سياسة الطفل الواحد: هل ينقرض الصينيون؟
بدءًا من عام 1980م، فرضت الصين هذه السياسة على شعبها، ونصتْ على إجبار جميع المتزوجين على الاكتفاء بطفل واحد فقط، بهدف التخلص من أعباء النمو السكاني المتزايد، الذي اعتُبر السبب وراء مشاكل ضخمة اقتصاديًا واجتماعيًا وبيئيًا.
ما قبل تطبيق هذه السياسة
أتت هذه السياسة بعدما فشلت كافة جهود الدولة للتوعية المجتمعية غير الإلزامية للحدِّ من الإنجاب التي بدأت من خمسينيات القرن الماضي.
فالجهود الرسمية لإقناع الصينين بتنظيم النسل بدأت مع إنشاء جمهورية الصين الشعبية عام 1949م في عهد القائد الصيني المؤسِّس ماو سي تونج فشلت في تحقيق أية نتيجة.
لم يقتنع ماو بضرورة بذل جهود مضنية من أجل تحقيق فكرة تنظيم الأسرة، واعتبر زيادة العدد السكاني جزءًا من قوة دولة الصين الجديدة، وتُنسب له مقولة شهيرة تقول «من بين كل الأشياء في العالم، الناس هم أغلى الموجودات»، وهو ما يفسّر تبنّي حكومة ماو خطابًا مؤيدًا للإنجاب في سنواتها الأولى.
في ظِل دولة الصين الجديدة، ارتفعت الخدمات الحكومية المقدمة في مجالات الصحة، وتحديدًا لرعاية الأم والطفل. انخفضت معدلات الوفيات وزاد معدل المواليد بنسبة 2.8%، تقريبًا زاد عدد سكان الصين من 1953 وحتى 1970م بنحو 250 مليون شخص إضافي، بعد قرون من الاضطرابات عاشتها الصين قبل العهد الجمهوري عفت فيها الحروب والأوبئة والمجاعات والتمردات العسكرية لم يزد فيها النمو السكاني عن 0.3%.
هذا النمو السكاني المتزايد فرض تحديات ضخمة على الدولة لتلبية احتياجات الشعب، تزامن مع دخول الصين في موجة ركود اقتصادية كبرى، فتضمنت الخطة الخمسية الرابعة عام 1970م، لأول مرة، أهدافًا معلنة للعمل على تعديل النمو السكاني.
لم تأخذ هذه السياسات آراء كثير من علماء الاجتماع في الاعتبار، فقط جرى الاعتماد على تقارير العالم سونغ جيان، اعتبر فيه أن الحجم المثالي لسكان الصين يجب أن يبقى في حيِّز 750 مليون نسمة كي تعيش ازدهارًا اقتصاديًا دائمًا، وتبنّت الدولة شعارًا قوميًّا حمل لقب «طفل واحد ليس قليلًا، اثنان جيد، 3 أكثر من اللازم».
ومن المهم هنا أن ننظر لهذه الخطوات في سياقها الزمني المتمثل في أن عديدًا من الدول الآسيوية اتبعت أيضًا نهجًا مشابهًا لبرامج تحديد النسل الإجبارية مثل الهند وإندونيسيا وبنجلاديش.
وفي ديسمبر 1970م، نظمت الصين أول مؤتمر لـ«تخطيط الولادة الوطنية»، ناقش قضية النمو السكاني، وتبنّى شعار «لاحقًا، أطول، أقل» (Later, Longer, and Fewer)، الذي شجّع الشباب الصينيين على الزواج في سنٍّ متأخرة (لاحقًا)، والانتظار لفترات طويلة بين إنجاب كل طفلٍ وآخر (أطول)، والتخطيط لإنجاب أطفال أقل في العدد.
