في ذكرى الثورة الإيرانية: كيف أسهمت حرب العراق في تسميمها؟
زمانٌ عصيب تتلاحم فيه مكونات منطقتنا تحت سمع العالم وبصره، وتطحن رحى الدم عشرات الآلاف من أبناء شعوبنا، ويتم تحضير ساحات الشرق الأوسط لحرب – نشهد فصولها الدموية الأولى الآن – جنونية شاملة بين السنة والشيعة، يتم من مخاضها الدموي ولادة خريطة شرق أوسط جديد، يكرس هيمنة الجميع على مصائرنا سوانا. ولا يبدو في الأفق أية جهود عاقلة فاعلة لكبح هذا الانحدار المتسارع إلى الهاوية، فالأطراف الرئيسية المرشحة للتصادم، قد اندفعت في اتجاه الصراع الصفري الذي لا يعلم إلا الله أين سينتهي بمنطقتنا المثخنة.
والأخطبوط الإيراني الذي يضرب بأذرعته الآن يمنة ويسرة على بعد مئات الكيلومترات من حدوده، ويكاد يحتل ثلاث أو أربع عواصم عربية، ليحميَ وجوده، ويصنع نفوذه، ويكاد حبل مواليه، والدائرين في فلكه يلتف تمامًا على عنق الشرق الأوسط، يحتاج منا إلى ما لا يحصى كمًا وكيفًا من الدراسات لتاريخه ولواقعه، لنستطيع أن نفهم كيف وصلنا إلى اللحظة الراهنة، وكيف بالإمكان الخروج منها بأقل الخسائر.
وفي الذكرى الثامنة والثلاثين – 11 فبراير/شباط 1979 – لانتصار الثورةالإيرانية، الحدث الأبرز في تاريخ إيران الحديث، وواحد من أبرز منعطفات التحول في تاريخ العالمين العربي والإسلامي الحديث، سنحاول إبراز كيف أسهمت الحربالعراقية – الإيرانية (1980-1988) الدموية التي تعتبر أطول حروب القرن العشرين، بدور بارز في حرف هذه الثورة من الأفق الإسلامي والإنساني الأوسع، إلى مشروع أكثر شيعية وطائفية وإجرامًا، جعلها تكون في السنوات الكبيسة الماضية النصير الأول للنظام السوري الدموي الذي فاقت فظائعه ضد شعبه الكثير من فظائع العصور الوسطى، وماثلَ أو فاق أحيانا فظائع نظام الشاه الذي قضت عليه هذه الثورة نفسها، مما حرم أمتنا الغارقة في ظلام الاستبداد لقرون، من نموذج استثنائي للثورة الشعبية والحرية وقهر الاستبداد، حلم الكثيرون يقظة ومنامًا بحذو حذوه، وتغيير مسار تاريخنا المأزوم.
ثورة إيران: من الوجود إلى حرب الوجود
مع مطلع عام 1979، اتضح جليًا لصناع القرار في العالم أن الأمور في الشرق الأوسط الحيوي الملتهب لن تعود إلى ما كانت عليه أبدًا، وأن اختلالات دراماتيكية في التوازنات الهشة القائمة تجري على قدم وساق على مدار الساعة.
كانت الانتفاضة العارمة في إيران قد تجاوزت عامًا كاملًا، وكان عرش الشاه رضا بهلوي شرطي الخليج الأثير لدى الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، يهتز بمنتهى العنف، وبدأت قوائمه في التداعي، رغم مواجهته للانتفاضة الشعبية بقبضة أجهزته الأمنية التي كانت تعتبر ضمن الأكثر استعدادًا وبطشًا في العالم كله، خاصة السافاك، جهاز الأمن السياسي الدموي ذائع الصيت. وكذلك لم يشفعْ له استخدامه لآخر أوراقه وأخطرها، وهو جيشه الذي كان يعتبره بعض الخبراء رابع أو خامس أقوى جيوش العالم، إذ بدأ يتفكك هذا الجيش بعد مواجهات دموية عديدة مع المتظاهرين والثوار.
فرَّ الشاه إلى خارج إيران في يناير/كانون الثاني 1979، ولم تنجحْ مناورته بإسناد رئاسة الوزراء إلى بختيار، أحد أقطاب المعارضة الوطنية في منتصف هذا الشهر، وفي مطلع فبراير/شباط 1979 كان أكثر من ثلاثة ملايين إيراني في المطار في استقبال آية الله الخميني أبرز من قارع نظام الشاه دينيًا وسياسيًا على مدار ربع قرن، بعد عودته من المنفى في باريس. ليتربع فعليًا على عرش إيران وثورتها في مشهد ملحمي نادر.
