في الطريق إلى الثورة: جابرييل ماركيز في حضرة هوجو شافيز
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
تقف فنزويلا اليوم على المحك، فنظامها الاشتراكي الذي أسسه رئيسها الراحل هوجو شافيز يواجه اليوم اتهامات حادة بأنه كان على مدى سنوات يخفي وراء قناع روبن هود وجهًا فاشيًا، أدى بمزيج من الاستبداد والفساد إلى واحدة من أعنف الأزمات الاقتصادية والمعيشية، ليس في تاريخ فنزويلا، بل ربما في القرن العشرين.
لا يتيح الإعلام العالمي رواية أخرى، لذا قد يكون مفيدًا العودة إلى رواية – ليست مضادة بالضرورة – قدّمها الروائي اللاتيني جابرييل جارسيا ماركيز بحسه النقدي في مقالته التي سجّل فيها مقابلته مع الرئيس هوجو شافيز عام 1999، وهي المقالة التي نضعها بين أيديكم هنا.
نزل الرئيس الفنزويلي كارلوس أندريس بيريز من الطائرة التي جلبته من دافوس في سويسرا عند الغروب، وفوجئ برؤية وزير الدفاع، الجنرال فرناندو أوتشوا أنتيش، في انتظاره على مدرج المطار. «ماذا يحدث؟» سأله بيريز، بفضول واهتمام.
طمأنه أنتيش بشأن الوضع حتى أنَّ الرئيس لم يذهب إلى قصر ميرافلوريس – مقر الحكومة – ولكن إلى لا كاسونا، مقر الرئاسة. وخلدَ إلى النوم حتى أيقظه هاتف وزير الدفاع لإبلاغه عن انتفاضة عسكرية في ماراكاي – مدينة على بُعد ساعة ونصف بالسيارة خارج كراكاس. وكان بيريز قد وصل لتوه إلى ميرافلوريس عندما بدأت القذائف المدفعية الأولى في الانفجار.
كان ذلك يوم الثلاثاء 4 فبراير/شباط 1992م. قام الكولونيل هوجو شافيز فرياس، وهو الرجل الذي صنع مكانة مقدسة لنفسه من الأحداث التاريخية، بتوجيه الهجوم من مقر المتحف التاريخي العسكري في لا بلانيسي. أدرك الرئيس أن ملاذه الوحيد هو الدعم الشعبي، لذلك ذهب إلى محطات التلفاز المحلي الفنزويلي للتحدث إلى الشعب. وبعد اثنتي عشرة ساعة، فشل الانقلاب العسكري. استسلم شافيز، بشرط أن يُسمح له أيضًا بمخاطبة الشعب عبر شاشة التلفاز.
تحمَّل الكولونيل الشاب الكريوليّ، مع بيريه المظليِّ وطريقته المميزة في الكلام، مسئولية الحركة. وكان خطابه انتصارًا سياسيًا. وقضى عامين في السجن قبل أن يعفو عنه الرئيس رافائيل كالديرا. ويعتقد كثير من مؤيديه وقلة قليلة من أعدائه أنَّ براءة شافيز كانت أول خطاب للحملة الانتخابية التي دفعته إلى رئاسة الجمهورية بعد أقل من تسع سنوات.
لقد أخبرني الرئيس هوجو شافيز فرياس هذه القصة في طائرة القوات الجوية الفنزويلية التي أخذتنا من هافانا إلى كراكاس قبل أسبوعين، قبل أقل من 15 يومًا من شغل مقعده كرئيس دستوري لفنزويلا، منتخب بالاقتراع الشعبي.
لقد قدِمنا قبل ثلاثة أيام في هافانا، خلال اجتماعه مع الرئيسين كاسترو وباسترانا – رئيس كولومبيا – وأول ما لفت نظري هو قوة جسده الذي يشبه الخرسانة المسلَّحة. كانت لديه تلك الحماسة الآنيِّة وفضيلة الفنزويلي النقيّ. حاولنا أن نرى بعضنا البعض مرة أخرى، ولكن لم يكن هذا ممكنًا، لذلك سافرنا إلى كراكاس معًا حتى نتمكن من الحديث عن حياته ومعجزاته على متن الطائرة.
