على مشارف الثلاثين: ماذا علمني العقد الأخير
(كتبتُ هذا المقال في شباط 2016 ثم عزفتُ عن نشره لفقداني الشعور بالجدوى، وكان بيني وبين بلوغ الثلاثين حينئذٍ ثمانية أشهر. أغمضتُ عيني لحظة، ولم أستيقظ إلا وأنا في الثلاثين، فشعرتُ بالجدوى!).
في حقّنا كبشر يكون الثبات في بعض الأحيان مذمومًا، ويكون التغيّر محمودًا. فالإنسان الذي لا يتغيّر؛ أي الذي يكون الآن كما هو بعد عشرة أعوام وكما هو بعد عشرين عامًا، هو شخص لا يزداد معرفة، فهو كالصندوق محكم الإقفال، والذي لا تتغير محتوياته ولا تتحرّك. بينما يُعتبر التغيير نتيجة طبيعية لتداول الأفكار والآراء والتصورات ووجهات النظر، التداول الذي يصنع «الخبرة»، والخبرة فعلٌ يصنعه التغيير لا الجمود.
أفزعُ أحيانًا عندما يتعجّب الناس من «تغيّر» فلان، وكأنّه ينبغي أن يكون صنمًا متصلّبًا في مكانه!، بل حتى الصنم يتغيّر بفعل عوامل الطبيعة. يقولون مستنكرين: «فلان تغيّر، لم يعدْ كما كان»، ولا يعلمون أنّهم بذلك يريدونه «إلهًا» لا يطرأ عليه تغيير!
كلما كان المجتمع أشدّ جزعًا من التغيير وأشدّ تمسّكا بالقوالب التي يعيش فيها، ما لم تكن دينًا يُتعبّد به، وحاشا للدين أن يكون قالبًا، كان أقرب للتخلف والعودة للوراء.
تحت هذه المقدمة يلزمني أن أشير إلى ممارسات فكرية لا يسعني إلا أن أبتسم عندما أذكر أنه قد مسني شيءٌ منها في بداية «التزامي» إنْ صح التعبير، وأبدأ بهذا التعبير؛ أعني «الالتزام»:
مفهوم «الالتزام»
كان الالتزام في حسي أشبه ما يكون بدائرة يدخل إليها المسلم بقرار. كانت في الواقع دائرة «مخترعة» أنشأتْها الظروف ولا وجود لها في دين الله، ولكنها كانت تؤثر في نفسي وتجعلني -مع الأسف- أكثر هشًا وبشًا لـ «الملتزمين» كونهم -في حسي- أكثر تمسكًا بواجبات الشرع وابتعادًا عن محرماته.
وقد صرتُ اليوم شديد النفور من وصف «ملتزم» أو حتى «متدين»؛ ذلك أنه يعزل المسلم في الواقع عن بقية الأمة في دائرة خاصة، ويجعله ينظر إلى بقية الناس باعتبارهم «غير ملتزمين»، فكان السؤال: «هل فلان ملتزم»؟ هو مما يتبادر إلى الذهن عند ذكره. وهكذا كان الالتزام رُتبة زائفة تحددها في الغالب بعض الممارسات الخارجية، وربما كان خارجها من هو أشد ورعًا وتمسكًا بأوامر الله ونواهيه، ولكنه يقع خارجها لأنه لم «يلتزم» رسوم الملتزمين وأنماط حياتهم، ولم يتميز عن أمته بممارسات هي في الواقع «أيديولوجيات» وليست دينًا!
وهْم الإجابات الجاهزة
نهمي القديم للإجابات الجاهزة والقطعية على قضايا في غاية التعقيد والتراكمية؛ كقضايا الدولة والأمة والمجتمع والإصلاح والنهضة وما شابه، وهي قضايا أكبر من أن يحيط بها فرد -بل جماعة أو تيار- أو يدرك مشكلاتها من جميع جوانبها، ومن يزعم امتلاك الإجابات الشافية القطعية فيها فهو واهم!
