حيرة الخيارات الصعبة: أوبك وصناعة النفط بعد كورونا
منذ بداية انتشار جائحة كورونا في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وأسواق النفط العالمية على حافة الهاوية، إذ انخفض الطلب الصيني على النفط، وانخفض لاحقًا الطلب العالمي كله، بفعل إجراءات الغلق الجزئي لاقتصادات كبرى تشكل 90% من الناتج المحلي العالمي. وساهم كل هذا في سقوط أسعار النفط في هوة سحيقة لا يُتوقَّع أن يتعافى منها في القريب العاجل.
وبعد هذا الانخفاض الكبير في الأسعار الذي وصل إلى ما دون العشرين دولارًا للبرميل، أصبحت منظمة أوبك محط الأنظار: هل ستكون تلك المنظمة قادرة على تخطي أزمة أسعار النفط الحالية وإعادة التوزان لأسواق النفط؟
فمنذ بداية الجائحة الحالية، كان الدور الأكبر لإعادة التوازن يقع على عاتق أوبك. لكن حرب الأسعار التي اشتعلت بين السعودية وروسيا أخَّرت إبرام اتفاق خفض الإنتاج لأكثر من شهر. حتى إذا ما تم الاتفاق على خفض الانتاج العالمي بما يقارب 10% من الإنتاج العالمي، لم يعد هذا الخفض كافيًا للحفاظ على أسعار النفط، بفعل انخفاض الطلب بشكل كبير.
في هذا المقال، نسعى لفهم مستقبل أوبك ما بعد جائحة كورونا: هل ستقدر تلك المنظمة على مقاومة تهاوي أسعار النفط والرجوع بها للمستويات الطبيعة؟ وكيف تساهم تفاعلات السياسة والاقتصاد في عمل تلك المنظمة؟
تاريخ أوبك بين السياسة والاقتصاد
في البداية لكي نفهم الوضعية المعقدة لأوبك في الوقت الحالي علينا أن نلقي نظرة على تاريخ تلك المؤسسة، لم تكن أوبك يومًا مجرد منظمة اقتصادية، بل كانت من اللحظة الأولى نتاجًا لتفاعلات السياسة والاقتصاد في منطقة مضطربة دائمًا منذ الخمسينيات وحتى الآن. تأسست أوبك عام 1960 في مؤتمر شهير عُقِد في بغداد. وكانت المنظمة بعضوية كل من العراق وإيران والسعودية والكويت وفنزويلا، أي 4 دول من الشرق الأوسط ودولة من أمريكا اللاتينية، وانضمت لاحقًا 8 دول أخرى لتشكل اليوم الثلاث عشرة دولة الأعضاء في أوبك.
رأت السعودية وغيرها من دول الخليج في مؤتمر أوبك الأول في بغداد فرصةً سانحة لإنهاء السيطرة المباشرة للشركات الأمريكية الكبرى على أسعار البترول. وكانت أسعار البترول قبل 1960 تُحدَّد بإرادة شركات مثل ستاندرد أويل (Standard Oil) وتكساكو (Texaco) وغيرها. ومع دخول الستينيات، تطلعت السعودية إلى السيطرة بشكل أكبر على موارد النفط في البلاد، إذ كانت استراتيجية أوبك في تلك الفترة مناسبةً بشكل كبير للتوجه السعودي الجديد.
كانت إيران هي الأخرى مدفوعة في تلك الفترة بطموحات الشاه التحديثية لإيران، فقد كان الشاه يدرك أن على إيران أن تلعب دورًا سياسيًّا واقتصاديًّا أكبر في المنطقة. والتقى جميع المؤسسين على أن البترول (سلعة القرن العشرين الأكثر رواجًا) يجب أن يكون في يد منتجيه، واستبعد المؤسسون كلًّا من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة -اثنان من أكبر منتجي البترول- لأسباب تتعلق بالسياسة، حيث لم يكن مفيدًا أن تظهر المنظمة على أنها منحازة إلى أحد الطرفين في فترة الحرب الباردة.
أوبك ككارتل لاحتكار النفط
لطالما عارضت الولايات المتحدة وجود تلك المنظمة، رغم تحالفاتها المعلنة مع أعضائها إلا أنها دائمًا ما كانت تنظر لها ككارتل احتكاري للنفط العالمي، الذي يريد الاقتصاد الأمريكي سهولة الوصول له بأسعار منخفضة، اتضح هذا جليًا بعد حرب أكتوبر 73 وأزمة النفط العالمية التي تبعت قرار الدول العربية في أوبك – خصوصًا السعودية – بوقف تصدير البترول للولايات المتحدة وأوربا الغربية، قفزت أسعار النفط العالمي لثلاثة أضعاف سعرها قبل الحرب.
