محمد عثمانلي يكتب: في فلسفة الجرائم الروسية
انهارت الإمبراطورية الرومانية، وانهارت معها أحلام السيطرة على منطقة الشرق الأوسط والمياه المحيطة به، ثم كان أحفاد هذه الإمبراطورية العظيمة ألا وهم المسيحيون الجدد، الأوروبيون. وهذا الانهيار الكبير شكّل غائلة على المسيطر الجديد على هذه المنطقة فيما بعد؛ ألا وهو المارد الإسلامي، صاحب عقيدةٍ من العيار الثقيل، فكيف يسيطر على هذه المنطقة بسهولة ويمحو آثار أجدادهم؟.
نشأت بسبب ذلك الصراعات الصليبية-الإسلامية، ثم مع انهيار إمبراطوريات الملك العضوض بهذه المنطقة تكوّن الصراع والتنافس الشرقي-الغربي عليها.
لقد سبقت دول أوروبا روسيا في اتخاذ المسيحية لها دينًا، كما أنها الوريث الشرعي للإمبراطورية الرومانية في السيطرة على الشرق الأوسط، موارد، وبحارًا، وباللغة الحديثة، السيطرة على اقتصاد هذه الدول وجغرافيتها، وبناء لوبيات مالية وسياسية تربط بها الشرق الأوسط عضويًا بالإمبراطورية الأوروبية، بقيادة وليد أوروبا الجديد أميركا.
إذن يمكننا القول بأن الإمبراطورية الأوروبية سبقت الروس في إنشاء ممالكها، وعقد نكاح هذا المُلك على المسيحية ليكتمل العقد الذي سيعيد جدتهم الأولى الرومانية، وكذلك السبق العظيم للسيطرة على موارد الشرق الأوسط، وبالمقابل تخلف الروس عن هذا الركب لبعدهم الجغرافي، ولعدم أسبقيتهم في تأسيس ما قد أنشأته أوروبا.
مملكة لا تغيب عنها الشمس
يروي لنا الرحّالة أحمد ابن فضلان في رحلته الشهيرة، الحال العجيبة التي كان عليها الروس في بداية القرن العاشر، إذ يقول: «كانوا لا يستنجون من غائط ولا بول ولا يغتسلون من جنابة»، ويضيف: «ينكح الواحد جاريته، ورفيقه ينظر إليه»، و«يتشاركون بغسل وجوههم بأقذر ماء، فيه المخاط والبصاق».
ويروي كذلك شدّة نهمهم لشرب المسكرات فيقول: «وهم مستهترون بالنبيذ، يشربونه ليلاً ونهارًا، وربما مات الواحد منهم والقدح في يده!»، وغير ذلك من قصص الخرافات التي يعيشونها، والتخلف الطبي الذي يعانون منه، والسبي الذي كان يحصل لهم من القبائل المجاورة لهم، وبلغة أخرى هو يريد القول إنهم كانوا يعيشون بجهالة قريش الأولى.
هذا الأمر جعل الروس يستجمعون قواهم، وجعلهم كذلك يتبنون عقيدة جديدة، على غير عقائد العالم القديم الوثنية؛ إنها عقائد العالم الجديد التي أحيت كثيرًا من البلدان، ونصب ذلك أعينهم على تكوين مملكة لا تغيب عنها الشمس، وإمبراطورية لا تفنى، وتخرجهم من ظلمات التخلف إلى نور الحكم والسيطرة، فأصبحوا بعدها على ثلاث ممالك لهم؛ أولها الإمبراطورية القيصرية[1721-1917]، وثانيها الاتحاد السوفييتي[1917-1991]، وثالثها الاتحاد الروسي الفيدرالي، فكان الثلاثي فلاديمير، هو الاسم الملهم لهذه الممالك، فلاديمير الأول (ت1015) صاحب المسيحية الأولى، ومؤسس دولته «دولة الرب» بطرس العظيم (ت1725) في الربع الأول من القرن الثامن عشر، وفلاديمير لينين (ت1924) صاحب العقيدة الشيوعية، وفلاديمير بوتين الحالم المجدد لتلك الأمجاد.
