في ذكرى رحيل «العم» إبراهيم أصلان: جيل يسلم جيل
مرت خمس سنوات على رحيل القاص المصري الكبير «إبراهيم أصلان»، خمس سنوات تبدلت فيها الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية للدولة المصرية، وانقلبت من حال إلى حال، ولكن بقيت حياة المصريين على حالها. حياة صعبة وحزينة ولكنها ترفض أن تتوقف عن إطلاق النكات. وهكذا بقيت حكايات أصلان حية لا تعبر فقط على حياة المصريين الماضية بتفاصيلها البسيطة ولكنها، أيضا تحاكي حاضرهم وتظهر كسيناريو متوقع لمستقبلهم.
لم يتحصل «أصلان»، الذي ولد في إحدى القرى التابعة لمدينة طنطا، ثم انتقل بصحبة والده للعيش في منطقة «إمبابة» وحي «الكيت كات»، على أي شهادة تعليمية سوى الشهادة الابتدائية، وبعد مسيرة مضطربة في عدد من المدارس الصناعية والمهنية انتقل أخيرًا وعمل بالهيئة العامة للبريد. وفي أثناء تلك الفترة أصدر مجموعته القصصية الأولى «بحيرة المساء»، ذكر أصلان في كتابه «شيء من هذا القبيل» أنه كان في هذه الأثناء يسجل خواطره ويكتب بعض الأشعار كباقي شباب جيله من المحبين للكتابة، كان تائهًا ولا يعرف ما هو نوع الكتابة الذي يلائمه، ولكن أحد زملائه في هيئة البريد نصحه بأن يستزيد من القراءة حتى يعرف ما يريد أن يكتب.
وأثناء فترة القراءة والبحث اهتم أصلان بقراءة المسرحيات الفاتنة للأديب الروسي الكبير «تشيخوف»: «طائر البحر» و«بستان الكرز»، وبعد أن أعجبته بشدة قرر أن يتعرف على عالمه بالكامل، فوجد نفسه أخيرًا يقرأ مختارات من أعماله القصصية، ومع القصة القصيرة الأولى والمعنونة «موت موظف» أدرك أصلان أن هذا الإطار هو الذي يناسبه. ومن يومها وحتى يوم وفاته وهو يعتبر نفسه كاتبًا للقصة القصيرة لا أكثر من ذلك ولا أقل.
استمر الحال كذلك حتى حدث موقف طريف أدى لتحول أصلان لكتابة الرواية. ولهذا الموقف صلة بعلاقته بالأديب المصري الكبير «نجيب محفوظ»، أو كما يسميه أصلان «العم» نجيب. فبعد أن عُرف أصلان ككاتب للقصة القصيرة اعتاد أن يتقابل بشكل أسبوعي بمقهى ريش مع العم نجيب الذي كان يتابع ما يكتبه أصلان ويشجعه. وفي هذه الأثناء كان أصلان يعمل بنظام الورديات في هيئة المواصلات، مما جعله يتخلف عن ميعاد العم نجيب الأسبوعي. وعليه قرر العم نجيب كتابة رسالة يزكيه فيها لمنحة تفرغ لمدة عام من وزارة الثقافة. وتم الموافقة على المنحة، ونُشر الخبر في الصحف بأن الكاتب إبراهيم أصلان سوف يتفرغ لمدة عام لكتابة رواية. وحينها حاول أصلان تصحيح الخبر قائلًا إنه لا يكتب روايات، ولكن قصص قصيرة، ولكنه علم أن التفرغ في ذلك الوقت لا يُمنح إلا لكتابة الروايات أو المسرحيات الطويلة. فاستسلم أخيرًا وقال: «خلاص. نكتب رواية».
وهكذا كُتبت «مالك الحزين» التي تحولت بعد ذلك في أوائل التسعينيات لفيلم حمل اسم «الكيت كات» من إخراج «داود عبد السيد» ومن بطولة «محمود عبد العزيز». لتصبح الرواية التي كُتبت على سبيل الصدفة قصة لفيلم من أجمل الأفلام قي تاريخ السينما المصرية. وبالرغم من كل ذلك عاد أصلان لكتابة القصة القصيرة ولم يتوقف أبداً عن ذلك، وحينما كان يُسأل عن نجاح هذه الرواية جماهيريًا بشكل يفوق مجموعاته القصصية كان يقول: «ليس مهمًا أن نحقق أحلامنا أو لا نحقق، فالأمور لا تقاس بنتائجها ولكن بما نبذل من جهد».
