«يومًا ما كنت إسلاميًا»: بين نوستالجيا الحُداء وضبابية التحول
كتاب هادئ الصفحات يقبع بغلاف أنيق على الرّف، يستفزّ العنوان ناظريك، لتبدأ رحلة الأسئلة منه: وماذا بعد أن «كنتَ إسلاميًا؟» هل تخليتَ عن إسلاميتك، أو ما زلت تحن إليها؟ وإن كنتَ يومًا في الماضي إسلاميًا فما أنت الآن؟
تبدأ في تصفح الكتاب لتبدأ أصابعك بالاشتعال، فالكتاب الذي بدا مسالم الملامح يفتح على عقلك بوابات يتطاير الشرَر من كلماتها، وتجد في خلايا ذكرياتك ما يريد أن ينفجر بها كأنما هي قنبلة موقوتة على توقيت وعيك وتبدّل أحوالك.
لن أدخل في تعريفات الإسلاميين/المسلمين والفرق بين الحركات الإسلامية التي ورد ذكرها في الكتاب؛ لأن في المقدمة غناءً عن ذلك لمن أراد، لكني سأقرأ الكتاب من منظور صاحبه، فلا يمكنني فصل كاتبه عنه بتطبيق قواعد النقد البنيوية أو التفكيكية.
الكتاب يجمع بين السيرة الذاتية والتنظير الفلسفي والتوصيف الاجتماعي من خلال الفردانية، باعتبارها انعكاسًا لمجتمع عاش فيه الكاتب بدا محدودًا صغيرًا، لكن امتداده في أرجاء العالم الإسلامي جعله يستهدف ما لم يُتوقّع، فإذا بها شريحة تعاني ذات الأعراض، وتنصهر في نفس الأتون، وتغرق في لُجج متشابهة من الأفكار والمواقف والتحليلات.
الفردانية الإسلاميّة بين النوستالجيا وألحان الحُداء، وكلمات الأشرطة والأناشيد التي عاشت جيلين أو ثلاثة محاولة إيجاد وعي ينطلق عن منظومة من الأفكار والممارسات. وبين واقع لا يعترف بهؤلاء ولا يشعر بوجودهم ولا يفهم مصطلحاتهم؛ فهو في غربة قد تحدِث مع ألمها نوعًا من السعادة الداخلية أن «طوبى للغرباء!».
تنبجس التساؤلات بمجرد تقليب الصفحات، ويبدأ القلب قبل العقل تلمُّس طريق قديم بدأ أثره يضمحلّ في محاولة متناقضة بين محو ذلك الأثر والخجل من ذلك الماضي، وبين عودة لإظهاره باعتباره علامة مسجلة في الشكل وطريقة الحديث و«إيتيكيت» التعامل.
هذا الجيل البرزخي الواقع في منزلة بين المنزلتين، منزلة الطوباويين الذين أفنوا أعمارهم وقضوا تحت التعذيب والمحاكمات، أو في المنافي بعد ما لفظتهم أوطانهم. ذلك الجيل الذي عاش التغيير وشعر بإنجاز شيء ما، ثورة الحجاب في الثمانينيات، الثورة الإسلامية في إيران التي انعكست بأشكال شتى على مجتمعات الدول الإسلامية والعربية منها خاصة، أحداث عالمية سياسية وحّدت البوصلة تجاه قضية واحدة للأمة وللشعوب، كسر نير التقاليد، ومنظومة حركية في الأخلاق والفكر والتعامل، تفرد في السّمت، وتقارب في منهج القيادة والتربية والتعليم.
فكرة صناعة الإنسان/الإسلامي خليفةً لله في الأرض ووصولًا لأستاذية العالم. نكبة تلتها نكسة وتتالت بعدها الصفعات التي أيقظت شعور الواجب والبحث عن هدف يقربنا ويجمعنا كأمة في مواجهة رد الفعل للتجمع كقوميات وإثنيات أخرى، ليعيش ذوبان الفرد في ظل جماعة تحتضنه وترفع نفسها به.
وببن جيل جديد حديث لم تتبيّن ملامحه بعد، عاش أيضًا في المنافي لكنه لم يعرف الحنين لوطن الأجداد، تلقى صفعات جديدة لكنها في ظل ثورة التكنولوجيا أصبح التعامل معها مختلفًا، آمن بفرديته وعاش تجربته الخاصة، لتتغير/تنحرف بوصلته نحو فردانيته والانسلاخ من عبء الأمة وثقل حملها على ظهره، منفتحًا على الآخر/الآخرين، ويبدو هائمًا لا يقف على أرض صلبة، لكنه شغوف بالتحدي والنقاشات والجدليات وعدم التسليم والسمع والطاعة.