كانت تجربة جيِّدة لمراسل هادئ. وبينما يخبرني عن حياته، بدأت اكتشاف شخصية لا تتوافق على الإطلاق مع صورة الطاغية التي رسمناها من خلال وسائل الإعلام. لقد كان شافيز آخر. تُرى أي الشخصيتين كانت حقيقية؟
لقد كانت الحُجة القوية ضده خلال الحملة هي ماضيه القريب كمتآمر ومخطط للانقلابات. ولكنَّ تاريخ فنزويلا استوعب الكثير من هذه الشخصيات على مرّ السنين. بدأ ذلك مع رومولو بيتانكورت الذي اشتهر على نحو صحيح أو خاطئ بأنه أبو الديمقراطية الفنزويلية، الذي أسقط إساياس ميدينا أنجاريتا، وهو ديموقراطي عسكري شاب كان قد حاول تطهير بلاده من حكم خوان فيسنتي جوميز الذي استمر 36 عامًا.
وخلَّفَ وراءه الروائي رومولو جاليجوس الذي أسقط الجنرال ماركوس بيريز خيمينيز الذي ظلَّ في السلطة في كراكاس لما يقرب من 11 عامًا. وقد أطاح به جيلٌ كامل من الشباب الديمقراطيين الذين أعلنوا عن بدء أطول فترة من بين الرؤساء المنتخبين حتى الآن.
كيف تنجح في الحياة؟
يبدو أنَّ انقلاب فبراير/شباط هو الشيء الوحيد الذي سار على نحو خاطئ بالنسبة للكولونيل هوجو شافيز فرياس. ومع ذلك، فإنه ينظر إليه إيجابيًا باعتباره نكسة حدثت في الوقت المناسب.
إنها طريقته الخاصة لفهم الحظ الجيد، والذكاء، والحدس، والدهاء، أو أي شيء قد يكون بمثابة النسيم السحري الذي حكَمَ أفعاله منذ أن جاء إلى العالم في سابانيتا، في ولاية باريناس في 28 يوليو/تموز 1954، تحت علامة القوة: ليو شافيز، كاثوليكي مخلص، يعزي مصائره إلى وشاح تعبديّ يبلغ من العمر 100 عام، حَملهُ منذ أن كان طفلًا، ورثهُ عن جده لأمه، الكولونيل بيدرو بيريز ديلجادو، أحد أبطاله الملهمين.
كان أبواه يعيشان على الكفاف برواتب معلمي المدارس الابتدائية، ومنذ سن التاسعة كان عليه أن يساعدهما عن طريق بيع الحلويات والفواكه في عربة صغيرة. في بعض الأحيان كان يذهب راكبًا على الحمار لزيارة جدته لأمه في لوس راستروجوس، وهي بلدة مجاورة تبدو وكأنها مدينة بالنسبة لهم؛ لأنه كان بها محطة كهربائية صغيرة توفر ساعتين من الضوء في الليل وتعيش فيها أيضًا المولِّدة التي رحَّبت بشافيز وإخوته الأربعة في هذا العالم.
أرادت أمه أن يكون كاهنًا، لكن أقصى ما استطاع الوصول إليه هو أن يصبح خادم مذبح اعتاد على دق الأجراس برنين اشتهر به ويعرفه الجميع. «هذا هوجو يدق أجراس الكنيسة»، هكذا كان يقول سكان المدينة. ومن بين كتب والدته وجدَ شافيز موسوعة، أغواه الفصل الأول فيها الذي كان بعنوان: «كيف تنجح في الحياة؟»
تضمن الفصل قائمة من الخيارات، جرَّب شافيز جميعها تقريبًا. كرسام كان منبهرًا بأعمال مايكل أنجلو وحصل على الجائزة الأولى في معرض إقليمي في سن الثانية عشرة. وكموسيقيّ جعل نفسه شخصًا لا غنى عنه في أعياد الميلاد والسيرينادات serenades بسبب تمكّنه من العزف على جيتار كواترو وصوته الغنائي الجذاب. وكلاعب بيسبول أصبح ماسك كرات بارع.