واستثمرت السعودية هذا العقد السعيد الذي شهد انفجار أسعار النفط لتصل في بداية الثمانينيات إلى ما يقارب 120 دولارًا للبرميل – في زيادة سيطرتها على شركة النفط الأكبر في العالم أرامكو، حيث اشترت 25% من الشركة لتصبح ملكية الشركة كاملة للحكومة السعودية مع بداية عقد الثمانينيات.
كانت أوبك في السبعينيات أكثر تأثيرًا على أسعار النفط في العالم، خاصة قبل الثورة الإيرانية التي تأثرت من بعدها العلاقة بين السعودية وإيران، ولاحقًا بين العراق وإيران وهم جميعًا أعضاء في المؤسسة. وساهمت الحرب العراقية الإيرانية والهجوم المتبادل على المنشآت النفطية في كلا البلدين في خفض الإنتاج الإجباري للبترول الخام في العالم، مما دفع أسعار البترول إلى مستويات قياسية كما أسلفنا.
شهد منتصف الثمانينيات ركودًا كبيرًا في الاقتصاد العالمي مما خفَّض من الطلب العالمي على النفط، وانهارت بذلك الأسعار في ظل الإنتاج الهائل الذي أرادت منه الدول النفطية في الخليج الاستفادة من طفرة أسعار السبعينيات.
واستمرت أسعار البترول عند مستويات متوسطة بين 40-60 دولارًا للبرميل طيلة عقد الثمانينيات والتسعينيات، ولم يمنع ذلك زيادات كبيرة بفعل حرب الخليج الثانية، لكن النمو الكبير في الأسعار جاء بعد بداية عقد الألفية الجديدة التي شهدت اتجاهات متتالية من أوبك لخفض الإنتاج، وترافقت مع صعود التنين الصيني كمصنع للعالم، مما جعل أسعار البترول تصل في أبريل 2008 إلى ما يقارب 135 دولارًا للبرميل، وهو السعر الأعلى للبترول تاريخيًّا منذ اكتشافه.
وبعد الأزمة المالية العالمية في 2008، ما لبثت تلك الأسعار أن تعرضت لانخفاض حاد حتى وصلت في مارس 2009 إلى ما يقارب 60 دولارًا فقط، لترتفع بعدها تدريجيًّا إلى مستويات جيدة في الأعوام التي تلت أزمة 2008 المالية.
تسيطر السعودية بشكل مباشر على ما يقارب 12% من إمدادات البترول في العالم، لذلك فهي القوة الأكبر في أوبك اليوم، وتعارض السعودية بشكل كبير خفض الإنتاج الذي تطالب به دول مثل إيران وليبيا وفنزويلا من أجل زيادة أسعار النفط العالمية.
ثمة عوامل كثيرة تتسبب في إصرار السعودية على عدم خفض الإنتاج. الأولى عوامل سياسية تتعلق بالجغرافيا السياسية في المنطقة التي تسعى السعودية لتقويض إيران فيها واستمرار فرض العقوبات عليها. والثانية عوامل اقتصادية، إذ يعتقد صناع السياسة النفطية في السعودية أن أي زيادة كبيرة في أسعار البترول سوف تدفع الكثير من المستثمرين في مجالات الطاقة إلى البحث عن بدائل أكثر كفاءة من البترول، مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية وغيرها.
ولذا تتعامل السعودية بحذر كبير مع أسعار النفط التي تريد لها أن تبقى في مستويات متوسطة، فمن شأن أي تباطؤ كبير في النمو العالمي أن يخفِّض أسعار النفط لمستويات متدنية للغاية كما هو الحال اليوم. وساهم اكتشاف النفط الصخري والغاز الصخري -وهما نوعان من النفط والغاز كانا عصيين في الماضي على الاستخراج- في إغراق السوق العالمي بالنفط، مما ساهم في خفض أسعار البترول.