حينما قرأت لأصلان لأول مرة شعرت أنني أقرأ أفضل قصة يمكن لإنسان أن يكتبها، رغم أنه كان يحكي حكاية بسيطة للغاية عن رجل عجوز اسمه «عم خليل» يجلس في صالة بيته بجسده النحيل في جلباب نظيف ويشاهد الفيلم الأبيض والأسود المعروض في التليفزيون، فيما كانت زوجته «مدام إحسان» جالسة على الفراش الكبير مائلةً في الحجرة شبه المعتمة بجسدها النحيل وشعرها الأبيض المربوط. يحكي عنها أصلان فيقول:
أنهيت هذه الحكاية وذهبت للاطمئنان على أمي، أنهيت هذه الحكاية واتصلت بجدي على الفور، ثم قمت بزيارته. سمعت هذه الجملة في مرات كثيرة بصيغ مختلفة من قراء أصلان، هذه الحكايات التي تذكرك بكل ما اعتدته في حياتك لتعيد اكتشافه من جديد، كعلاقتك بأمك وزيارتك لجدك، أو حتى أحلامك عن شريكة حياتك التي ستقضي معك سنوات ما بعد المعاش. هذه الحكاية كانت جزءًا من مجموعة أصلان القصصية المعنونة «حجرتان وصالة»، والتي تحمل في طياتها أسباب عبقرية أصلان ككاتب للقصة القصيرة وتفرده عن غيره من القصاصين.
قرأت بعد ذلك كثيرًا لأصلان وأدركت أنه يهتم دائمًا بالتفاصيل الصغيرة لا الأحداث الكبيرة، لأنه يرى في الأساس أن الأحداث الكبيرة كبيرة فقط لأنها تصوغ وتلون المناخ أو المزاج العام الذي يعيش فيه الخلق من عباد الله، وهي تؤثر بالتالي أعمق التأثير في تفاصيل الحياة اليومية وفي طبيعة العلاقة العادية بين الإنسان ونفسه، وبالآخرين، وبالدنيا التي يعيش فيها. وعليه فالسعي فنيًا من أجل التعبير عن طبيعة هذه العلاقات الإنسانية هي وظيفة الفن عمومًا، أما التعامل بشكل مباشر فهو وظيفة الباحثين والمعلقين والدراسين.
في التفاصيل الصغيرة التى يحكي عنها أصلان بأسلوبه الفاتن تتلخص الحكاية كلها. ففي تطلع طفل إلى طعام في يد الغير، تعبير عن محنة عظيمة وفي ارتجافة خوف يعتري إنسانًا من لحم ودم لمجرد عبوره أمام قسم شرطة اختزال لتاريخ كامل من المهانة والقهر.
في السابع من يناير من العالم التالي ليناير التي غيرت حياة المصريين، وقبل أن تتحول حكايات الثورة الجميلة إلى نوستالجيا لأيام ما قبل هزيمة أحلام جيلنا، رحل عنا أصلان في هدوء. لم يشعر أحد تقريبًا من المصريين البسطاء حينها برحيل من يمكننا وصفه بأنه واحد من أفضل وأصدق من كتبوا القصة القصيرة في تاريخ الأدب المصري. ولكن ربما ستستمر قصص أصلان في الدوران والتنقل من جيل إلى جيل حتى تحظى مصر بزمن يُقدَر فيه الإنسان فيُقدَر فيه من عبروا عن معاناته وآلامه وأحلامه، وحينها ستُسمي الشوارع والميادين بأسماء نجيب وأصلان وليس بأسماء مجموعة من الجينرالات الذين لم يعرفوا المصريين الحقيقيين يومًا. وحتى إذا عرفوهم فلن يشعروا بهم، وكما قال «العم» أصلان رحمه الله: