أمي، أحيا وحيدًا بدونك أنتِ وأبي… أعيش بين أسوار سجنٍ يدّعون أنه دار لرعايتي أنا ومن هم مثلي من الأطفال الذين حُرموا من العيش في كنف أسرة تحتويهم… يمنحونني الحلوى ويتراقصون معي يومًا في العام ليذكروني بيُتمي وشدة حاجتي إليكِ، ثم أتدرين؟ أعيش طوال العام متعطشًا لكلمة طيبة ونظرة حانية وحضن دافئ كحضنك. يضربونني ويعذبونني إن صدر مني أمر يزعجهم، هل صار اليُتم عقوبة يا أمي تستحق كل هذا الإيذاء البدني والنفسي. أكتب لكِ وأنا جالس على سريري أبكي، ليتكِ لم تتركيني أو ليتني أستطيع الذهاب إليكِ.

أنا لست وحدي، فهناك الملايين من الأطفال يعيشون حياة كحياتي أو أقسى. أرى بعيني كيف يتأذى صديقي إذا بال على نفسه وهو نائم، والثاني إذا سكب الطعام على ملابسه، والآخر إذا أراد أن يمارس حقه كطفل في اللعب بالكرة وكسر شيئًا دون قصد منه، وآخر لم ينظف سطح الدار في الصباح الباكر، كيف تكون النتيجة. أنا لا أريد عيدًا أعود في نهايته ببعض الهدايا والحلوى، ليُغلق أبواب السجن علىّ مرة أخرى، جُل ما أريده أن أشعر أنني عائد إلى بيتي وأن تكون الأم البديلة حانية ولطيفة مثلك.

رسالةٌ لم ولن تصل، شعورٌ يختلج صدور الملايين من الأطفال، لكنهم قد لا يجيدون التعبير عنه. حقوقٌ مهدرة وانتهاكاتٌ تصدر بحقهم في دور الرعاية المختلفة في مصر، تجعل من الاحتفالات ستارًا يختبئ خلفه الكثير من الأوضاع المزرية. قضيةٌ لطالما سُلط الضوء عليها في البرامج التلفزيونية والأفلام والمسلسلات. وعبرت وزارة التضامن الاجتماعي عن تعاطفها و«مساعيها الحثيثة» في حلها. لكن تُرى هل فلحت الدولة المصرية بإعلامييها ومؤسساتها وتشريعاتها في تحسين أوضاع اليتيم؟! هل كان الاختراع المصري الخالص، باختيار أول جمعة من شهر أبريل/نيسان كل عام منذ 2003، للاحتفال باليتامى حلاً لجذور القضية أم مجرد مسكنات لجراح لا تلتئم؟


تعذيب واغتصاب وأدوية محظورة

نسمع بين الوقت والآخر قصصًا وأخبارًا عن تعذيب وقهر أطفال في دور لرعاية الأيتام، لا ذنب لهم سوى أنهم وقعوا في قبضة أناس بلا رحمة. ففي الآونة الأخيرة، انتشر عبر شبكات التواصل الاجتماعي العديد من المقاطع المصورة التي ترصد بعضًا من الانتهاكات، تتم في تلك الدور، وهو ما ساعد على إعادة فتح ملف حقوق الطفل اليتيم مرة أخرى.

ففي برد الشتاء القارس، نرى مقطعًا لطفل يصرخ في إحدى دور الأيتام عندما أجبرته الأم البديلة «المشرفة» على التحمم بالماء البارد في الصباح. وعندما صرخ ورفض قائلا «مش عايز ماية ساقعة لأ» قامت بسكب المياه عليه بحجة أنه تبول على سريره، وكان لا بد من عقابه وتأديبه حتى لا يكرر الأمر!

https://www.youtube.com/watch?v=arNGgxL05CI

وفي وقائع أخرى، قام مشرف بدار أيتام بالشرقية باغتصاب ثلاثة أطفال وتحرش بخمسة آخرين. ومشرفات اتخذن من الأحذية وسيلة لإجبار الأطفال على السكوت بوضعها في فمهم، كما حدث في دار أيتام بالنزهة.

وفي دار مكة للأيتام بحي الهرم في القاهرة،انتشر مقطع مُصور لمدير الدار في عام 2014، وهو يقوم بضرب وتعذيب سبعة أطفال بالعصا، الأمر الذي أغضب حينها الرأي العام المصري وكان سببًا في انتشار الكثير من المقاطع المصورة بعد ذلك. أُلقي القبض عليه وقضت محكمة مصرية بسجنه ثلاثة أعوام في سبتمبر/أيلول 2014.

في مشهد آخر، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي في مصر على إثر انتشاره، عندما قامت مشرفة بتعذيب جماعي داخل إحدى دور الأيتام في مصر الجديدة. وذلك بضرب الأطفال وربطهم في الأَسرة وكانت النتيجة أن تم فصلها من العمل بالدار.