حروب أوبك الداخلية
تاريخيًّا لم تكن أوبك كتلة متجانسة من الدول، فعلى الرغم من حضور الدول الخليجية فيها والتي أعطت انطباعًا بتجانس مصالح تلك الدول، فإنه دائمًا ما كانت هناك مشكلات ذات طابع سياسي أو حتى ذات طابع تقني حينما يتعلق الأمر بخفض الإنتاج ونصيب كل دولة من إجراءات خفض الإنتاج.
حتى اليوم، تلقي تداعيات الأزمة السعودية الإيرانية بظلالها على تكتلات الأعضاء داخل أوبك. فالدول النفطية الفقيرة في أوبك مثل أنجولا ونيجيريا وفنزويلا، غالبًا ما تخالف اتفاقات خفض الإنتاج التي تقرها المؤسسة، وتستمر في زيادة الإنتاج خاصة أنها تعاني من مشاكل هيكلية في إدارة النفط منها معدلات تهريب النفط العالية والفساد المحيط بهذا القطاع.
في تلك الخلافات المستمرة، غالبًا ما كانت المملكة العربية السعودية تلعب دورًا مهمًّا بإيعاز من الولايات المتحدة الحليف الأكبر للمملكة. فمن أجل الحفاظ على استقرار أسعار النفط، غالبًا ما كانت السعودية تضخ الفاقد من ذلك الإنتاج لقدرتها الاستثنائية على زيادة الإنتاج في نطاق زمني قصير لأن تكاليف استخراج النفط السعودي منخفضة جدًّا لطبيعة الحقول والحجم الهائل للقطاع النفطي السعودي.
اليوم، تهدد حرب الأسعار بين السعودية وروسيا، والتي بدأت مع انتشار الوباء، اتفاق «أوبك بلس» الذي تم في ديسمبر/كانون الأول 2016 بالاتفاق بين أوبك و11 دولة أخرى منتجة للنفط لكنها ليست عضوًا في أوبك.
وحتى أزمتها الأخيرة في بداية مارس/آذار الماضي، كانت «أوبك بلس» إلى حد ما ناجحة في إبقاء سعر البترول في الهامش الضيق بين 50-80 دولارًا للبرميل. تلك الحرب المعلنة أنتجت خلافات أكبر بين دول أوبك ودول أوبك بلس حول اتفاقات خفض الإنتاج إلى أن تم إقرار الخفض. لكي نحصل على لمحة عن تلك الخلافات لم توافق المكسيك وهي دولة ليست من كبار المنتجين على حصتها في التخفيض إلا بعد مفاوضات طويلة انتهت لأن تتحمل الولايات المتحدة تلك الحصة من التخفيض حتى تنقذ شركات النفط الصخري الأمريكي التي تعاني.
ما يمثل تهديدًا حقيقيًّا على أوبك في الوقت الحالي هو أن انخفاض الأسعار لا يمكن لأي من تلك الدول أن يتحمله لفترة طويلة، حتى الدول الخليجية الغنية التي تمتلك صناديق سيادية واحتياطات دولية جيدة ومركزًا ماليًّا يساعدها على الاقتراض من السوق الدولية بأسعار فائدة منخفضة، لا يمكنها أن تتحمل ذلك لفترة طويلة.
بالتالي، فإن الدول الخليجية، خاصة السعودية/ سوف تحاول إجبار دول أخرى منتجة للنفط على استمرار تخفيض الإنتاج، لكن تلك العملية ستتسبب في المزيد من الاضطرابات داخل دول المنظمة. فأغلب الدول الفقيرة المنتجة للنفط لا يمكنها تحمل ذلك الخفض الإنتاجي لفترات طويلة لاعتمادها الكبير على عائدات النفط.
على سبيل المثال، تمثل عائدات النفط في نيجيريا، أكبر منتج أفريقي للنفط، 57% من الإيرادات الحكومية و90% من مصادر العملة الأجنبية، وتعتمد نسبة كبيرة من السكان العاملين في القطاع العام على إيرادات النفط. وبالتالي، وخاصة في قلب أزمة اقتصادية عالمية كالتي نعيشها، لا يمكن لدولة كتلك تحمل خفض الإنتاج لفترات طويلة. لذلك من المتوقع أن تستمر أسعار النفط في مستوياتها المنخفضة الحالية حتى نهاية العام على الأقل.
وحتى عندما تنتهي جائحة كورونا ويعود الاقتصاد العالمي للعمل كما في السابق، فإن إسراع تلك الدول لتلبية الطلب سوف يحافظ علي الأسعار في مستويات منخفضة لأن تلك الدول سوف تحاول تعويض فترة انخفاض الطلب الحالية. وبالتالي، فإن تلك المعضلة سوف تؤدي لمزيد من الخلافات داخل المنظمة المليئة أساسًا بالخلافات.
