فيلم «On The Rocks»: خفة ودفء قابل للنسيان
عادة عندما يعمل أحد أبناء الفنانين في نفس مجال أحد والديه إما ينزلق في تكرار نجاحهما أو يفصل نفسه عنهما بشكل كامل، تأخذ صوفيا كوبولا الخيار الأخير إلى حد التطرف، يشتهر والدها بثلاثية الأب الروحي عن المافيا والعصابات السفلية، وتشتهر هي بأفلام صغيرة ناعمة، مغطاة بدرجات الوردي والشعور المنسدلة والدانتيل، صنعت كوبولا لنفسها أسلوباً خاصاً بين مخرجي جيلها عموماً ومخرجاته خصوصاً، تتبنى بشكل كامل ما يمكن أن يطلق عليه كليشيهات أنثوية تمتلكها وتستخدمها في صالح رؤيتها المتفردة.
بعد آخر أفلامها The Beguiled المسحور الفائز بجائزة الإخراج من مهرجان كان عام 2016 والذي احتوى على كل بصماتها الإخراجية وتفضيلاتها الشخصية، تعود كوبولا في عام 2020 أحد أكثر الأعوام السينمائية هشاشة بفيلم on the rocks مع الثلج، والذي يمكن اعتباره إضافة لمسيرة من الأفلام يمكن وصفها بتيمة رئيسية وهي «سجن أن تكون فتاة» على غرار الجملة الشهيرة المذكورة في أول أفلامها العذراء تنتحر The virgin suicides، لكن افتقد الفيلم ذلك السحر الناعم الذي يجعل من فيلم ما فيلماً لصوفيا كوبولا.
خفة ليست ساحرة
يبدأ on the rocks بمشاهد تستدعي أسلوب كوبولا الشهير، مونتاج حالم سريع لحياة البطلة لورا (رشيدة جونز) منذ كانت طفلة مرتبطة بأبيها إلى يوم زفافها ثم إلى الحاضر حيث تقضي أيامها في مهمات الأمومة لطفلتين في مراحل مختلفة من الدراسة. يغيب زوج لورا دين (مارلون واينز) لأيام وأيام في رحلات عمل، وفي أثناء ذلك تجمع عدة دلائل وإيماءات تشككها في ولائه لعلاقتهما، وفي احتمالية خيانته لها نظراً لانشغاله عنها واهتمامه البالغ بعمله، الذي نعرف أنه يتعلق بالتسويق الإلكتروني.
لورا كاتبة أدبية، نعلم القليل عن نجاحاتها السابقة، لكن يبدو أن مهامها كأم ابتلعت وقت عملها وتحقيقها لذاتها، كما أنها تشعر أنها سقطت من ركب ما هو جديد ورائج وهو ما يتعامل معه زوجها بشكل يومي، تنجرف في مشاعر بانعدام الأهمية وبالتحول إلى أم مملة غير مثيرة للاهتمام.
يتزامن مع تضاعف شكوك لورا ظهور أبيها لتقضية الوقت معها، فيلكس (بيل موري) رجل كبير السن طويل وسيم وجذاب لا يرى امرأة إلا ويحاول أن يلفت نظرها بمعلوماته الغرائبية واهتماماته الفنية وسحره الشخصي، تربط لورا بأبيها علاقة جيدة لكن يوجد غيمة ما معلقة بينهما، متعلقة بفقدان ثقة لورا بالرجال في حياتها بسبب تاريخ أبيها وشخصيته اللعوبة وخياناته لأمها، تدور تلك الديناميكيات العائلية والنقاشات حول طبيعة العلاقات الزوجية والأبوية في إطار خفيف وكوميدي، بل في قالب أشبه بأفلام الأعياد التي تنتهي نهاية سعيدة حتمية، تدرأ الشكوك وتثبت حقيقة الحب وتؤلف بين القلوب المتباعدة.
أثناء مشاهدة الفيلم يسهل تصور أن أي مخرج في العالم هو صانعه، نادرة هي اللحظات التي يظهر فيها أسلوب إخراجي واضح، كما أن ظروف صدوره وكونه فيلماً خفيفاً غير متصل بالواقع الحالي تجري أحداثه في حفلات مزدحمة ونيويورك ما قبل الأوبئة تجعله مشاهدة عابرة غير مؤثرة، يبقى منه شعور بالخفة التي تصاحب أفلام الكريسماس وعيد الحب لكنه غير مقدر له أن يصمد في اختبار الزمن، على الرغم من وضوح محاولة كتابة شخصيات أيقونية يبدو أنها ليست كذلك في النهاية بل هي أشباح لشخصيات سابقة.
شخصيات محببة بشكل مؤقت
ترسم كوبولا شخصياتها بكثير من الدقة والتعاطف، تهتم بتفاصيلها الصغيرة، وبمساعدة مصممة الأزياء ستايسي باتات تخرج تلك الشخصيات للحياة، لورا تشعر أنها دخيلة على عوالم الرجال من حولها، عوالم تتعلق بالشهرة والفن والحياة الرغيدة الجامحة، ترتدي ملابس بسيطة طيلة الوقت لكنها ليست في المنطقة الآمنة بالكامل كما أنها ليست رخيصة، فما زالت تملك حسها الأسلوبي الخاص ويظهر ذلك بالتركيز المستمر على خياراتها في المجوهرات خاصة الأقراط الذهبية المتعددة التي تزين أذنيها.