انبثق عن هذا المؤتمر أول مجموعات حكومية لتراقب تنظيم الولادة في المجتمعات، كان يحتفظ أفرادها بسجلات مفصلة عن كل النساء اللائي في سن الإنجاب، تشمل كافة المعلومات المطلوبة بشأن تحديد النسل، مثل الولادات السابقة ووسائل منع الحمل المُستخدمة التي كانوا يراقبونها بدقة، حتى إنهم كانوا يراقبون مواعيد الدورة الشهرية لكل امرأة مسجلة لديهم.
ظلت كافة هذه السياسات غير إجبارية، لكنها نجحت في خفض معدل نمو السكان إلى قرابة 1.8%، وكان الهدف المحدد لعام 1980 هو 1%، على أن تصل إلى هدفٍ طموح في عام 2000م وهو الحصول على نمو صفري يتساوى فيه معدل المواليد مع معدل الوفيات.
المفارقة أن الصين قبل هذه السياسة انتقدت إجراءات مماثلة قامت بها حكومة أنديرا غاندي في الهند، بإجبار الرجال على التعقيم القسري لتحديد النسل في الهند، وقتها لم تكن الصين تتبنى هذه السياسات، فعارضت التوجهات الهندية واعتبرتها «جزءًا من أجندة إمبريالية».
ظلّت جهود إقناع الناس بعدم الإنجاب غير إجبارية حتى بعد وفاة ماو عام 1976م، ومن بعده كان الرئيس الصيني دنغ شياو بينغ أول رئيس صيني يهتم بحل الأزمة السكانية في الصين بقرار حكومي، وذلك بعدما اقترب عدد سكان الصين من المليار نسمة في أواخر السبعينيات. عام 1949م، كان عدد الصينيين 540 مليونًا تقريبًا، أصبح 969 مليون مواطن عام 1980م.
البداية كانت في عام 1978م، بالإعلان عن برنامج تطوعي لتشجيع العائلات على عدم إنجاب أكثر من طفلين مع الأفضلية لإنجاب طفل واحد. بعدها في 1979م، اتجهت الدعاية الحكومية لقصر العدد على طفل واحد.
وفي 25 سبتمبر 1980م، نشرت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني قرارها الذي يدعو الصينيين للالتزام بسياسة الطفل الواحد، وهو التاريخ الذي يُعتبر البداية الحقيقية لتطبيق هذه السياسة.
لم تُطبق هذه السياسة على جميع الصينيين، وإنما كانت هناك استثناءات معينة بلغ عددها 14 إعفاءً مثل بعض الأقليات العرقية كأهل التبت والإيغور والكازاخستانيين، أو الأسر التي كان ابنها الأول معاقًا أو مصابًا بالشلل، وبعض الأسر الريفية التي بالنسبة لها لا بد من وجود صبي ذكر يُساعد في القيام بمهام الأسرة، وبسبب الثقافة الصينية القديمة التي تعتقد أن سلالة العائلة تمتدُّ في دماء الولد وليس الفتاة.
شهدت 18 مقاطعة ريفية صينية سماحًا حكوميًا لأهلها بأن يلدن طفلًا آخر إذا كانت الطفلة الأولى فتاة، بشرط أن ينتظر الزوجان مدة زمنية تتراوح من 4 إلى 6 سنوات.
بشكلٍ عام كان سكان المدن هم الأكثر امتثالًا لهذه السياسة أما أهل المجتمعات الزراعية فقاوموا تنفيذ هذه السياسة لعقود طويلة.
اعتمدت سياسة الطفل الواحد على مزيج من «الحوافز والعقوبات».
تمثلت الحوافز في سهولة قبول ابن عائلة «الطفل الواحد» في المدارس والقبول في الجامعات والتوظيف، ونيل حوافز رعاية صحية وسكن، وتخفيض مدفوعات الضرائب وفرصة شراء أرض أكبر للعائلات في المناطق الريفية.