كذلك، تم كشف الستار عن كارثة جديدة في فيديو، ظهر فيه طبيب مصري وضح من خلاله أن هناك قائمة أدوية كبيرة تشتريها إدارة دار رعاية أيتام في مصر الجديدة من إحدى الصيدليات، تقدر قيمتها بآلاف الجنيهات، وتشتمل على مهدئات عصبية ذات آثار جانبية على الأطفال، كالحساسية الشديدة والميل للانتحار وفقدان القدرة على السيطرة على النفس. فهي قائمة لا تُصرف سوى للمرضى الذين يعانون من أمراض الصرع وكهرباء المخ، ومحظور على الأطفال تناولها.


لماذا تفشل الدولة؟

إن حل المشكلة يكمن في ضرورة تكثيف الرقابة على دور رعاية الأطفال الأيتام وهو ما تعمل عليه الوزارة حاليًا.

سمية الألفي، رئيسة الرعاية الاجتماعية بوزارة التضامن الاجتماعي.

وفق تصريحات وزيرة التضامن الاجتماعي «غادة والي» في أبريل/نيسان2017، فإن السنوات الأخيرة شهدت زيادة في المخالفات داخل دور رعاية الأيتام من انتهاكات جسدية ونفسية واستغلال مادي وجنسي. إذ يوجد على مستوى الجمهورية قرابة 472 دارًا للأيتام إلا أن أكثر من 75% منها يستحق الإغلاق نظرًا لافتقارها لأبسط قواعد الحياة الكريمة بدعوى قلة الموارد والمرتبات وعدد المشرفين.بل أصبحت تلك الدور – في نظرها – مشروعات تجارية معتمدة على التبرعات في المقام الأول، وربما لهذا السبب تلجأ وزارة التضامن الاجتماعي كل عام إلى سياسة إغلاق بعض دور الأيتام المخالفة.

غياب الرقابة

يكمن جوهر المشكلة في آلية إدارة تلك الدور ومستوى الرقابة على العاملين فيها. ماذا لو كان هناك تفتيش دوري مفاجئ من قبل لجان في وزارة التضامن الاجتماعي؟ كيف سيكون الوضع إذا تم تفعيل نظام الكاميرات حتى يعلم كل العاملين في تلك المؤسسات أنهم مسئولون عن أرواح لها ثمن؟

يتحدث دكتور «هاني هلال» رئيس المؤسسة المصرية للنهوض بالطفولة، أن هناك حالة من غياب الرقابة من قبل وزارة التضامن الاجتماعي، فمعايير الجودة لم تطبق داخل تلك المؤسسات، ومع ذلك تغيب الأحكام الرادعة ضد من يقوم بتعذيب الأطفال.حتى أن قضية كقضية تعذيب الطفل بالماء البارد خلُصت بإخلاء سبيل المشرفة لعدم ثبوت أدلة ضدها.

فالسياسة المتبعة لتلك المشكلات هي بمثابة «وضع مسكنات فوق الجروح» على حد وصف رئيس الجمعية المصرية لمساعدة الأحداث «محمود البدوي». فسبب المشكلة – في رأيه – يتمثل في عدم وجود معايير لاختيار المتعاملين مع الأطفال في تلك الدور، إذ لا بد من وضع معايير لضبط النفس وقياسات الثبات الانفعالي للمتعاملين مع الأطفال كل ستة أشهر. علاوة على ذلك فإنه لابد من إخضاع العاملين إلى برامج تدريبية من قبل متخصصين حتى يتعرفوا على طرق التعامل الإيجابية مع الأطفال.

التضييق على منظمات مجتمع مدني

من المفترض، أن يكون لمنظمات المجتمع المدني دور فعال كأداة مُكملة لوظائف الدولة، ووسيلة رقابية تقف إلى جانب الدولة لتعينها على تصحيح المسارات في المؤسسات الحكومية. لكن الأمر في مصر يختلف كثيرًا، إذ يقول «مصطفى أبو الحسن» مدير مركز هشام مبارك للقانون، إن «منظمات المجتمع المدني بعيدة عن القيام بدورها تجاه الأيتام؛ نتيجة التضييق على منظمات المجتمع المدني، وسيطرة الدولة على العمل الأهلي، ومنع التمويل وتعطيل المبادرات مما يؤدي إلى تقليص دورها وخاصة الخدمي منها».

كما يشير «خالد حنفي»عضو لجنة التضامن الاجتماعي بالبرلمان المصري، إلى ما يعانيه المجتمع المدني من إجراءات تعسفية تسببت في إغلاق العديد من دور الأيتام والجمعيات الأهلية تحت دعوى «دعم وتمويل الإرهاب».

تمويل متواضع وتباطؤ ممنهج

تعيش دور رعاية الأيتام على التبرعات التي يمنحها المواطنون على سبيل مساعدتهم في تحسين الأوضاع بداخلها، وخلق جو آدمي يتنفس فيه اليتيم ويحصل على أبسط حقوقه في العيش دون أي قهر أو إذلال. بيد أن هذا لا يحدث وأن هناك من يشكك في وصول تلك التبرعات بالأساس لمستحقيها.