وظني السابق بأن النص الشرعي يحمل الإجابات الشافية الكاملة لكل مشكلاتنا كأمة مسلمة، وتحديدًا مشكلاتنا السياسية والاجتماعية، ثم أدركتُ بعد ذلك أن الدين يضع لك المسار والضوابط، ولكنه يتركك لتستخدم عقلك والإمكانات التي وهبك الله لتحل هذه المشكلات بجهدك الذاتي وبأقرب ما تجده من الفعل الصواب. وهذا أحد جوانب الابتلاء ومعنى كون الإنسان ضعيفًا؛ فالتجربة والخطأ لازمان له بطبيعته كإنسان جاهل لا يحيط بكل شيء علمًا، وهو يهتدي بدين الله ولكنه لا يحمّل النصوص فوق ما تحتمل، ولا يطلب منها أن تقدم له إجابات جاهزة عن ملابسات راهنة بشكل تفصيلي، ولا يلوي أعناق النصوص ويتغاضى عن سياقها ودلالاتها ليخترع معنى يريده في واقعه ثم ينسبه للدين!
التعجل في تقييم الأشخاص
التقييم المتعجل للشخصيات بناء على «عناوين أفكار» يحملونها؛ فمن يريد «تحكيم الشريعة» مثلاً ويتحدث بمصطلحات مثل «الدولة الإسلامية» وأهمية «الولاء والبراء» وينتقد «مشايخ السلطان» و«الدعاة المميّعين» وما شابه فهو صاحب فكر جيد. ولكني أدرك اليوم جيدًا أن شطرًا كبيرًا من أزمات الأمة الكارثية كامن تحديدًا في شخصيات وتيارات تستخدم هذه الاصطلاحات وتدور في فلكها، وليست داعش وأخواتها عنا ببعيد!
لم أكن ساذجًا جدًا كي أقوم بهذه الممارسات التي أعتبرها اليوم «كارثية» بكل ما تحمل الكلمة من معنى، لكن بعض ذلك كان يتلبسني تحديدًا في الفترة التي تلت تخرجي من المدرسة الثانوية. وأدرك جيدًا اليوم أن بعض الشباب الصغير قد مر بشيء من هذا، وما يهمني في تناولي لهذا الموضوع هو: كيف نخرج من هذه الأزمة الفكرية التي يعاني منها الكثير من شبابنا؟، هل ثمّة حل سحري؟!
كلا، لا حلول سحرية ولا إجابات جاهزة. ولكن السنين التي خرجتُ فيها من هذه القوالب الجامدة، واحدًا تلوَ الآخر، علمتني بعض القيم الأساسية، والتي وجدتها نافعة في تفادي الجمود والسطحية والاختزال عند تناول قضايا أمتنا الفكرية والسياسية. وقد لخصت هذه القيم في النقاط التالية، والتي تشكل من جهة أخرى رسالة أجد نفسي مسؤولاً عن نشرها قدر ما استطعت:
كن مستقل التفكير
برفض الأوصياء على التفكير، ورفض التبعية والإمّعية، فالمسلم ليس إمّعةً إذا أحسن الناس أحسن وإذا أساؤوا أساء، بل يكسر القيود الفكرية وينعتق من التحيزات الحزبية والانغلاق الذي يولد العُقم الفكري، ويستخدم ميزة «العقل» و«حرية الاختيار» و«الوعي» -التي كرّمه الله بها- في تناول الأفكار وبناء القناعات والمفاهيم.
انفتح للمعرفة
الانفتاح نحو قراءة كل شيء من العلوم والثقافة، دون خوف أو توجس أو قيود يفرضها المسلم على نفسه أو تُفرض عليه، بل ينطلق متسلحًا بقوة الواثق من دينه والذي يدرك أهمية المعرفة في حياة الفرد والأمة. والإدراك العميق بأن الجهل أيًا كان –الجهل بالدين أو بالواقع أو بالأفكار المخالفة– هو عدو لصاحبه، وأن المعرفة سلاح مهم في يد الساعي لنهضة الأمة، وأن الفضول والنهم المعرفي هو من أهم الأمور التي تجعل من طلب العلم والثقافة والقراءة عملية ذات فاعلية في حياة المسلم؛ فلا يمر مرور الكرام على أحداث أو أسماء أو مصطلحات أو قضايا يسمعها ولا يعرف عنها شيئًا، بل يدفعه جهله بها إلى البحث فورًا عن حقيقتها بمنهجية علمية، فتتشكل بهذه المنهجية شخصية المسلم المثقف الذي يزداد ثقافة كل يوم بل كل ساعة.
