رداً على اغتيال الاحتلال لأمين عام الجبهة أبو علي مصطفى هو التعبير الأكثر صراحة عن المدى الذي يمكن أن تذهب إليه منظمة التحرير للحفاظ على أوسلو، حتى في ظل توسع النشاط الاستيطاني في الضفة، وتصميم المستوطنات بحيث تبدو كجيتوهات مغلقة تعزل مناطق الضفة بعضها عن بعض.
هكذا، وعبر ثلاثين عاماً، من أوسلو، ثلاثين عاماً من التنسيق الأمني، كانت الضفة خاضعة لطوق أمني مزدوج، جهاز الأمن الوقائي واستخبارات السلطة، وأجهزة أمن الاحتلال، وبقدر ما كانت الضفة تحاول كسر هذا الطوق بقدر ما كانت السلطة الفلسطينية تفقد مبررات وجودها، وبقدر ما كانت الضفة تفشل في كسر هذا الطوق بقدر ما تسقط شرعية منظمة التحرير والسلطة التي تمثلها لأنها تصير أكثر التصاقاً بمصالح الاحتلال وبجوهر أوسلو، الذي هو التنسيق الأمني الذي تتضح مدى فداحة الضرر الذي ألحقه بالمقاومة في الضفة في ضوء رد الفعل الهزيل، والذي لم يرتقِ لمستوى ضراوة الحرب الحالية في غزة.
إن حديث الاحتلال عن تصفية المقاومة في القطاع، واستنساخ ظروف الضفة في قطاع غزة يتجاهل جملة من الشروط، أهمها الوضع الديموجرافي في شريط ساحلي مساحته 350 كيلومتراً يسكنه ما يقارب مليوني فلسطيني، غالبيتهم في مخيمات اللجوء، لا تتخلل هذا الشريط أي كتل استيطانية تكسر تجانسه، والاستيطان هو أحد أدوات هيمنة الاحتلال على الضفة، إن تصاعد هجمات المستوطنين على القرى الفلسطينية في الضفة يكشف هذا بوضوح، هذا بجانب مجال التحرك المفتوح أمام جيش الاحتلال في الضفة.
هذا ما جعل بقاء السلطة الفلسطينية ممكناً، أي إن تلك السلطة لا يمكنها البقاء دون الدعم المباشر من الجيش الإسرائيلي والمستوطنين، علاوة على هذا، إن بؤر التوتر الدائمة في جنين ونابلس ظلت عصية على الترويكا الفاعلة في الضفة، تلك البؤر التي عملت في كثير من الأحيان كعامل حافز لردات فعل شعبية فلسطينية واسعة كما جرى في أعقاب أحداث حي الشيخ جراح عام 2021.
إن جلب غزة إلى الطاولة، يتطلب إعادة احتلال القطاع وتصفية البنية التحتية للفصائل وإيجاد بديل فلسطيني قادر على تكميم فوهات راجمات الصواريخ الفلسطينية، وهو حل معقد، لأنه يتطلب بدوره إعطاء شيء ما للفلسطينيين أكبر من سلطة حكم ذاتي تعمل كعصا للاحتلال، شيء يضاهي حتى قليلاً ما دفعوه عبر ثلاثين عاماً من أوسلو، و75 عاماً من الاحتلال، وهي ترتيبات تفوق إمكانيات السلطة الفلسطينية التي ترتبت على أوسلو، وهي السلطة التي تقف اليوم مكتوفة أمام الحملات الإسرائيلية الموسعة في الضفة وأمام حرب الإبادة المفروضة على غزة.