من ناحية أخرى ، تشمل العقوبات المفروضة على المواليد أكثر من طفلٍ واحد تخفيض أجور الوالدين بنسبة 10 إلى 20 في المائة لمدة 3 إلى 14 عامًا، أو خفض الرتبة الوظيفية أو إقرار عدم الأهلية للترقية للآباء الذين يعملون في القطاع الحكومي، واستبعاد الحصة الأعلى من الراتب أو رفده تمامًا، وفي المناطق الريفية كان العقاب غرامة كبيرة تُدفع لمرة واحدة، تمثل جزءًا كبيرًا من الدخل السنوي للوالدين.
وفي بعض الأحيان اعتمدت الحكومة على أساليب قاسية مثل فرض الغرامات المالية الباهظة والإجهاض والتعقيم القسريين، وإدخال اللولب عنوة في أرحام النساء بعد الولادة الأولى، كما كان يجري تعقيم الأزواج بعد الولادة الثانية، وتُنظم حملات الإجهاض للحمل الثالث.
من الصعب تحديد عدد عمليات الإجهاض التي تعرضت لها نساء الصين خلال فترة تنفيذ هذه السياسة، لكن بعض التقارير قدّرت أن الصين كانت تشهد 13 مليون حالة إجهاض كل عام لنساء تتراوح أعمارهن بين 20 و29 عامًا، منذ بدء تنفيذ هذه السياسة.
ليس بالضرورة أن تكون جميع هذه العمليات قسرية، أي تمّت عنوة رغمًا عن إرادة الأم، لكننا يُمكننا اعتبارها كذلك ولو تمت لموافقة النساء بسبب اضطرار الأمهات لذلك كانت تتم بهدف الهروب من عقوبات سياسة «الطفل الواحد».
وفي 2013م، كشفت الحكومة الصينية أنه منذ أوائل السبعينيات وحتى تلك اللحظة، أجرت الحكومة 336 مليون عملية إجهاض، و196 مليون عملية تعقيم.
كما جرت الاستعانة بـ403 ملايين لولب زُرعوا داخل أرحام النساء خلال هذه الفترة، بعضها تم عنوة وبعكس رغبة الأم.
وكان أي موظف في الحكومة مهددًا بفقدان وظيفته إذا اكتشفت الدولة أنه أنجب أكثر من طفل واحد. كما أن العديد من الصينيات اللائي يمتلكن طفلًا بالفعل، كُن يجهضن أنفسهن إذا علمن بحملهن للمرة الثانية خوفًا من فقدان الوظيفة.
في حالة مخالفة الزوجين لقرار «الطفل الواحد»، كانا يُحرمان من تسجيل أبنائهم رسميًا، ما يعني حرمانهم من الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الدولة لمواطنيها مثل الرعاية الصحية والتعليم.
ولا بد من ذِكر هنا أن سياسة «الطفل الواحد» قصدت معنى «الولادة الواحدة» وليس الطفل الواحد بالضرورة، وبالتالي فإن المرأة الصينية التي تُنجب توأمًا لا تُعاقب لأنهما جاءا من ولادة واحدة.
ولهذا تحدثت بعض وسائل الإعلام الصينية والعالمية أن الصينيات أقبلن بشدة على تناول أدوية الخصوبة بكثرة ليحظين بتوأم من المرة الأولى.
الجوانب الإيجابية
شهدت الصين زيادة كبرى في معدلات النمو الاقتصادي، فبينما كانت تهدف من هذه السياسة لزيادة الدخل المحلي للفرد الواحد إلى ألف دولار بحلول عام 2000م، حققت هذا الهدف قبل عام 1999م، وفي 2011م أصبح الناتج المحلي للفرد الواحد 8 آلاف دولار أمريكي.
كما عرف المجتمع عناية كبيرة من الأسرة للطفل الواحد، لأنه كان في اعتبارهم سيكون ابنهم الوحيد، لذا ضاعفوا من عنايتهم به، ووفروا له أحسن فرص تعليم ممكنة.
