على الرصيف المقابل لدار القضاء كانت فلسطين
قبل الإغلاق بساعة
على الرصيف المقابل للجدار الجنوبي لدار القضاء العالي التقينا، جثة الإرهاق يأكلها دود الحماس، الهالات السوداء تسدل ستار العدم عن إلحاح العين بأن تغمد، تمتمات ترحاب دارت كتواشيح الفجر تشعل في صدرك نار الجدة والعزم، تهتز أحبالي الصوتية مصدرة ترددات كقرع جرس كنيسة تكاد تخرق أذنيك لتخبرك بحلول صلاة السادسة، وظرافة تدعيها لأن الدوبامين أعلن رسميًا وجوده على حين غرة.
قبل الإغلاق بساعة، التقينا على الرصيف المقابل للجدار الجنوبي لدار القضاء العالي، كانت تحمل «شنطة» مثقلة كأنها ريشة في يديها، بادرت وحملتها عنها بعد عناء يوم طويل قضته في الترحال حاملة الوطن على ظهريها لأكثر من 24 ساعة، ذلك الحمل الذي يحمله الفلسطيني من غزة وإلى العالم ولا يحمله الأخير، لا يشق غباره إلا بعض الود بين فينة وأخرى. حملت منها الكيس وأدركت ما تحمل بين أضلعها لتشعر بخفة ما تحمل في يديها، لا يعني هذا اعترافًا مني بضعف عضلات يدي اليسرى مع أن والدي كان أعسر.
لأعمال الصيانة في الشارع، مشينا بثقل المذنبين على الصراط، لا أحسب لحركاتي وانفعالاتي وكلامي كثيرًا، لكن أعيد على نفسي السؤال: كيف حملت هذا الثقل بخفة عندما رأيتها؟ أهي قوية ولا يبدو عليها ذلك؟ أم أنها حملت سلاحًا قبل ذلك؟ كم وزن الأسلحة إذن؟ أعرف بعض أوزانها بلا شك، ليست ثقيلة كالذي يسحبني إلى الأسفل! من الممكن أنها كانت تتظاهر بخفة ما تحمل؟ أم أن أعراض الإرهاق وقلة النوم بدت تظهر علي؟ كانت والدتي تقول لي إنها لم تر أحدًا يظهر على وجهه الإرهاق مثلك مع أنك قد تستمر لساعات بعدها في إفاقة وحيوية. حملت ذلك الثقل وأنا أفكر فيه مليًا، انتقل رويدًا الثقل من يدي إلى الفص الأيسر من المخ، ورويدًا شعرت بقشعريرة الدوبامين ونحن على الرصيف المقابل لسور الجنوبي لدار القضاء العالي.
حماسة شامبليون
حطت رحالنا إلى مقهى سيتي كوفي، كان هادئًا قبل أن تتدخل ساعات الإغلاق الملتزمة بالقرارات الصارمة لمجلس الوزراء، أمام السور الجنوبي لدار القضاء العالي، في شارع شامبليون، لم أكن أعرف شامبليون هذا قبل اثنتي عشرة سنة، لم أكن أعرف كثيرًا عن حجر رشيد أيضًا، هذا أمر منطقي فقد تلقيت التعليم الأساسي كله في اليمن، كان الخط الذي تعلمنا حروفه كاملة هو المسند، تذكرت أحد الأسئلة التي كان جوابها أن تكتب اسمك بذلك الخط، كنت من القلائل الذين كتبوه صحيحًا. لم تكن معرفتي بالحضارات المصرية القديمة-(ليست حضارة واحدة)- ذا بال، كان المصريون يستدعون في المنهج اليمني في ثلاثة سياقات أولها أنها من أقدم الحضارات وألهمت شرق المتوسط، أن حتشبسوت أرسلت بعثة إلى اليمن كان أحد قاداتها أقوى إمبراطور مصري تحتمس الثالث، وأن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعًا وأن المصريين فراعنة شداد وإن أبدوا خلاف ذلك. عرفت الهيروغليفية في المدرسة بالطبع، لكن ضاقت المساحات في الصف برشيد وحجرها ولشامبليون.