ولم تكن الشهور التالية لعودة الخميني وردية كما تصور الكثيرون، إذ ما لبثت التباينات الأيديولوجية والبراجماتية، وطبيعة الثورات الراديكالية الحدِّية أن أدَّت إلى أن تصادمت قوى الثورة الدينية والوطنية واليسارية في صراعٍ دموي رهيب، حسمه الولي الفقيه، وأعقبه بمحاكمات ثورية عنيفة أطاحت برؤوس الآلاف من قيادات الجيش والشرطة والسافاك، وحلفاء الأمس من المعارضة الشيوعية واليسارية وسواها. وصاحب ذلك إنشاء ميليشيا الحرس الثوري لتوازن قوة ما تبقى من الجيش الإيراني، ولتحفظ مكتسبات هذا التيار من الثورة .وكان عمادها الكتائب الثورية المسلحة المؤيدة للخميني ولدستوره الإسلامي وجمهوريته الإسلامية التي أسس لها استفتاء سبتمبر/أيلول 1979.
كل هذا التصادم الداخلي على مدار أكثر من عامين، أدى إلى استشراء الفوضى في إيران، وتزعزع مقدراتها العسكرية والاقتصادية، مما أطمع فيها الجار العراقي اللدود، الذي انفرد بالقبض على كل خيوط السلطة فيه صدام حسين، المغامر الطموح الذي أراد بناء مجد على حساب جاره المثخن ودماء عشرات الآلاف من أبناء الشعبين، مستغلًا رعب الإقليم العربي المجاور خاصة دول الخليج من شعارات تصدير الثورة، وأسلمة الدولة، ومستظلًا بعدم الرضا الدولي خاصة القطبين اللدودين عن الثورة الإيرانية.
شن العراق حربه على الثورة الإيرانية الغضة في أواخر صيف 1980، مغترًا بجاهزيته العسكرية، والدعميْن الإقليمي والدولي، ومرتكزًا على تعثر خصمه وتشرذمه، وحالة الحصار والعزلة الدوليين ضده. اعتقد الكثيرون أن الثورة الوليدة على وشك أن تسحقها جنازير الدبابات العراقية، لكن أتت رياح السنوات التالية بما لمْ يشتهِ الجميع سوى تجار السلاح وسماسرة الحروب.
الحرب العراقية الإيرانية: عدوان عراقي وحقد إيراني عنيد
في هذه الحرب البشعة التي تجاوزت سبعًا عجافًا من السنين (1980 – 1988)، أنفق العراق وإيران أكثر من 64 مليار دولار أمريكي على استيراد الأسلحة، التي أزهقت في أقل تقدير أكثر من مليون روح، وقد مثّل هذا الإنفاق أكثر من خمس تجارة الأسلحة الدولية في العالم خلال تلك الفترة.
بدأ العراق عدوانه على الأراضي الإيرانية في سبتمبر/أيلول 1980، وكان السبب المباشر المعلن هو الخلافات الحدودية القديمة على خط الحدود في نهر شط العرب الفاصل بين الدولتين. وعلى مدار الأشهر التالية استولى العراقيون على مساحات كبيرة من إقليم خوزستان العربي الشيعي الملاصق للعراق، لكن ما لبث خط الجبهة أن تجمد بعد إفاقة الإيرانيين من الصدمة وتصاعد المقاومة الإيرانية، ومنذ أواخر 1981 بدأ الهجوم المضاد الناجح، فلم يأتِ صيف 1982 إلا وقد عادت الأوضاع إلى حدود 1980. وكان للتعبئة الثورية والدينية والوطنية الشاملة التي قادها الخميني الدور الأبرز في ذلك خاصة قوات الحرس الثوري، وميليشيات الباسيج ، وليس عمليات عسكرية منظمة كالحروب الحديثة.
حينها أعلن العراق التزامه بوقف النار، خاصة وقد اتجهت أنظار العالم منذ السادس من يونيو/حزيران 1982 إلى بيروت المحترقة تحت القصف الإسرائيلي إبان الاجتياح الكبير. وكانت على الدولتين المتشدقتيْن بالقضية الفلسطينية ومواجهة إسرائيل مسؤولية أخلاقية في إيقاف الحرب العبثية، ودعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية ضد العدو المشترك. لكن اشترط الخميني شروطًا تعجيزية لوقف الحرب، مثل استقالة صدام ومثوله أمام محكمة لجرائم الحرب، ودفع تعويضات فلكية لإيران. بالطبع رفض النظام العراقي، وتواصل الجنون.
انتظر الكثيرون من مناصري القضية الفلسطينية من الخميني أن يوقف الحرب، وأن يكون له ولإيران المنة في وقف العبث والالتفات لقضية الأمة. لكن يبدو أن قطار الحشد الديني والطائفي المضاد لعدوان العراق، والذي تذكيه الثورة ومواكب الشهداء، والذي أطلقه نظام الخميني، لم يعد بالإمكان كبحه. في حين يمكن الاستفادة منه لترسيخ الواقع الجديد.