الآثار السلبية لهذه السياسة
بحسب زهي تشانغ، الباحث في الدراسات الصينية، في دراسته «سياسة دفن طفل وحد»، إنه بمرور الوقت ظهرت بعض الأشكال المتطرفة لتطبيق هذه السياسات، مثلما فعلت مقاطعة Shandong الصينية في الأول من مايو 1991م، حين نظمت حركة «100 يوم من عدم وجود أطفال».
خلال تلك الـ100 يوم أجبر المتحمسون لتلك السياسة وعدد من المسؤولين الحكوميين النساء على إجهاض أطفالهن حتى لو كنّ حوامل لأول مرة، وهو ما أدى لموجة عارمة من الذعر الاجتماعي، بخاصة وأن حالات الإجهاض الإجبارية تلك أدت في بعض الأحيان لمعاناة النساء من العقم مدى الحياة.
بحسب التقديرات، منعت هذه السياسة من زيادة الشعب الصيني بقدرٍ يتراوح من 200 مليون وحتى 400 مليون مواطن.
وكان لها تأثير كبير على التركيبة السكانية في الصين، بسبب لجوء الكثير من العائلات لإجهاض أطفالهم الإناث بسبب تفضيلهم أن يكون طفلهم الأوحد ذكرًا وليس أنثى وهو ما عُرف بـ«الإجهاض الانتقائي»، كما حدث تناقص كبير في الأيدي العاملة بسبب اعتماد الآباء كبار السن على أطفالهم لرعايتهم، ما جعل الأبناء غير قادرين على التفرغ للعمل.
وصل معدل الخصوبة في الصين إلى 1.6% عام 1997م، وهو من أقل معدلات العالم.
كما شهدت الصين ارتفاعًا كبيرًا في معدلات إجهاض الإناث وهن أجنة، كما زادت حالات وأد الإناث، بخاصة وأن هذه الفترة لم تكن تعرف تطورًا كبيرًا في عمليات تحديد نوع الجنين قبل ولادته.
بل وتوقّع بعض المراقبين أن الشعب الصيني قد يصل إلى نقطة يبدأ معها حجمه في التقلص لأول مرة منذ عقودٍ طويلة، مرحلة التقلص تلك لن تكون بعيدة جدًا، وإنما كان متوقع أن تدخلها الصين خلال العقد المقبل إذا ما تمسّكت بتطبيق سياسة «الطفل الواحد»،
وهو بالتأكيد سيكون له تأثير مالي في خروج ثاني أكبر اقتصاد في العالم من حالة الزهوة التي يعيشها في السنوات الأخيرة، وهو ما قد يؤدي إلى هزة كبيرة في الأسواق العالمية أيضًا.
أدركت الصين أن هذه السياسة ستُدمر الدولة وتقودها إلى الشيخوخة، فأعداد كبيرة من المواطنين يتجهون للتقاعد، بينما الشباب نسبتهم تقل كل عام أكثر من قبل بسبب انخفاض معدل المواليد.
وبحسب التقديرات فإن هذه السياسة لو استمرت فإن ثلث سكان الصين سيكونون فوق سن الستين بحلول عام 2050م، وهو ما يعني شيوخًا كثيرين يحتاجون لأبناء لرعايتهم، هؤلاء الأبناء لن يجدوا ما يكفي من الوقت للتفرغ للعمل، ما سيُدمر الاقتصاد على المدى البعيد.
عُرفت تلك المسألة في الصين بـ«ظاهرة 421»،، حيث أصبح كل زوجين مسؤولين عن 4 آباء -أبوين لكلٍّ من الزوج والزوجة- وطفل واحد، وهو أضاف المزيد من الأعباء على كاهل الشباب المتزوجين، وحد من قُدرتهم على المزيد من العمل.
