الراقصات فوق أشلاء الضحايا
عاشت القاهرة ليلة دامية بعدما هز أرجاءها تفجير ضخم، لم يكن هذا التفجير ناتجًا عن أسطوانة أكسجين كما زعمت إحدى «الجرائد الصفراء»، ولم يكن بالطبع ناتجًا عن تصادم بين ثلاث سيارات إحداها تسير عكس الطريق كما زعمت وزارة الداخلية في بادئ الأمر. إنه تفجير انتحاري دوافعه غير واضحة حتى الآن، وغير معلوم لنا من كان مقصودًا. لكن الواضح كما الشمس في الواحدة ظهرًا، أن 22 ضحية جديدة انضموا إلى ضحايا التفجيرات الإرهابية بينهم أسرة كاملة، وكيس من الأشلاء.
بعد نحو اثنتي عشرة ساعة أصدرت وزارة الداخلية بيانًا آخر، قالت فيه إن السيارة المتسببة في الحادث كانت مسروقة وبداخلها كمية من المواد المتفجرة، واتهم البيان حركة حسم بالمسؤولية عن الحادث. وبالتزامن مع بيان الداخلية، قدّم الرئيس عبدالفتاح السيسي تعازيه لأسر الضحايا وأكد أن الدولة عازمة على مواجهة الإرهاب الغاشم واقتلاعه من جذوره.
قبل أقل من أسبوعين، كان لوزارة الخارجية البريطانية موقف يبدو معتادًا من فرط تكراره، لقد جددت تحذيرها بشأن خطر السفر لمصر، بسبب احتمالية «هجمات إرهابية». جاء ذلك في بيان نشرته عبر موقعها الإلكتروني بالتزامن مع إعلان الخطوط الجوية البريطانية تعليق رحلاتها إلى مصر لمدة سبعة أيام كـ«إجراء احترازي». وجاء في البيان: «من المرجح أن ينفذ إرهابيون هجمات في مصر».
يبدو أن الأجهزة الأمنية حينها لم تلتفت للتحذيرات، أكثر من اهتمامها بأن تنطلق أبواقها في الإعلام المصري لاتهام بريطانيا بأنها تتآمر على مصر اقتصاديًا؛ حتى أن وسائل الإعلام اعتبرت أن التحذير ليس إلا تقييمًا خاطئًا عن الوضع الأمني في مصر. أما على المستوى الرسمي للدولة، فلم يكن أكثر كفاءة من هجوم الإعلام، اعتبر مصدر حكومي في تصريح لـإندبندنت عربية أن خطوة وقف الرحلات البريطانية لمصر ليست إلا خطوة سياسية، وربطها كذلك بالتوترات في الخليج العربي مع تصاعد التهديدات العدائية الإيرانية للملاحة البحرية في تلك المنطقة.
في وقت لم ترمم فيه القاهرة الدمار الناتج عن آثار تفجيرها، ولم يكف أهالي ضحاياها عن البكاء، ولم تتوقف رائحة الدماء عن نفاذها؛ كان هناك مجتمع يرقص ويغني وينشر صورهُ وهو يرتدي الأبيض الصيفي على وسائل التواصل الاجتماعي ولا يبالِي لأشلاء الضحايا. مجتمع خلق لنفسه أكثر من يوتوبيا معزولة عن واقعنا وعالمنا قدر المستطاع، هذا المجتمع ينظر علينا من الأعلى ويخبرنا عبر شاشات التلفاز بابتسامة بلهاء أن كل شيء على ما يرام وأن الأحوال الاقتصادية والسياسية والرياضية والفنية والعلمية والعملية تتقدم بسرعة البرق، وأن العمليات الإرهابية لن توقف مسيرة التقدم. وربما يطلب هؤلاء منا أن نتبرع بأي شيء لأي شيء والسلام. مجتمع يعتبر نفسه مسؤولًا عنا متحكمًا فينا لأنهم أبناء المسؤولين والمسؤولات ولا بد أن يصيروا ويصيرن مثل آبائهم وأمهاتهم، إنه مجتمع يعيش في واد غير وادينا الذي تنبثق منه رائحة العرق في عربات المترو أو تلتصق فيه المؤخرات ببعضها في أتوبيس هيئة النقل العام.