لستة أعوامٍ تالية، أعلن الخميني أن طريق القدس لابد وأن يمر ببغداد. ومن حينها وصارت سنة لطريق إيران – القدس أن يمر بعاصمة عربية حقًا وباطلًا. كان توازن الفشل المرعب هو الحاكم على ما تبقى من هذه الحرب، فلا انتصارات كبرى، ولا هزائم كبرى، إلا هزيمة الأخلاق والمباديء وأي محاولات للتقارب بين السنة والشيعة، والعرب والفرس ..إلخ. لم تصل حرب ناقلات البترول، أو حرب المدن وقصفها على رؤوس المدنيين، ولا الأسلحة الكيماوية ضد الأبرياء بأي طرفٍ إلى الحسم. وحتى عندما استولى الإيرانيون على شبه جزيرة الفاو الاستراتيجية التي أوصدت نافذة العراق المحدودة على الخليج العربي في 1986، استعادها العراقيون في 1988. وحينها فقط اضطر الخميني كما قال إلى تجرَّع كأس السم وإيقاف الحرب، ولو كان تجرَّعه قبلها بأعوامٍ ستة، لعصمت دماء مئات الآلاف، ولتغير تاريخ هذه المنطقة كثيرًا كثيرًا .. إن لم يكن للأفضل، لكان للأقل سوءًا.
الآثار العميقة للحرب على إيران وثورتها: لطميات لا تحصى، لإذكاء المذهب الحزين الموتور
المذهب الشيعي عماده مظلومية آل البيت وأئمتهم وشيعتهم على يد الأنظمة المستبدة المتتالية من الأمويين والعباسيين .. إلخ. ولذا فالوعي واللاوعي الجمعيان للشيعة عبر القرون ممتلئان بالحزن والصبر والحقد وانتظار ثاراتٍ لا تُحصى. ولذا كان الإيرانيون على استعدادٍ تام لاستقبال عدوان العراق كحلقة من سلسلة مظلوميات الشيعة. ولذا كانت كل موقعة في الحرب هي كربلاء، وكل جنازة لمدني قتلته قنبلة عراقية، أو لأشلاء فتىً من الباسيج فتح بجسده ثغرة في حقل ألغامٍ عراقي هي مظاهرة بيعة على الاصطبار والانتصار لآل البيت عبر القرون.
كما استغل رجال الدين والمتحسمون دعاية الطرف الآخر الذي سمى معركته بالقادسية، وسماهم بالفرس الكفار ، وأعلن نفسه حامي حمى العرب والسنة، لتعزيز مزيد من التجمع حول شيعية الثورة، وقيادتها،وأحقادها. وتأسست في ربوع إيران آلاف المؤسسات والجمعيات الخيرية والفكرية والسياسية التي تمثل ترجمة لكل هذا.
عوّض الإيرانيون فارق التسليح النسبي، والحصار الدولي مع العراق، بالأمواج البشرية المُجيّشة، فلم يكن غريباً أن تصل المصادر الوسيطة بأعداد القتلى الإيرانيين إلى أكثر من 700 ألف ، أضف إليهم أضعافهم من الجرحى والمعاقين والمعوزين والأسرى. إذن فلم يخلُ بيتٌ ولا حارة في إيران من موتورين. وفي هذا السياق نفهم ما أذاقه الإيرانيون للعراق خاصة السنة بعد سقوط صدام. و كذلك لا نستغرب ما سربتهويكيليكس في 2010 من برقيات تتحدث عن أن إيران استغلت الفوضى بعد سقوط صدام، واغتالت أكثر من 182 طيارًا عراقيًا من الذي قصفوا مدنها قبل أكثر من ربع قرن!
وختامًا؛ للأسف لا يبدو في الأفق الإيراني أية محاولة جدية لتحرير الحاضر والمستقبل من حبائل الحقد الماضي. وما تزال الجروح النفسية والفكرية لتلك الحرب غائرة في الذهنية الإيرانية، وتوشك أن تذهب بما بقي من ثورتها وبكيانها في السنوات القادمة. فهذا الطموح الامبراطوري الإيراني المغذّي بالأطماع والآلام والأحقاد سيدخل المنطقة في دوامة جهنمية تلو أخرى، حتى نتفانى جميعًا. كما أن القاعدة التي تقول إن محاولة الانتصار الكامل تجلب الهزيمة الكاملة تفرض نفسها في الواقع كثيرًا.
(اعتمدت في كثير مما ذكرته هنا على كتاب الحرب العراقية – الإيرانية للمشير أبو غزالة، والذي أراه استوفى كثيرًا من جوانبها العسكرية والسياسية والاقتصادية جيداً. كما اتسم طرحه في الكتاب بالحيادية، والانتقاد اللاذع لكلا الطرفين)