ذلك هو جيل المعذّبين الذين يحبون الطوباوية الأبوية ويحنقون على الدوغماتية في الجماعات الإسلامية، ينظَّمون في سلك السمع والطاعة، ويلقَّنون أبجديات التنظيمات، لكن شيئًا في عقولهم ينبت كزرعة خبيثة، وشيئًا في قلوبهم يتصارع فيه الحقد والحنين، يظهر تذبذبهم على سمتهم، يبدؤون بتمرد ناعم، ويعيشون ربيعًا لم يتذوقوا سوى علقمه.
جيل الفجيعة ليس جيل النكسة والنكبة ومحنة عبد الناصر وصدّام وحافظ، ولا جيل المستقبل الذي لم تتبين ملامحه السياسية، جيل الفجيعة الذي لم يشهد بيع الأوطان، لكنه شهد اختطافها أمام عينيه!
شخصياتهم تحاول النهوض لأنهم في أبناء جيلهم الرواد، لكن هشاشة دواخلهم تجعلهم يقدمون ويحجمون، يبكون ويضحكون، يخفون ويعلنون، يقولون ويصمتون، يجهرون ويسرّون، لم تستقر أفئدتهم ولم تطمئن وجيبتهم.
علّ الكاتب أراد من خلال سرد مؤدلج أن يصف أبناء ذلك الجيل بنظرة «كانت» التي جمعت بين العقلية والتجريبية، إذ كان «ديكارتيًا» في روحه؛ لأنه يؤكد على المشكلة المنهجية التي تخص وضع معيار محدد للمعرفة قبل الشروع بحل أي مشكلة فلسفية. وفي الوقت الذي هاجم فيه «كانت» موقف التجريبيين لإلغائهم العقل، عندما حصروا المعرفة في نطاق الحواس فقط، هاجم العقليين أيضًا لأنهم وقفوا بالضد من التجريبيين، عندما كفروا بالحواس وآمنوا بسلطة العقل المطلقة.
ولذا فقد اتخذ «كانت» في الواقع موقفًا وسطًا بين ما هو حسي وما هو عقلي، محاولًا من خلال فلسفته النقدية، وضع العقل في مكانه الصحيح باعتباره قوة نشطة وظيفتها تنسيق الأحاسيس وتحويلها إلى أفكار؛ وبهذا جعل من العقل قوة خلّاقة تحول التجربة المشوشة إلى وحدة ذات معنى في الفكر المنسق.
إنهم إذن معتزلون جدد، يرفعون قيمة العقل، ويردون إليه ما سمعوا من تنظيرات وأحكام ومواقف فُرضت عليهم، لتعيد ذاكرتنا لتلك الحجاجات والمناظرات أيام «أبي حنيفة النعمان» و«ابن حزم» و«ابن تيمية» في مسائل ليست جديدة البتّة، إذ حفل بها التاريخ الإسلامي، بل حفل بما هو أعمق وأكثر إشكالية مما نحن فيه اليوم؛ ليقرأ الواقع بعين الفقه، والفقه بعين الواقع.