ولم يكن الخيار العسكري مدرجًا في القائمة، كما أنه لم يحدث له، حتى قيل له إن أفضل طريقة للدخول في البطولات الكبرى هي دخول الأكاديمية العسكرية في باريناس. لقد كانت معجزة أخرى له؛ لأنه في ذلك اليوم بدأ برنامج أندريس بيلو Andrés Bello الذي يسمح لخريجي المدارس العسكرية بالترقي إلى أعلى المستويات الأكاديمية.
درس العلوم السياسية والتاريخ والماركسية اللينينية. وأحبَ دراسة حياة وأعمال بوليفار التي حفظ منشوراتها عن ظهر قلب. لكنَّ صراعه الواعي الأول مع السياسة الحقيقية جاء مع وفاة الرئيس التشيلي السابق سلفادور أليندي. في سبتمبر/أيلول 1973م انتحر أليندي، وهو أول رئيس ماركسي منتخب ديمقراطيًا في أمريكا الجنوبية، عندما انقلب الجيش ضده.
لم يفهم شافيز لماذا خطط الجيش التشيلي للانقلاب ضد أليندي، إذا كان الشعب التشيلي هو مَن انتخبه؟وبعد ذلك بوقت قصير، كلَّفه قائد سريته العسكرية بمهمة مراقبة أحد أبناء خوسيه فيسينتي رانجيل، الذي كان يُعتقد أنه شيوعيّ.
«إنَّ المرء لا يحصد إلَّا ما زرع»، هكذا أخبرني شافيز وهو ينفجر من الضحك. «الآن والده هو رئيسي». لكن لا يزال الأمر الأكثر إثارة للسخرية هو أنه عندما تخرَّج شافيز تسلَّم سيفه من الرئيس الذي سيحاول إسقاطه بعد 20 عامًا: كارلوس أندريس بيريز.
منذ اللحظة الأولى أدركتُ أنه كان حكيًا طبيعيًا. لقد كان نتاج الثقافة الشعبية الفنزويلية التي تمتاز بأنها ثقافة خلاقة وبهيجة. كان لديه إحساس كبير بالوقت وذاكرة خارقة، مما يسمح له أن يقرأ قصائد نيرودا ووايتمان، وصفحات كاملة من أعمال رومولو جاليجوس، روائي وأحد الرؤساء السابقين لفنزويلا.
في سن مبكرة اكتشف بالصدفة أنَّ جده الأكبر لم يكن قاتلًا خرافيًا، كما قالت والدته، ولكنه كان محاربًا أسطوريًا في عصر خوان فيسنتي جوميز، قائد الجيش الفنزويلي من عام 1908 إلى عام 1935.
كانت حماسة شافيز هي التي دفعته إلى أن يقرر كتابة كتاب لتطهير ذاكرة الإنسان. وفي سبيل ذلك، بحث في المحفوظات والمكتبات العسكرية، وذهب من بلدة إلى بلدة مرتديًا حقيبة المؤرخ لإعادة إحياء رحلات جده الأكبر من خلال شهادة أولئك الذين نجوا منه. في هذه الفترة تقريبًا أضاف شافيز جده إلى هيكل أبطاله، وبدأ يرتدي الوشاح الواقي الذي كان يرتديه جده فيما مضى.