بالإضافة لكل تلك الظروف الهيكلية التي تجعل من أوبك منظمة هشة من الداخل ومعرضة دائمًا للتفكك، فإن الضغوط الأمريكية تستمر على المملكة السعودية وكبار منتجي النفط الآخرين من أجل زيادة الإنتاج وتعويض الفاقد من إنتاج كل من إيران وفنزويلا اللتين تفرض عليهما الحكومة الأمريكية عقوبات اقتصادية تريد لها أن تؤدي لسقوط النظام في كلا البلدين.
بالتالي، فإن كل تلك العوامل تساهم في تفجير الخلاف والتمايز في أوبك بين صغار وكبار المنتجين للنفط، وبالتالي احتمالية تفكك المنظمة تبدو مطروحة بشكل كبير في ظل الضغوط التي تمثلها نتائج جائحة كورونا الحالية على الاقتصاد العالمي.
التحول المحتوم بعيدًا عن النفط
قبل كورونا، كان العالم بالفعل على أول طريق التحول الكبير نحو هَجر البترول نهائيًّا، لكن تلك العملية مكلفة وتخضع في أحيان كثيرة لتجاذبات السياسة والمصالح المتشابكة بين النخب الاقتصادية والسياسية في العالم. لكن هذا لم يمنع كثيرًا من دول العالم من السعي نحو مصادر بديلة.
فالصين تضخ استثمارات هائلة في مجال الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، واستطاعت أن تقلل تكلفة إنشاء محطات الطاقة الشمسية، وألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي يحاولون تقليل الاعتماد على البترول والاستعاضة عنه بمشاريع كبيرة للطاقة الشمسية، خصوصًا في شمال أفريقيا والصحراء الكبرى.
ويبدو هجر البترول عاجلًا أم آجلًا مصيرًا شبه محتوم للبشرية، خصوصًا في ظل تزايد النقاش حول الاحتباس الحراري ومستقبل الحياة على هذا الكوكب.
أوبك وعلى رأسها السعودية كانت تدرك بشكل جيد مثل هذا التحدي، فصناع السياسة النفطية في السعودية تحديدًا يدركون أن ارتفاع أسعار النفط بشكل كبير فوق مستوى 80 أو 90 دولارًا من شأنه أن يسرع من عملية التحول نحو مصادر بديلة للطاقة . لكن جائحة كورونا وما أنتجته من انهيار للطلب العالمي على النفط جعل أسعار النفط تنخفض مستويات قياسية لا تريد السعودية ولا غيرها من منتجي النفط أن تستمر تلك الأسعار حتى لو كانت تلك الأسعار المنخفضة وبالًا على الاستثمار في الطاقة البديلة، فإن تلك الدول لا يمكنها أن تتحمل إلى ما لانهاية تلك الأسعار المنخفضة.
تبدو أوبك التي مضى على تأسيسها ما يقرب من ثمانية عقود اليوم في وضع حرج اليوم، فقد فقدت في السنوات الأخيرة موقعها متحكمًا رئيسًا في أسعار البترول العالمية بفعل زيادة إنتاج النفط الصخري الأمريكي.
وحتى في ظل الأزمة الحالية الذي يُتوقَّع أن تُخرج الكثيرين من منتجي النفط الصخري الأمريكيين من المعادلة، فإن مستويات الإنتاجية لن تتأثر بفعل استراتيجية الولايات المتحدة التي تعتمد على الاكتفاء الذاتي من الطاقة، ولن تسمح بانهيار كبير لقطاع النفط الصخري الأمريكي، وذلك من خلال إعادة هيكلة القطاع عبر استحواذ الشركات الكبرى القادرة على الاستمرار في السوق وتلقي صدمات الأسعار بشكل أفضل على الشركات الأصغر.
بالتالي فإن أوبك بعد كورونا أمام خيارين كليهما سيئ: الأول الحفاظ على أسعار النفط في الهامش الضيق بين 60- 80 دولارًا للبرميل، بالتالي تسريع التحول للمصادر البديلة للطاقة؛ أو الحفاظ على الأسعار دون 60 دولارًا وتحمل الكلفة الاقتصادية التي تعنيها تلك الأسعار المنخفضة على ميزانيات تلك الدول.