إلا أن وزارة التضامن الاجتماعي ذاتها خلال سنوات طوال لم تبذل جهدًا يُذكر في تمويل تلك الدور، إذ تقول «زينب عفيفى»، رئيسة الاتحاد النوعى لأيتام مصر، إن وزارة التضامن تلقت 114 مليون جنيه من صندوق تحيا مصر لتحسين أوضاع دور الأيتام. ورغم ذلك لم يحدث أي تقدم في هذا الملف، مشيرة إلى نية وزارة التضامن في غلق جميع دور الرعاية بحلول عام 2025 والتوسع في نظام الأسر البديلة.

وفي سياق آخر، نجد وزارة التضامن الاجتماعي تُعلن في 18 مارس/آذار 2018، عن بدء تنفيذ «برامج تطوير رعاية المسنين والأيتام» في مصر بمبلغ تقدر قيمته 23 مليون جنيه في صورة منح للجمعيات والمؤسسات الأهلية المعنية بدور الرعاية الاجتماعية. يهدف هذا البرنامج إلى «تحسين جودة الخدمات المقدمة في مؤسسات رعاية المسنين والأطفال المحرومين من الرعاية الاسرية ورفع كفاءة المؤسسات الأهلية من حيث البنية التحتية ودعم مهارات مقدمي الرعاية».

الأمر الذي يثير تساؤلات مهمة: إن كانت الوزارة تُشكك في وصول التبرعات، المقدمة للجمعيات، للأطفال وتعتبر الدور مجرد سبوبة. فهل تخصيص مبلغ متواضع كهذا مقدم لبرنامج يشمل ملفين ثقيلين كالأطفال اليتامى والمسنين يكفيان للنهوض بتلك الأهداف؟!


الدور الإعلامي في تغطية الانتهاكات

دأبت البرامج التلفزيونية على تغطية القضايا التي تثيرها مواقع التواصل الاجتماعي من تداول مقاطع فيديو ترصد الانتهاكات التي يتعرض لها الأطفال في دور الأيتام. وذلك باستضافة أطراف القضية والطفل المنتهك حقه، تعرض من خلالها ما حدث وكيف سيسير التحقيق مع الجاني أيًا كان مشرفًا أو عاملاً أو مديرًا للجمعية. مع فتح الباب أمام الاتصالات، كي يستقبل الإعلاميون اتصالات المشاهدين وآراءهم. يتحدث كل متصل بحرارة شديدة عن أنه لابد من وضع حد لتلك المهازل وتشديد الرقابة على دور الأيتام. وفي نهاية الحلقة يناشد المذيع السادة المسئولين ويشكر الطفل ويدعمه «بكلمتين حلوين»!

تنتهي الحلقة وينسى المذيع والمشاهد والمسئول وتمضي الأيام حتى يظهر مقطع مصور جديد يهز أركان مواقع التواصل الاجتماعي. ومن ثم تتناوب البرامج على تكرار العملية والتقاتل فيما بينهم «من سينفرد أولاً» باستضافة الطفل حتى تكون الحلقة نارية؟ فالمشاهدون ينجذبون لتلك الحلقات بشدة لا أعلم إن كان هذا الأمر على سبيل التسلية أم التعاطف في نهاية الليل. لكن ما أعلمه ألا أحد يحرك ساكنًا.

في حقيقة الأمر، يظهر الطفل على شاشة التلفزيون على أمل أن ينتهي كل شيء بحديثه. يتحدث عن معاناته هو وإخوانه ويسرد ما هو أكبر من عمره الحقيقي. فنجد طفلًا يُدعى «هيثم» كان ضيفًا في برنامج العاشرة مساءً يتحدث عن مسألة غياب القدوة، فيتساءل إذا كان الأخصائي في الدار يُدخن ويشرب «الحشيش» فماذا سنفعل حين نكبر؟ يتحدث عن قسوة العالم وضبابية المستقبل الذي ينتظره هو وإخوانه في الدار. يتحدث في رهبة عن خوفه من إكمال الدراسة رغم تفوقه المشهود مُرددًا أخشى على نفسي وإخواني من الشارع، أخشى أن أضطر يومًا إن هربت من الدار، نتيجة سوء المعاملة والإهانة والضرب، أن أجد ما هو أسوأ منه يتلقفني فأضطر للسرقة أو القتل أو التدخين وشرب المخدرات. مُتسائلاً: لماذا أجد في الدار من يضربني ويقول لي «أنت ابن حرام؟ لماذا يسببونني بأمي وأبي؟!»

أي قهر كهذا؟ إن كان على الدولة العامل الأكبر في تشديد الرقابة على الدور ومنح الأطفال الأمان والحماية التي يطالبون بها، فإن الدور ذاتها يجب أن تُدرب من يرغب بالعمل بها كيف يكونون بشرًا أولاً. وأن تُفعل آليات الانتقاء والتدريب وفق معايير. فمستقبل الدولة وأمنها مرهون بمستقبل هذه الأطفال، وقبل طرح التساؤلات عن زيادة معدلات الجريمة، علينا أن نتساءل أولاً: ماذا قدمنا لهؤلاء الأيتام كي يكونوا مواطنين صالحين أسوياء؟!