في يوم من الأيام عبرَ الحدود بطريق الخطأ على جسر أروكا، ووجد القائد الكولومبي الذي فتَّش حقيبته أدلة على اتهامه بأنه جاسوس: كان لديه كاميرا، ومُسجّل، وأوراق سرية، وصور للمنطقة، وخريطة عسكرية مغطاة برسومات ومسدسين من مسدسات الجيش. وثائق هويته، كما هو متوقع من أي جاسوس، يمكن أن تكون مزيفة. استمرت المناقشة لعدة ساعات في مكتب حيث كانت الصورة الوحيدة فيه هي صورة بوليفار على ظهر حصان.
تأثر القائد بكلماته، وبدأ يتحمس لفكرة كولومبيا الكبرى، وانتهى بهما الحال وهما يحتسيان البيرة في إحدى بارات أراوكا. وفي صباح اليوم التالي، وبعد أن أصابهما الصداع، أعطى القائد أدوات المؤرخ لشافيز وأرسله في طريقه مع عناق في منتصف الجسر الدولي.
قال شافيز: «في هذا الوقت أدركتُ أنَّ هناك شيئًا خطأ في فنزويلا». كان قد أُرسل إلى الشرق كقائد لفرقة مكونة من 13 جنديًا وفريق اتصالات لتصفية معاقل العصابات المتبقية. وفي ليلة ممطرة، طلب منه كولونيل من الاستخبارات الحصول على مأوى. وكان الكولونيل يقود مجموعة من الجنود وبعض المشتبه بهم من الميليشيات الذين أسرهم، وكانت وجوههم مخضرة وأجسادهم هزيلة.
وفي حوالي الساعة العاشرة مساءً، عندما كان شافيز نائمًا، سمعَ صراخًا شديدًا من الغرفة المجاورة. يحكي شافيز أنَّ «الجنود كانوا يضربون سجناءهم بمضارب البيسبول الملفوفة بقطع من القماش حتى لا تترك أي علامات على أجسادهم».
اعترت شافيز حالة من الغضب وطلب من الكولونيل تسليم السجناء أو المغادرة؛ لأنّه لا يمكن أن يقبل أن يتعرض أي شخص للتعذيب تحت قيادته. ويتابع شافيز: «في اليوم التالي تعرضتُ للتهديد بمحاكمة عسكرية للعصيان»، لكنهم أبقوني تحت المراقبة لفترة من الوقت.
بعد بضعة أيام كانت لديه خبرة تجاوزت الآخرين. كان يشتري اللحوم لقواته عندما هبطت مروحية عسكرية في ساحة الثكنات بشحنة من الجنود الذين أُصيبوا بجروح خطيرة في كمين للعصابات المتمردة. حمل شافيز أحد الجنود بين ذراعيه، كانت لديه عدة إصابات في جسده. قال له الجندي في رعب شديد: «لا تدعني أموت، أيها الملازم». كل ما استطاع شافيز فعله هو وضعه داخل سيارة. مات سبعة آخرون.
في تلك الليلة، سأل شافيز نفسه وهو مستلقٍ على الأرجوحة بعد أن غاب عنه النوم:
«هناك، وقعتُ في أول صراع وجوديّ»، هكذا ختم شافيز كلامه في الطائرة المتجهة إلى كراكاس.
في اليوم التالي استيقظ مقتنعًا بأنَّ مصيره كان تأسيس حركة. وفي سن الثالثة والعشرين، أسس شافيز الحركة باسم الجيش البوليفاري الشعبي الفنزويلي. الأعضاء المؤسسون: خمسة جنود إلى جانب شافيز، مع رتبة الملازم الثاني.
قائد هذا الزمان
كان هذا هو الوضع في 17 ديسمبر/كانون الأول 1982م عندما وقع حدث غير متوقع رأى شافيز أنّه كان حاسمًا في حياته. كان قائدًا بالفعل في الفوج الثاني من المظليين، ومساعد ضابط مخابرات. وفي الوقت الذي لم يتوقع حدوث ذلك، كلّفه قائد الفرقة، أنجل مانريك، بإلقاء كلمة أمام 1200 رجل من جميع الرتب.