كما ظهرت طائفة ضخمة مخفية في المجتمع الصيني تُسمّى أطفال «هيهايزي Heihaizi» أو «الأطفال السود»، وهم الأطفال الذين تجاهل آباؤهم توثيقهم أمام الحكومة لكيلا يتعرّضوا لعقوبات من قِبَل الدولة. عدم التسجيل هذا سيحرم هؤلاء الأطفال من التمتع باحتياجاتهم الأساسية مثل الرعاية الطبية والتعليم والتوظيف.
هذا الميل الصيني في تفضيل الذكور على الإناث أدى في النهاية إلى زيادة عدد الذكور عن الإناث بشكلٍ حاد في المجتمع، قُدِّر في 2018م أن الشباب الصينيين يفوق عددهم من الفتيات بـ30 مليون فرد.
ربطت ليزا كاميرون أستاذة البحوث الاجتماعية في جامعة ملبورن، بين هذا الارتفاع الهائل عدد الذكور وارتفاع معدلات الجريمة.
وهنا يجب التنويه إلى أنه خلال العقود الماضية زادت نسبة الجريمة في الصين بأكثر من 6 أضعاف عن الماضي.
اعتبرت ليزا أن هؤلاء «الشباب الفائضين»، معظمهم من ذوي وضع اجتماعي واقتصادي منخفض، يواجهون صعوبات جمة في العثور على زوجة، ما يجعلهم مرشحين أساسيين للتحول إلى مجرمين، بخاصة وأن ثلثي الجرائم في الصين يرتكبها شباب عازبون.
يقول الباحثان لاتا جانجادهاران وشين منغ في دراستهما «الأباطرة الصغار: الآثار السلوكية لسياسة الطفل الواحد في الصين»، إن سياسة الطفل الواحد أنتجت أفرادًا أقل ثقة، وأقل جدارة بالثقة، وأكثر تجنًبا للمخاطر، وأقل قدرة على المنافسة، وأكثر تشاؤمًا، وأقل ضميرًا.
وبحسب الباحثين، فإن واضعي هذه السياسة لم يراعوا الجوانب السلبية لنشأة الأطفال بلا أشقاء واستئثارهم بكل جوانب الرعاية والاهتمام في الأسرة ما حوّلهما إلى «أباطرة صغار» بحسب تعبير الباحثين.
كما أن الأطفال الذين نشؤوا في ظل هذه السياسة حُرموا من التطور وبيئة التنافس التي يفرضها وجود شقيق أو أكثر داخل المنزل الواحد، علاوة على افتقادهم ما تمنحه الأخوّة للآخرين من معاني الأمان والثقة المتبادلة.
أيضًا، ووفقًا لبحث هونج شو «تأثير سياسة الطفل الواحد في الصين على بدانة الأطفال»، إن تطبيق هذه السياسة وكون الطفل الصيني بات يتربّى وحيدًا هذا يجعله عُرضة للبدانة 4 أضعاف أولئك الذين لديهم أشقاء.
التأثير السلبي الاقتصادي
كما حملت سياسة الطفل الواحد أثرًا سلبيًا إضافيًا على الاقتصاد، وهو تأثيرها السلبي على استمرارية ما يُعرف بـ«الشركات العائلية».
الشركات العائلية المملوكة بالكامل من أسرة واحدة تلعب دورًا كبيرًا في قيادة النمو الاقتصادي في الصين، لكن بسبب هذه السياسة فإن انخفاض أعضاء العائلة القادرين على إدارة شركتهم يُقلل من قُدرة هذه الشركة على الاستمرار بنسبة 3%، ما يؤدي إلى إضعاف الاستثمار في بيئة العمل الصينية.
جانب اقتصادي سلبي آخر حملته هذه السياسة وهو أن الانخفاض الكبير في معدلات المواليد أدّى إلى انخفاض مباشر بالسلع الاستهلاكية المرتبطة بهم بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، بدءًا من مسحوق حليب الأطفال وملابسهم وحتى المشروبات الغازية وحفاضات الأطفال وغيرها، علاوة على ترقب انتعاش صناعة الترفيه وغيرها من الصناعات التي ترتبط بالشباب، حال زيادة أعدادهم في المجتمع حال التخلي عن سياسة الطفل الواحد.
أشهر ضحايا الطفل الواحد
من أشهر الصينيين الذين عُوقبوا بسبب هذه السياسة، هما المخرج تشين تينج (Chen Ting)، وزوجته تشانغ ييمو، اللذان عوقبا بغرامة قدرها 7.48 مليون يوان بسبب إنجاب 3 أطفال.
وفي 2014م، صدر فيلم «أن تُولد وألا تُولد»، الذي حكى مأساة الأطفال «هيهايزي»، الذين يخفيهم آباؤهم عن الأعين خوفًا من عقاب الدولة.
وبحسب آخر تعداد لهم أصدرته الحكومة الصينية، كشفت عن وجود 13 مليون مواطن «غير مسجل»، جميعهم مخفيون عن سياسة «الطفل الواحد»، افتقر جميعهم إلى أبسط خدمات التعليم والصحة، واضطروا إلى العمل في وظائف غير أكاديمية مثل المهن اليدوية والتعدين وغيرها.
أيضًا من أشهر ضحايا هذه السياسة هي السيدة «فينج» (Feng Jianmei)، التي حملت مرة ثانية في انتهاكٍ لقانون «الطفل الواحد»، فأرغمت على إجهاض طفلها ودفع غرامة قدرها 40 ألف يوان.
نشرت فينج صورتها جوار طفلها المُجهض، فأحدتث دويًّا عالميًا وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي العالمية، واستدعت اعتذارًا من حكومة الصين، وأجرت تحقيقات عاجلة وأقرّت جزاءات بحقِّ 7 مسؤولين، وتعهّدت بإجراء مراجعة شاملة لتطبيق إجراءات تنفيذ سياسها.
ومن أكثر الحقوقيين الصينيين الذين عارضوا تلك السياسة هو «يي فوشيان»، الذي كان أبرز المشككين في جدوى هذه السياسة الإنجابية، واعتبر أنها تُدمِّر الصين، وألّف كتابًا خصيصًا يثبت فيه فشل تلك السياسة بعنوان «بلد كبير مع عشٍّ فارغ»، وتعرض للمحاكمة والاعتقال أكثر من مرة.
أيضًا، المحامي تشين غوانغتشينغ (Chen Guangcheng)، عانَى من العمَى منذ طفولته، وبذل جهودًا كبيرة في النشاط الحقوقي لمكافحة سياسة الطفل الواحد، وهو ما أدّى لتعرضه إلى السجن والاضطهاد، وهو ما دفعه إلى طلب اللجوء السياسي لأمريكا، وسمحت له بذلك.
أمريكا متضررة أيضًا
هذه السياسة أثّرت أيضًا على أمريكا بشكل غير مباشر، بالرغم من تبنّي واشنطن لموقفًا معارضًا لهذه السياسات لدرجة دفعتها لإصدار قانون يسمح للصينيين الفارين من سياسة الطفل الواحد بطلب اللجوء إلى أمريكا.
تبنّت الأسر الأمريكية قرابة 80 ألف طفل صيني تخلّت عنه أسرته خوفًا من العقاب، واحتضنته الأسر الأمريكية التي تفرُّ من التعقيدات القانونية والحقوقية الكبيرة التي تشترطها دور الأيتام الأمريكية قبل أن تعهد لأيٍّ من أطفالها للعيش مع أسرة تتبناه.
كما شاع بين أوساط الأغنياء الصينيين ما يُعرف بـ«سياحة الولادة» عبر السفر إلى أمريكا والإنجاب على أرضها تلافيًا للوقوع في أية مشاكل قانونية مع بكين، بسبب تصنيف أولادهم كمواطنين أجانب لأنهم وُلدوا خارج الصين.