بالمناسبة كل مدينة في هذا الوطن خالية من مقهى شعبي وعربة فول ولم يمر فوق أرضها أتوبيس هيئة النقل العام؛ هي يوتوبيا لا علاقة لها بالسكان الأصليين لمصر، هذا الأتوبيس الذي بسببه أدعو الله ألا تفكر جدتي للخروج من منزلها اشتياقًا إلى زيارة سيدنا الحسين كما كانت تفعل في شبابها؛ لأنها لو فعلت قد ترفض أي توصيلة إلا توصيلة أتوبيس الهيئة، وقتها قد تصاب بصدمة عندما تدرك أن عليها دفع من أربعة إلى سبعة جنيهات سعر تذكرتها منفردة، وليس سعر تذاكر أولادها وأحفادها وجيرانها وبالباقي عصير قصب كما كانت تفعل في شبابها.
بعد التفجير بأيام قليلة فوجئنا بحفل صاخب أحيته مغنية أمريكية شهيرة تدعى جنيفر لوبيز، تلك المغنية التي أقامت حفلًا في تل أبيب، مؤخرًا، وهو ما جعل الحملة الشعبية المصرية لمقاطعة إسرائيل (BDS Egypt) تدعو عددًا من الفنانين المصريين والعرب بالتراجع عن ترحيبهم بالمطربة اﻷمريكية جنيفر لوبيز، بسبب دعمها الاحتلال الإسرائيلي، كما طالبت الحملة عبر صفحتها على فيسبوك، شركة أوراسكوم للتطوير والتنمية المنظِّمة للحفل بالتراجع عن إقامته، نظرًا لجرائم الاحتلال الإسرائيلي المستمرة في حق الفلسطينيين، في منشورٍ أشارت فيه إلى سميح ساويرس، رئيس الشركة.
على كل حال أحيت جنيفر حفلًا في يوتوبيا مصرية وصل قيمة تذكرة الحفل للفرد الواحد 4500 جنيه، أخشى أيضًا أن تعلم جدتي أن هذا الرقم قد يدفعه أحدهم لسماع مغنية أمريكية ساعة أو ساعتين، أو أن أحاول إيضاح معنى أن يكون سعر تذكرة حفل غنائي أكثر من المعاش الذي يحصل عليه جدّي بـ4 مرات، أو أن أخبرها بأن منظمي الحفل أعلنوا عن إمكانية تقسيط سعر التذكرة لمدة 6 أشهر كاملة، لأنها لن تفهم معنى تقسيط في أشياء غير أجهزة العروس، كل هذا خطر على صحة إنسان لا يعلم أي شيء عن أي شيء سوى ما يدور داخل منزله.
مدينة العلمين التي أُقيم فيها الحفل إن كنت لا تعلم عنها الكثير فهي مدينة تشبه في ضخامتها العاصمة الإدارية الجديدة، التي ستذهب إليها الحكومة وتتركنا هنا في عاصمة مصر القديمة، وقالت عنها وزيرة الاستثمار والتعاون التي نشرت صورتها في حسابها على إنستجرام وهي تشارك في الحفل مع صديقاتها وزيرة التضامن الاجتماعي غادة والي، ووزيرة التخطيط والإصلاح الإداري هالة السعيد، قالت إن «مدينة العلمين الجديدة هي مدينة متكاملة، بها مشروعات سكنية، وجامعات، ومدينة للثقافة والفنون، ومشروعات سياحية وترفيهية، وأبراج عملاقة».
نحن أمام حفل أحيته مغنية تدعم الاحتلال الإسرائيلي، حضره فنانون ووزيرات في مدينة معزولة لا يدخلها الفقراء، بعد تفجير أدى إلى قتل 22 ضحية. نحن أمام مجموعة من البشر سيناضلون قدر الإمكان من أجل أن يمحونا من ذاكرتهم ويعيشوا في مدائنهم العملاقة يرقصون في حفلات صاخبة دون مبالاة لما يحدث لنا.