عند الساعة الواحدة بعد الظهر، اجتمعت الكتيبة على ملعب لكرة القدم، وقدَّم رئيس المراسم شافيز. «وماذا عن الخطاب؟» سأله قائد الكتيبة، حينما رآه يصعد إلى المنصة دون أي ورقة في يده، فأجابه شافيز «ليس لدي خطاب مكتوب». وبدأ في الارتجال.
كان الخطاب قصيرًا إلى حد ما، مستوحى من بوليفار والشاعر الكوبي مارتي، ولكن مع مقاربة شخصية لحالة الضغط والظلم في أمريكا اللاتينية بعد 200 سنة من الاستقلال. وقد استمع إليه الضباط والمؤيدون وغير المؤيدين على حد سواء. وكان من بينهم القائد فيليبي أكوستا كارل والقائد جيسوس أوردانيتا هرنانديز، اللذان كانا متعاطفين مع حركته. بعد الخطاب استقبل قائد الحامية شافيز – وهو في حالة استياء شديد – بوابل من التوبيخ سمعه الجميع.
في نهاية الحدث، ذهب شافيز للمشي مع القائدين فيليبي أكوستا وجيسوس أوردانيتا إلى سامان ديل جيري [شجرة قديمة تعود إلى قرون، تُعدُّ كنزًا وطنيًا]، على بُعد حوالي عشرة كيلومترات، حيث كرروا القَسَم الرسمي لسيمون بوليفار في مونتي أفنتينو في روما. وقال شافيز: «في النهاية قمتُ بتغيير القَسَم». بدلًا من: «عندما كسرنا السلاسل التي تقمعنا بإرادة السلطة الإسبانية»، قالوا: «حتى نكسر السلاسل التي تقمعنا وتقمع الشعب بإرادة الأقوياء».
ومنذ ذلك الحين، كان على جميع الضباط الذين انضموا إلى الحركة السرية أن يقْسموا اليمين، وكانت آخر مرة خلال الحملة الانتخابية أمام مائة ألف شخص. وطيلة سنوات عدة عُقدت اجتماعات سرية بأعداد متزايدة، من بينهم ممثلون عسكريون من جميع أنحاء البلاد. قال شافيز: «عُقدت الاجتماعات على مدى يومين في أماكن سرية حيث كنَّا ندرس الوضع في البلاد ونجري تحليلات واتصالات مع المجموعات المدنية والأصدقاء».
وقال لي شافيز: «في غضون عشر سنوات، أجرينا خمسة اجتماعات دون اكتشاف أمرنا».
في هذه المرحلة من المحادثة، ضحك الرئيس ضحكة ماكرة، وكشف عن شيء بابتسامة خبيثة:
وأشار بإصبعه إلى رجل يجلس وحيدًا على كرسي قريب وقال:«لقد كان الكولونيل بادول!»
«أوقفوا هذه المهزلة، مهما كانت!»
تماشيًا مع الفكرة التي يتبناها القائد شافيز في حياته، كان الحدث الذروة هو إل كاراكازو، الانتفاضة الشعبية التي دمَّرت كاراكاس. أخبرني شافيز: «لقد قال نابليون إن أي معركةً تُحسم في لحظة من الإلهام الاستراتيجي». ومن هذا المنطلق، وضع شافيز ثلاثة مفاهيم: الأول، الساعة التاريخية. والثاني، الدقيقة الاستراتيجية. والأخير، الثانية التكتيكية.
وقال شافيز: «نحن قلقون لأننا لا نريد مغادرة الجيش. لقد شكَّلنا حركة، ولكن لم يكن الهدف من تأسيسها واضحًا». ومع ذلك، فإنَّ الدراما الحقيقية هي أنَّ ما كان سيحدث حدث فعلًا ولم يكونوا على استعداد. وبعبارة أخرى، اختتم شافيز: «فوجئنا بالدقيقة الاستراتيجية».