فهل كان قدر جيلنا أن يعيش الانكسار والتشوش والتجريب والتجريد، ويكون الفرد الإمبريقي في مراحل مختلفة من حياته؟ وهل كُتب على أجسادنا أن تكون جسر عبور تدوسها الدوغماتية من داخلها، والتهميش من خارجها؟ وهل عشنا هكذا منبتّين ندّعي حب أوطان لم نستنشق هواءها، وإن عشنا فيها فقد رُبّينا على نبذ الأوطان لأجل الأمة وحلم التوحد تحت راية واحدة، فلا نحن أحببنا أوطاننا ولا نحن اندمجنا في بلدان الشّتات؟ أَفَأُرغمنا على غربتنا في مجتمع متماسك، لم نكن عاديين بسطاء مبتهجين، ولا قدنا فكرًا وصنعنا ثورة حقيقية في منظومة أفكار جديدة؟
يوقعنا الكاتب في فخّه، ويسحب خيوطنا من أيدينا ليلقينا خاوي الروح، مثقوبي الفؤاد، نتحسر على ماضٍ عشناه ولم نعد ننتمي إليه، وكرهنا واقعًا لا نصنعه بالكامل وليس كما نريد، تتفلت أمورنا من أيدينا كالقابضين على الماء، ولا نعرف وجوهنا في عيون أبنائنا الذين يخرجون من عباءاتنا المهترئة بوعي زائف، وبضاعة مزجاة، لنربّيهم على غير ما ربّانا آباؤنا الذين بدورهم ربّونا على غير تربية آبائهم؟
فهل أُسقط في أيدينا وتصيدتنا العولمة وإن حاولنا مقاومتها ومهاجمتها؟ وما القادم الّذي يصنع على عين الله وحده؟ وما ملامح الجيل الآتي؟ وهل سينبتّ فلا أرضًا أبقى ولا ظهرًا قطع، أم سيسمح لنا برسم بعض من قسمات وجهه، وإعطائه بعض التعويذات لينجو؟
هذا الكتاب: هو نحن، أنا وأنت.. من بقيت أفراح سيّد آثارًا في روحه كباقي الوشم في ظاهر اليد، الذي ما زال بين الحين والآخر يفتح على «يوتيوب» أناشيد «أبي دجانة» و«أبي مازن»، ويترنّم بـ«اسلمي يا قدس»، وإن طرب وتأرجح بـ«مرجيحة» «حمزة نمرة». ما زالت على شفاهنا «جزاك الله الجنة». ما زلنا حاضرين في كل نادٍ للثقافة والفكر، نصدر عن تراث تشرّبناه، وقراءات في الحياة والفلسفة والفكر والأدب يطلعنا على ضيق أفق وسعة لحد.
لربما استرسلت في فردانيتنا نحن أيضًا، وغلبني الألم حتى بتّ أشكو بدل أن أحلل وأصف؛ لذا سأنتقل إلى بعض الملامح التي وقعت عليها في أسلوب الكتاب والكاتب، وبعض رؤًى تخصني وحدي، ولا أدري إن كان ثمّة من يشاركني فيها.
أيقوناتٌ بارزة صدر عنها الكاتب وأدارها في رحى الكتاب محورًا حيث دار تدور معه. منها أيقونة الوطن والغربة بمفهومهما الضيق والواسع، الإيجابي والسلبي، ومفهوم جديد لثنائية مستلبة:
لن يخفى على من يقرأ كلام هذا الطفل أدلجة الأفكار من حوله بما لا يشبه أفكار أقرانه، مما أعاشه غربة داخل الوطن.
الكتب تقلب الموازين: تلكم كانت الأيقونة الثانية، أيقونة الثقافة النوعية والكمّية، مذ فتح الكاتب عينيه على رفوف مكتبة والديه المنتقى كتبها بعناية، حتى آخر صفحة في الكتاب. إنها القراءة إذن هي من تصنع الوعي، وتبني الإنسان الحق، وتجعله يمر بكل التناقضات والشكوك والهواجس وتقلب الأفكار والعذابات حتى يطمئن بعدها ألا غنى ولا مفر ولا مناص من القراءة، كما لا ثورة ولا تمكين دونها.
أيديولوجيا الجماعات: هذه الأيقونة كانت لربما هدف الكتاب برمته وغايته ومنشده، لكن إيضاح هذه الأيديولوجيات وتفاصيل طقوسها كان يشوبه شيء من الغمام، إذ يعرضها الكتاب بطريقة أشبه بالقصّ السردي البسيط لمواقف قد تتغير أو تتباين تبعًا للشخص أو الحدث، وإن كانت في مجملها قد أضاءت بعض الزوايا المعتمة حول جماعة الإخوان أو السلفية أو الدعوة والتبليغ أو الإسلام الفكري بشكل عام، وأحيانًا برزت هذه الأيديولوجيات عن طريق أسئلة لا إجابات لها واضحة:
أو عن طريق انتقاد صادق نابع عن تجربة أو نصيحة على لسان أحدهم:
وأهم ما أراد الكتاب تبيانه – في رأيي- هو ذلك التحول في المواقف أو العدول عن الأقوال والأفعال مع تبدل الأزمان والعقول:
ختامًا، لا أخفي أني استمتعت بتلك القدرة البلاغية الرشيقة التي اكتنفت أسلوب الكتابة وروح الدعابة والطرافة، التي كمن أضاف الملح إلى طبق لذيذ فزاد من لذته وتقبل طعمه.
هنيئًا لنا بعينك البصيرة وقلبك الواعي ومشاريعك الرائدة، ونفسك التواقة التي لا تكلّ.