تعجبني سيرة شامبليون مع تحفظي عن كون علم المصريات أوروبيًا لا مصريًا، لا أهيم كثيرًا مع محاولات إقناع النفس فاقدة الثقة أننا أوروبيون سقطنا خطأ في أفريقيا، أتهكم عمومًا على تلك النظرة بشكل لا أستطيع كبحه، نحن أناس لم نضل الطريق لنبحث عن قبس غير ما نملك بين أضلعنا. أحمل من الجينات التي لا أشك أنها مصرية وأفريقية، كما يحمل اسمي نسبًا سلاليًا لا أعرف من أي أرض أقلع أو حط. أنا ابن آدم العاري وحواء الظل، وابن البطون كل البطون لا بطن أمي فحسب، كل الناس أرحامي، والأرض أنا.
يعجبني شامبليون ذلك الفرنسي الذي أراه شابًا بعمر السادسة عشر يقف أمام أكاديمية غرينوبل يقنع الحضور أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين القبطية واللغة المصرية القديمة، وما الأولى إلا تشوهًا من الثانية، ذلك بعد أن التقط خيطًا من الطبيب الإنجليزي توماس يانغ صاحب تلك الأطروحة، وسينجح الشاب في مداراة سرقته باكتشاف حقيقي فكان أهلًا بما سرق، دعني أخففها الآن فكان أهلًا بما اختلس، صاحب الياقة البيضاء هذا الذي قال إنه «يعز المصريين دونًا عن الناس»، بالطبع لم يكن يقصد الفلاح بل يقصد ذلك المصري القديم الذي بعثته الحملة الفرنسية- أو بعثت روما جديدة لتقدسها- على كل لا أحب أولئك الذين يقدسون هذا البعث لأنهم لا يمتلكون إلا التنكيد على أنفسهم فحسب. أحب الفلاحون شامبليون على أي حال فسموا باسمه مدرسة، وذكروه في الكتب والأفلام، وسموا باسمه شارعًا يبدأ من تقاطع شارع 26 يوليو ذكرى العربي الأسمر الذي أعلن تأميم قناة السويس، ويحاذي السور الجنوبي لدار القضاء العالي.
نظائر الأسنان المشعة
في ابتسامتها ونحن نرى دواخلنا، تبدت ثناياها كأنها أقمرت ليلًا وسط البلد، فكرت لو تعلم في ما أفكر الآن؟ ماذا ستقول؟! لتركتني من فوري ولعنت شامبليون. فكرت في أسناني الصغيرات، إنها في نموها بعد الولادة تراكم فيها عنصر السترونتيوم الموجود في التربة في كل بلد بنسبة مختلفة عن الأخرى، يدخل إلى أجسامنا مع الكالسيوم في البيض أو قشره ذلك الشيء المقرف الذي كان أهلنا يغسلونه ويطحنونه مع حبة البركة ويضيفونه إلى الزبادي، منذ صغري أحب كل أمر يقال عنه صحي آكله وأرغم نفسي عليه إلا بعضها منها هذا، لحسن حظي لم تبدُ عليّ أعراض الهزال حتى تطبق عليّ تلك البروتوكولات القبيحة، لكن أصابني بعضها لما أخبرت إحداهن والدتي عن تخفيف التهاب اللوزتين الدائم عندي بوضع الثوم على رقبتي، كانت والدتي خريجة كلية العلوم التي عملت لفترة باحثة في هيئة الطاقة الذرية أحيانًا تصدق هذه الخلطات لكن على الأغلب كانت متنمرة عليها حد انقطاع التنفس من كثرة الضحك.
لنعود إذن للسترونتيوم، يتوزع هذا العنصر في جميع القشرة الأرضية بنسب متفاوتة، وتتفاوت نسبة نظائره المشعة في التربة، ينتقل إلى الإنسان من لبن الأبقار ومن البيض ومن كثير من النباتات التي تمتصه من كل بلد فهو ضمن 21 عنصرًا ذا وفرة في القشرة الأرضية، حيث تتجاوز نسبته 360 جزءًا من المليون، إذن بعد موتي يستطيع باحث وجد سنًا لي بعد مليون عام أن يعلم أني قد عشت في اليمن في فترة النمو، وأن نسبة نظائر السترونتيوم هي ذاتها الموجودة في اليمن، مع فروقات الإقامة، ليس ضرسي فحسب بل وهيكلي العظمي. كانت مادة الكيمياء المتقدمة من أمتع المواد التي درستها، لأنها فتحت لي آفاقًا ضخمة لشاب كان لا يتفق مع التطور، ليجد نفسه كيميائيًا هو ابن الأرض بالكلية، بل إن الأرض ليست أمه بل هو ذاتها، إنه لا فرق كيميائيًا بين أن تمشي على ظهرها أو تستقر في بطنها، نحن كالنبت ننمو منها وبها، ننفصل كما يفصل الجنين رويدًا رويدًا، نجمع الكالسيوم في أرضي اليمن، على كربوهيدرات من فول وجد بأرض إثيوبيا، على البروملين من أناناس تايلاند، وكثير من الجلوتين من أرض السلاف، واستنشق الرصاص من عوادم القاهرة، وأمزجها بسترنشيوم من أرض الصين، فتتحكم كل ذلك في بعض من جيناتي، قد تثبط نمو الطول الجيني كما لوحظ أن استهلاك بلدة في الصين بكثرة من البسباس الحامل لعنصر الرصاص من تربتها أدى لقصر قامتهم.