ابتعد عن التحزب
من نعم الله عليّ التي أشكره عليها كلما تذكرتها أنني لم أنتمِ في يوم من الأيام إلى جماعة أو تنظيم من الجماعات والتنظيمات الإسلامية، بل لم أنتمِ إلى تيار معين يتمثل بمجموعة أشخاص وضعوا أفكارهم في قوالب أيديولوجية وسار خلفها الآلاف. ساعدني ذلك كثيرًا في الانفتاح على مختلف الأقوال والآراء، فقد كنت أجالس الجميع وأسمع من الجميع، فأكشف مشكلات الأفكار وأزماتها من خلال النظر والمقارنة والبحث الدائب. ولم يكن بوسعي ذلك لو اخترت في بداية طريقي «الانتماء» إلى تيار ما أو جماعة ما؛ ذلك أن مشكلة هذه الانتماءات وطبيعتها المعاصرة هي مصادَرة تفكير المنتمي، وقَوْلبته في إطار التفكير الجمعي للجماعة، وجعْله مجرد تُرْس صغير في ماكينة الجماعة الضخمة، لا يسعه أن يتحرك ذاتيًا بل يندفع بحركة الماكينة!
ينغلق المتحزب عن الأفكار الأخرى، ويتعامل معها بعدائية، وخصوصًا تلك التي تخالف ما تقوله جماعته، فيكون توجهه البائس دائمًا: «كيف أفند هذا القول المخالف لقول جماعتي؟». ولذلك نجد أن معظم المتحزبين في جماعة ما يكررون المقولات ذاتها بشكل ببغائي، فهم يتداولونها فيما بينهم، ويكفي أن تلتقي بواحد أو اثنين منهم كي تعرف «رأي الجميع»!، وهكذا يصادر التنظيم المتحزب التفكيرَ المستقل للفرد، ويسد عنه منافذَ المعرفة الخارجة عن إطاره، ويقتل بذلك أي إبداع ممكن؛ ولذلك تجد معظم الجيل الثاني والثالث والرابع من التنظيمات الإسلامية جيلاً فاقدًا للإبداع.
«ولا تقفُ ما ليسَ لكَ به علم»
إدراك أهمية التوثيق العلمي لكل معلومة نقولها أو نكتبها، فلا نقفز فوق العلم فنهمل التوثيق والبرهان والدليل. والأمانة في تداول العلم ونقله، بحيث تكون هذه الأمانة في نقل العلم رسالة بحد ذاتها بغض النظر عن نوع العلم والهدف منه، فلا ينقل الإنسان المعلومة أو الخبر من مصدر غير موثوق، ولا يتداول الشائعات الرائجة باعتبارها حقائق لكونها توافق هواه وميوله. إنّ الوفاء في البحث عن المعلومة صفة ضرورية يلتزم بها الإنسان العاقل الذي كرمه الله بالقدرة على التفكير مهما كلفه ذلك من مشاق، فلا يعتسفُ الكلام اعتسافًا، ولا ينطق عن جهل ومن غير بحث جاد، ولا يتورط في نقل أنصاف الحقائق وفي تسطيح الأفكار واختزالها.
لا تتجاهل الواقع
التعامل الواقعي مع الأحداث؛ فالشخصية المسلمة شخصية واقعية، تتبع السنن الكونية التي أودعها الله في عالمنا لقراءة الأحداث، وليست شخصية «إيحائية» تسير وراء ما يخطر لها أو ما يقوله الآخرون دون دليل. والمسلم يتخذ من النظر في الواقع الذي أمامه -لا الواقع المتخيّل أو المنشود- موطئ قدم يركن إليه لينطلق للأمام، ولا يلهث خلف أمنيات أو معجزات ستحصل بدون جهد واقعي مناسب للظرف واللحظة والملابسات الراهنة. وهو حين يقرأ الأحداث ويستشرف المستقبل يعتمد في ذلك على معطيات وبيانات يجمعها من الواقع، فلا يستنجد بشماعة «المؤامرة» فيعلّق عليها كل حدث يجري في العالم، ولا يستغفل السامعين بجعل الواقع مسرحًا لخياله وأمنياته، ولا يسد عجزه الراهن بالحديث عن أحلام النصر والتأكيد عليها بدون جهد واقعي يستهدفها بوسائل وخطوات واقعية وجادة.
عندما نتجاهل الواقع في الطريق نتعثر بحجارته ونرتطم بجدرانه ونكتشف بأنه لم يكن ممكنًا تجاوزه بالأحلام؛ فالحلم يأخذك بعيدًا وقد يذهب بك إلى القمر، ولكن سرعان ما تكتشف عندما تستيقظ بأنّك لم تتزحزح شبرًا واحدا عن سريرك!.
وبعدُ، فهذا بعض ما حفرهُ العقدُ الأخير في عقلي ونفسي، لعل أحدًا ينتفع به.