تظهر لورا أغلب الوقت بسراويل واسعة وقمصان مخططة أو جاكتات رجالية عملية، لكنها لا تنزلق أبداً في الصورة النمطية عن الأم المهملة التي تستحق خيانة زوجها لها مع الفتيات الأكثر أنوثة، لورا سيدة جميلة ومنمقة لكنها تعلم أنها ليست فارهة المظهر، يدخل ذلك ضمن ما يقلقها حيال ولاء زوجها وحيال تطور شخصيتها وتقدمها في العمر.
وفي المقابل ترسم شخصية فيلكس بخفة محببة تعتبر امتداداً لشخصيته في مفقود في الترجمة Lost in translation، لكن خفة الشخصية لا تنبع من طبيعة فيلكس بل هي خفة تجعله قابلاً للنسيان، شخصية موري في مفقود في الترجمة أضحت من كلاسيكيات الألفية، نتيجة لكتابة كوبولا الذكية وأداء موري الدافئ القابل للتصديق، في مع الثلج لم تختفِ تلك العناصر لكنها أصبحت نسخة باهتة من شيء مضى، على الرغم من إمكانية اعتبار ذلك جزءاً من قصدية السرد في الفيلم، فشخصية فيلكس لا تملك منحنى درامياً للتغير، يبدأ الفيلم وينتهي وهو متوقف عند المرحلة ذاتها، لا يتعلم دروساً معينة أو يتصرف بشكل أنضج تجاه علاقته بابنته أو علاقاته بالنساء بالتبعية.
هو شبيه بشخصية نمطية سينمائية يطلق عليها الرجل الطفل man child، ويتسم بميله لعدم تحمل المسئولية وأخذ مشكلات الحياة بخفة رغم ثقلها بالنسبة للآخرين، كما أنه لا يتعلم دروساً حياتية مهمة بل إن أسلوبه في مواجهة العالم هو ما يجعل منه شخصاً جذاباً رغم كونه مزعجاً، في أحد المشاهد التي يتهرب فيها فيلكس من مخالفة مرورية باستخدام معارفه وسحره الشخصي تعلق لورا: «من الرائع أن تكون أنت أليس كذلك»، فيرد هو: «لن أقبل بأي شيء آخر».
جماليات التنوع العرقي
تكتب كوبولا عما تعرفه، عن حياتها وطبقتها وتجربتها كامرأة، لذلك تواجه كثيراً من النقد لحصرها قصصها في النساء البيضاوات، حتى أنها في فيلمها السابق استبدلت شخصية لسيدة سمراء بأخرى شقراء. ربما يكون ذلك سبب اختيارها لرشيدة جونز ومارلون واينز في أدوار البطولة هذه المرة، لا تمثل تلك الخيارات أي ثورية أو اختلاف، بل يثقلها شعور بالوعي الذاتي بملء الأدوار بشخصيات متعددة الأعراق لأول مرة في تاريخها، وهي التي تفضل السيدات الشقراوات الفاتنات في أدوارها الرئيسية، بل إنه من الممكن الإشارة لتلك الخيارات كاتجاه جمالي يتعلق بالشكل وليس بالسياقات السياسية والاجتماعية، فأفلام كوبولا تتميز بأجواء لونية وأسلوبية محددة، درجات من الوردي والأزرق ومسحة من الأبيض تغطي كل شيء، يستدعي ذلك شعور بالخفة في أفلامها كما يؤطر العوالم الأنثوية المغلقة التي تتميز بتقديمها.
تختار كوبولا في مع الثلج بطلة مختلطة العرق وبطلاً أمريكياً من أصل أفريقي وأطفالاً جميلي المظهر تختلط ملامحهما بين والدتهما ووالدهما بشعور مجعدة وعيون ملونة، ومع تلك الخيارات تبدلت الأجواء اللونية من الألوان الباردة المغسولة بدرجات الأبيض إلى درجات الأزرق الليلية والإضاءات الصناعية الدافئة من الأصفر والأحمر، لا يوجد أسلوبية واضحة في الصورة أو في السرد مثل أفلامها السابقة، بل تستخدم كل العناصر الفنية بشكل عملي، حياة لورا النهارية مضاءة بالشمس بوضوح وحياتها الليلة ومغامراتها مع والدها يغلب عليها إما الأزرق الليلي أو ظلال المطاعم الفارهة الدافئة التي يرتاداها طيلة الوقت.
لكن تلجأ كوبولا للنوستالجيا الذاتية كوسيلة للإبقاء على أسلوبها بتكرار مشهد الاستيقاظ في الشفق من فيلمها الأول العذراء تنتحر، مشهد يلخص الشعور بالتيه والفقد والخذلان، لكنه في الفيلم الأخير يستخدم كمرحلة انتقالية بين الضياع في الوهم وبيان الحقائق واسترداد الحياة من جديد فيخدم تأثيراً عكسياً بسبب اختلاف طبيعة الفيلمين وبطلتيهما، لكنه مع ذلك يظل المشهد الوحيد العالق في الذاكرة بسبب الحنين لأعمال كوبولا السابقة وأيقونية المشهد الأصلي.
فيلم on the rocks ليس دخيلا على مسيرة كوبولا من الأفلام النسوية الحالمة، لكنه لا يملك ذلك الغموض المحبب أو تعدد طبقات المعنى الذي يميز كل أفلامها مهما بدت بسيطة على السطح، يسهل الارتباط بشخصياته أثناء المشاهدة لكن سرعان ما يتلاشى تأثيرهم بعدها، وفي النهاية يبدو كأنه فيلم يستعير بصمات كوبولا المميزة لكنه لا ينتمي لها بالكامل في الشكل أو المضمون.