سيدة الأرض
نحن الأرض لا أبناؤها، كانت حياتنا جمعًا لأشلائها وشتاتها، من تكون الأرض إذن من دوننا؟! هجراتنا صنعتها، ووجدت لها معنى، هل تعرف الأرض أن هناك شعوبًا الآن عبر التجارة وتكثيف التبادل عبر السوق العالمي الذي بدأ هوينا على مهل في شرق المتوسط بأرض فينيقيا اليوم هو وحده يجعلنا أخلاطًا منها؟! إن حياتنا هو هذا الاستثناء لتلك العناصر التي اجتمعت من شرقها لغربها، نحن الشتات والاجتماع، إن رجلًا في أواسط أريزونا قد يحمل من البوتاسيوم المستخرج من الهند بفراولة أكلها مستوردة من مصر، وإن معادن مصر تشكل مزاجه العكر في الوقت الذي يضحك الآن الفقير في مصر لأنه لم يأكل منها ولم تطرأ عليه أي تغيرات.
هوينا على الأرض لا فرق بين أجساد تهاوت في باطنها واقتربت من الوشاح مع نقر السنين، وأنفاس تتفاعل مع كيمياء الغلاف الجوي، نحن والشجر سواء من الأرض وبها، نحن والأرض سواء بين النوم والصحو الأخير، فهوينا على بعضنا إنما الناس بلاد ووطن، وسماء وشجر، قد يقصدها الغزاة، وقد يدفعونهم عنها بالحديد والنار.
إننا خريطة الأرض وطبوغرافية سهولها ومرتفعاتها، عندما ترى إنسانًا فاعلم أن فيه من أرضه الكثير، بعض منها أو كلها، هكذا كانت هي فلسطين أمامي أثقلت الوادي الذي رأى فيها التقاء بغير وساطة- أي سيناء-. لذا كنت أنتظر هدية بعينها بين الحمل الثقيل التي كانت تحمله بخفة لأنها فلسطين أرضها التي امتلأت بالأجساد والحيوات، كانت تلك الهدية التي طلبتها منها عندما قالت ماذا تريد من التطريز؟ قلت لها خريطتك أنت! أريدك كشريط ساحلي بين النحر والترقوة، مكتوب عليه شطر بيت محمود درويش (على هذه الأرض) وأن تشاطرني خريطة أخرى كما نحن جسدان لنفس الأرض الذي ننتمي مكتوبًا عليها الشطر الآخر (ما يستحق الحياة)، كانت هي الأرض التي تستحق الحياة. لم أتردد عندما خيرتني أني اخترت أن أكون الجسد وأن تكون هي المعنى والروح، أن أكون الثرى وكما أراها الآن الثريا بنجومها التي تفوق السبعمائة.
ها نحن الآن في سيتي كوفي على الرصيف الآخر من السور الجنوبي لدار القضاء العالي عند الإغلاق تمامًا نبدأ، نصمت بتعمد كجرس الحياة أطلقه صغيرٌ خرج لتوه من رحم فلسطين، دارت بنا الأرض كأننا جسد واحد بقلبين، من يدري كم شاركت أرض فلسطين في العناصر الكيميائية التي تشكل مضغة قلبي هذا، وكم شاركت في تشكيل ذلك القلب الذي أراه ينبض أمامي في المقهى ساعة الإغلاق.
هل تعلم أنها تُفجِّر في خلدي المعاني، إني أحب ذلك…أحب فلسطين.