كان يشير، بطبيعة الحال، إلى الانتفاضة الشعبية في 27 فبراير 1989: انتفاضة إل كاراكازو. لم يُفاجأ أحد بهذا الحدث أكثر من شافيز نفسه. كان كارلوس أندريس بيريز قد تولى مؤخرًا رئاسة البلاد بعد فوز ساحق، وكان من غير المعقول أن يحدث شيء خطير بعد 20 يومًا فقط.
«لذلك، سأتوجه إلى الكلية للعمل من أجل الحصول على درجة الدراسات العليا في ليلة 27، وسأذهب إلى تيونا فورت بحثًا عن صديق يمكن أن يُقرضني بعض البنزين للعودة إلى المنزل»، هكذا أخبرني شافيز قبل بضع دقائق فقط من الهبوط في كراكاس. «ثم رأيت أنَّ القوات تمَّ استدعاؤها، وسألتُ الكولونيل، أين يذهب كل هؤلاء الجنود؟ لماذا استدعوا فريق الإمدادات ونقل الجنود الذي لم يتم تدريبه على القتال، ناهيك عن قتال الشوارع؟».
«كان هؤلاء المجندون خائفين من بنادقهم الخاصة. لذلك سألتُ الكولونيل: أين يذهب هذا الحشد من الجنود؟ فأجابني الكولونيل: إلى الشارع. وكان الأمر الذي صدر هو الخروج ووقف هذه المهزلة، مهما كانت، لذلك ها نحن هنا».
«يا إلهي، أي أمر هذا؟» حسنًا، يرد الكولونيل شافيز، «الأمر بوقف هذه المهزلة، مهما كانت»، فقلتُ له: «ولكن أيها الكولونيل، يمكنك أن تتخيَّل ما سيحدث». فقال «حسنًا، إنه أمر عسكري، وليس هناك ما يتعيَّن القيام به حيال ذلك. لقد بات الأمر في يد الله الآن».
يقول شافيز إنّه كان يعاني من حُمَّى في ذلك الوقت بسبب الحصبة، وعندما أدار سيارته رأى جنديًا يجري ولا يرتدي خوذته، وبندقيته تتدلى منه وذخائره متناثرة. يحكي شافيز: «أوقفته وناديت عليه». جاء إليَّ وهو متوتر يتصبب عرقًا. لقد كان صبيًا صغيرًا في الثامنة عشرة. سألته «أين أنت ذاهب، ولماذا تجري بهذه الطريقة؟» قال لي: «لا، الحقيقة أن فرقتي تركتني – وها هو قائدي في الشاحنة! أخرجني من هنا، يا سيدي، أخرجني من هنا».
وصلت إلى الشاحنة وسألت الرجل المسئول: «أين أنت ذاهب؟» قال «لا أعرف شيئًا. لا أحد يعرف شيئًا، تخيَّل فحسب!»، أخذ شافيز نفسًا عميقًا وصرخ، وشعر بالضيق في تلك الليلة الشاقة.
هبطت الطائرة في كراكاس في الساعة الثالثة صباحًا. وعبر النافذة رأيتُ مستنقع أضواء هذه المدينة التي لا تُنسى، حيث عشتُ لمدة ثلاث سنوات كانت مصيرية في تاريخ فنزويلا وفي حياتي الخاصة. قال لي الرئيس وداعًا مع عناق كاريبيّ ودعوة ضمنية: «سنرى بعضنا هنا في الثاني من فبراير». وعندما مشى بين مرافقيه العسكريين والأصدقاء الأصليين والمتآمرين المشاركين، أذهلني أنني قد سافرتُ وتحدثتُ بلباقة مع رجلين متناقضين؛ أحدهما حالفه الحظ لإنقاذ بلده، والآخر، مخادع، يمكن أن يذكره التاريخ كطاغية.