التنافس المرير
وهذا كان بداية تنافس الروس مع أحفاد الرومان على الشرق الأوسط، ولكن البعد الجغرافي، والخبرة الماكرة في الشرق الأوسط لدى الأوروبيين، والهيمنة الكونية الأوروبية على المسلمين، جعل هذه المنافسة صعبة بعض الشيء؛ مما شكّل غائلة مضادة للروس على الغرب، وكوّن لهم بؤر تنافس كان لها الأثر الأسوأ على الطرف الثالث في الصراع، وهم القاطنون على خط النار الحامي، الذين هم بطبيعة الحال، المسلمون الذين يعيشون على حدود الدولة العثمانية؛ الشركس، البوسنويون، السوريون. نعم نعرف أن السوريين هم ليسوا على خط نار حدودي، ولكننا سنشرع في بيان مزيّة أهل سوريا المباركين؛ فكان لهذا التنافس (الروسي-الروماني الحديث) (وارسو_الناتو) لوازم لا تحمد عقباها.
كان للقياصرة الفتك الأكبر بالشراكسة والقفقاسيين عمومًا، وللسوفييت الحصة الأكبر من مسلمي الأفغان والترك، ولروسيا الثالثة الأخرى مصائب البوسنة والهرسك والسوريين. نعم، فالروس أرادوا بيان عضلاتهم، وفرد قوتهم، وبسط قدر أكبر من السيطرة يمتد للشرق الأوسط، فكانت عدة سياسات لهم قد اتبعوها في سبيل ذلك.
ولأنهم يريدون الصعود لمجاراة الأمم الأوروبية، لم تكن أعمالهم على مستوى ضئيل. فإن المراقب للتاريخ الروسي منذ أزله، يعرف أنّ الجرائم التي يرتكبها الروس لا تكون على مستوى منطقة، أو قرية بسيطة، إنما تكون على مستوى دول، وأمم. إنها مجازر عالمية بامتياز، إنها جرائم تطبع في نواصي الشيوخ، وتظهر على أطراف الثكالى، إنها مذابح يشيب لها الولدان، وإن الطمع الروسي في إظهار طغيانه وجبروته بالتغذي على دماء الأمم لا ينتهي إلا إذا قوبل بقوة مثله، قوة تجابهه، وتوقفه عند حده، فأينها؟.
إنّ الدول التي شكّلها الروس دول جعلتهم يوسعون نفوذهم ضمن منطقة شاسعة الجغرافيا، متنوعة العرقيات، واسعة الثقافات. ولكن المشكلة الأكبر منذ تكون أول دولة لهم هي أن حال الدول التي انبثقت من الإسلام كانت قد بسطت قوتها على مدى طويل زمنيًا -قبلهم- على جزء كبير من مناطقها [قفقاسيا_البوسنة]؛ لذلك قد نفهم جزءًا من قصة الحقد الذي في قلب الروس على المسلمين الذين تبنّوا عقيدة جعلتهم يتعاملون معهم بقهر وتنصير جبري.
إستراتيجيات للتوسع
لقد افتعل الروس عدة إستراتيجيات في سبيل نشر قوتهم، وكل ذلك في سبيل الحصول على المصالح التي ينشدونها، والتي شكلت لها العقيدة [أرثوذوكسية-شيوعية] دافعًا. والناظر إلى البقاع [البوسنة_قفقاسيا_سوريا] التي لطالما وقفت في وجههم ضمن هذه الإستراتيجيات، يتعرف إلى أنها ثابتة على مدار التاريخ. وأما عن هذه الإستراتيجات، فهي كالتالي:
التهجير الجماعي
ومن لوازمه التغيير الديموغرافي وسياسة التجويع، ويكمن ملاحظة ذلك فيما حصل للهجرات الواسعة التي افتعلها الروس في مناطق القفقاس، إذ هجّروا مئات الآلاف من مناطقهم. طبعًا قد يسأل سائل: لمَ كانت السياسة الوحشية في التهجير الجماعي من قرى إلى قرى أخرى، ومن مدن إلى مدن أخرى؟، والجواب واضح، في أن التهجير يتلوه التخويف والإرهاب، فبينما كانت الآلة الروسية تدخل إلى قرية من قرى القفقاس، فتقتل من أهلها من تقتل، وتترك الباقي ليهاجر إلى مناطق أخرى ليروي مآسي ما حصل له، ولينشر الحرب النفسية كذلك بين المناطق، وهذا قد حصل بُعيد حرب القرم (1856)، وحتى عام 1864 عند وفاة الإمام شامل الداغستاني، فاستغل الروس وفاته باستكمال جرائمهم، وهذا بالضبط ما نراه في سوريا اليوم!.