إلغاء الطفل الواحد
في 29 أكتوبر 2015م، أعلنت الحكومة الصينية التوقف عن الاعتماد على سياسة «الطفل الواحد»، في البداية أُعلن تخفيف القيود قليلاً عبر السماح لفئات محددة من الأزواج بإنجاب طفلين وهم الأزواج الذين كانوا أبناءً وحيدين في أسرتهم، وبعدها تقرّر السماح لأي زوجين صينيين إنجاب طفلين.
لم تحقق هذه السياسة تحسنًا سريعًا بعد أعوامٍ من «القمع الإنجابي»، وظلّت الإحصائيات السكانية ترصد انخفاضًا في أعداد المواليد.
فبعد عقود من السياسات الإعلامية الرسمية المكرّسة لإقناع الصينيين بأن طفلًا واحدًا أفضل للجميع، بات من العسير إقناعهم بالعكس إلا بعد عقود من الدعاية المضادة.
في 2016م بلغ عدد المواليد 18 مليون طفل، لكنه انخفض العام الماضي (2020م) إلى 12 مليون طفل فقط، وهو أقل عدد مواليد مُسجل من الستينيات.
وأكد نفس الإحصاء أن عدد سكان الصين القادرين على العمل انخفض بينما زاد عدد السكان المسنين.
ولهذا قرّرت الدولة فتح الباب أمام إنجاب المزيد من الأطفال، وبات بمقدور الأسرة أن تُنجب 3 أطفال، بموجب إعلان رسمي جرى الكشف عنه في مايو 2021م، تحوّل لاحقًا إلى قانون في أغسطس من نفس العام.
وافق الرئيس الصيني شي جين بينغ على هذه الخطوة بعد اجتماع لكبار مسؤولي الحزب الشيوعي.
ونشرت وكالة أنباء الصين الرسمية، أن هذه الخطوة تعمل على «تحسين البنية السكانية للصين»، وتطبيق استراتيجية الدولة للتعامل مع شيخوخة السكان والاستغلال الأمثل للموارد البشرية.
مع تعهد الحكومة بتبنّى سياسات داعمة لتنفيذ هذه القرارات لمعالجة الأسباب الاقتصادية والاجتماعية لسبب عدم إقبال الصينيين عليه حتى الآن، مثل توفير تمويل ورعاية طبية للأطفال وتهيئة وظائف مناسبة للأمهات اللائي يعلن أكثر من طفل.
وبطبيعة الحال، تبنّت أجهزة الإعلام التي تدور في فلك الدولة هذه السياسات، كما هي العادة دائمًا، ونشرت صورًا كرتونية لأطفال سعداء تحت عبارة تقول «السياسة الجديدة وصلت».
كتبت صحيفة «الشعب» اليومية، لسان حال اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، مقالة كُتب فيها «إن ولادة طفل ليست مسألة تخصُّ الأسرة وحدها، بل هي أيضًا من شؤون الدولة».
بدأت بعض المستشفيات في تغطية تكلفة عمليات الولادة، كما قدمت أيضًا إعانات مالية متزايدة مع كل طفل تنجبه امرأة صينية، تبدأ من 500 يوان (60 جنيهًا إسترلينيًا تقريبًا) وتزيد إلى 700 يوان إضافي مع الطفل الآخر.
كما تبنّت بعض مدن جنوب الصين حملة إعلانية بعنوان «1001 سبب لإنجاب طفل»، وبدءًا من عام 2016م سهّلت جميع المقاطعات الصينية إجراءات إجازة الأمومة للأمهات.
وحاليًا، يتخوف بعض المراقبين من أن تتحوّل حالة التطرف الصينية السابقة في مكافحة الإنجاب إلى حالة تطرف مماثلة في إجبار النساء على إنجاب أكثر من طفل ضد رغبتهن.