المجازر الجماعية
وهذه تمت على أهالي القفقاس والقرم إذ يصلون مجتمعين بالملايين، وكذلك ما حصل لمسلمي البوسنة من قتل في عام 1995، إذ بحسب بيانات المحاكم الدولية وصل عددهم إلى ثمانية آلاف نفس في مذبحة سربينيتسا وهذا على أقل تقدير إذا أضفنا لها مجموع المذابح بالدعم الروسي للصرب آنذاك، وهي ذاتها الحرب التي تقودها مع إيران اليوم على الساحة السورية، ولكن بدل الميليشيات الصربية، كانت الميليشيات الإيرانية العابرة للقارات!.
محاربة العقائد الراسخة، وتصدير العقيدة الشيوعية
وهذه القيمة الأهم، والخط الأول الذي يقف في وجه التوسع الاستعماري الذي قام به الروس على مرّ تاريخهم، فنجد ذلك جليًا في طمس المعالم الإسلامية، ومنع من سَطَت عليهم القدرة الروسية من استعمال رموز دينهم ولغتهم، وهدم دور العبادة. ومن أمثلة ذلك تصدير الشيوعية إلى الشرق الأوسط، للقيام بتلك الأعمال الإرهابية، وتجلى ذلك في مصر والعراق وسوريا، فهدم أحفاد الرومان قلعتي العراق ومصر، وبقيت البقية الباقية من الشيوعية البعثية النصيرية التي تلاقحتها روسيا وإيران، كمسخ أخير للروس في الشرق الأوسط، والذي ستقاتل عنه روسيا قتال المستميت. فهل من الممكن لبوتين الحالم بتلك الأمجاد أن يضيع أمال فلاديمير الأول، أم يبدد أفكار بطرس العظيم ويفرط في حصنه الأخير في الشرق الأوسط؟!.
وأما السياسة الكاذبة لروسيا الحديثة تجاه المسلمين في مناطقهم، فهي لا تكون إلا تغييرًا في الأولويات. ولأن الصراع الروسي-الإسلامي قد انتقل إلى خارج أقطار روسيا الجغرافية، وللضعف النسبي لها مقارنة بالروس القدماء، فكانت سياسة الملاينة للمسلمين في مناطقها، وإخضاع بعض بلدان الاتحاد السوفييتي لها، وتركيزها على حصنها الأخير في الشرق الأوسط، إذ هجّرت من سوريا نصف الشعب، وأبادت وشوّهت ما يزيد عن المليونين!.
خاتمة مؤلمة
لذلك فالمعركة شديدة، ومن أجل هذا لنعد السؤال: هل نحن مستجمعون لأنفسنا كي نواجه هذا المكر العالمي، وهذه الخطط التي كانت أحلامًا يومًا ما في سهوب روسيا الأولى؟، ولهذا السبب فإن سوريا تعاني من كل تلك الإستراتيجيات آنفة الذكر، وهي كذلك على خط حدودي-جيوستراتيجي ساخن آخر للروس، وفي وضع لا يحسد عليه. فيا جيل التسعينيات، ومقتبل القرن الحادي والعشرين، أمعنوا النظر جيدًا في سوريا!، مثله قد حصل تمامًا قبل قرون في القرم والقفقاس، وقبل عقدين في البوسنة، بل أشدّ وطيسًا.