عن الثورة والحب والأسرة: حواديت الناجين من الانتحار
شهد سبتمبر الماضي حوادث انتحار عدة لشباب اختاروا أن ينهوا حياتهم في العلن، البداية كانت مع «فتاة المول»، طالبة طب الأسنان ذات الـ25 عامًا تقفز من أعلى طوابق المول، وقيل حينها إنها كانت تعاني من مشاكل نفسية نتيجة خلافات عائلية.
وبالمثل ألقى طالب في الفرقة الثانية بكلية الطب بإحدى الجامعات الخاصة بمدينة 6 أكتوبر بنفسه من الطابق الرابع لينهي حياته بعدما ترك خلفه رسالة تقول «آسف.. سامحوني».
وقائع الانتحار لم تقتصر على طلبة الجامعات، فلقد كان لطلبة الثانوية العامة نصيب كبير منها في أغسطس الماضي الذي شهد رحيل ما يقرب من تسعة طلاب في أنحاء متفرقة من الجمهورية، ولعل آخر هذه الحوادث في سبتمبر الماضي أيضًا، انتحار طالب ملقيًا بنفسه بمياه بحر مويس في مركز فاقوس التابع لمحافظة الشرقية، ليتبين فيما بعد أن الطالب كان يمر بحالة نفسية سيئة بسبب تدني مجموعه في الثانوية العامة.
هناك منتحر كل 40 ثانية.. هذا ما جاء في تقرير منظمة الصحة العالمية في سبتمبر من عام 2019 عن ظاهرة الانتحار حول العالم.
وبحسب إحصاءات للمنظمة نفسها صدرت عام 2016م، جاءت مصر على رأس الدول العربية فيما يتعلق بمعدلات الانتحار بإجمالي 3799 حالة خلال العام، وتجاوز عدد الرجال المنتحرين أعداد النساء المنتحرات (3095 مقابل 704).
هذه الإحصائية تعارضت مع الأرقام الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في عام 2017 حين أعلنت وقوع 69 حالة فقط.
ورغم عدم وجود إحصاءات رسمية حديثة عن معدلات الانتحار في مصر في العامين الماضيين فإن تكرار حوادث الانتحار مؤخرًا، بعضها ارتُكب في العلن، يطرح عشرات الأسئلة الكبرى التي دفعتنا للبحث وراء هذا الأمر؛ ما هي تلك الأوضاع القاهرة التي قد تدفع الناس لإنهاء حياتها؟
للوصول إلى الإجابة، حاوَر «إضاءات» عددًا من الناجين من محاولات الانتحار، لنرى معًا ما الذي دفعهم للانتحار؟ وكيف قدّروا نعمة الحياة التي تمنّوا في لحظة يأس التخلص منها؟
«ع»: الانتحار أعادني للحياة من جديد
حاول «ع. ي» (28 سنة)، خريج كلية الآثار بإحدى الجامعات المصرية، الخروج من الحياة التي «بلا معنى» أو «المتاهة الحزينة» كما وصفها، بل نفذ المحاولة بالفعل عن طريق إلقاء نفسه من الدور السابع!
ليُفاجأ بعدها أنه يفيق من الإغماء وبأنه ما زال على قيد الحياة ولكن بجسدٍ يمتلي بالكسور شديدة الإيلام، وهو ما جعله في حالة صدمة ودهشة ولكنه أجبر على التعامل مع الحياة مجددًا كأمر واقع.
خضع لعدة جراحات لعلاج الكسور التي أصابت جانبه اليمنى الكامل من قدم وذراع وفك، جراء سقوطه على ذلك الجانب في الحادثة، إلا أن محاولة الانتحار تلك أبت إلا أن تترك بصمتها وذكراها اللعينة على جسده، فلم تُشف قدمه اليمنى بشكل تام، إذ تصاحبه «زكة» تعيق المشي بسهولة تُذكره دومًا بتلك المحاولة وبنعمة الحياة التي حاول الهرب منها.
يؤكد صاحب الـ28 عامًا، أنه قبل تنفيذ المحاولة لم يشارك أحدًا رغبته في الانتحار موضحًا أن علاقته بوالده «علاقة باردة تعتمد على الماديات فقط»، أما والدته تمده بجانب كبير من الحب، ولكن هذا لا يمنع عدم رضائه عنها نتيجة ضعفها وخضوعها لسلطة والده.
وعن إخوته يقول، إن لديه شقيقة واحدة ليس لها دور إيجابي أو سلبي في حياته، لكنه يتذكر أن معاملة الأسرة بأكملها اختلفت وتحسنت بعد نجاته من الانتحار ولعدة أشهر، وبمجرد أن ترك «العكاز» وأصبح يعتمد على نفسه بشكل كامل عادت الأمور كما كانت.
ويحكي «ع. ي»، أنه في فترة الاكتئاب الشديد التي سبقت الانتحار، وقبل قرار الانتحار بعشرة أشهر قل تفاعله بشكل كبير مع المحيطين ومع أصدقائه المقربين ولم تلحظ أسرته ذلك لأن علاقتهما فاترة.
رغم التجربة القاسية التي مر بها «ع. ي» فإنه لم يلجأ للعلاج النفسي بشكل رسمي، واكتفى بجلسات ودية مع صديقة درست علم النفس.
يقص أن هذه الجلسات أشعرته بالراحة وأزالت «حجرًا بداخله»، على حد تعبيره، مؤكدا أنه تخلى عن التفكير في الانتحار بسبب عدم جدوى الفكرة بالنسبه له الآن، لأن الموت لم يعد حلًا، والدليل أن الانتحار أعاده للحياة مرة أخرى.
يسترسل بأن رغبته في الحياة زادت، ولا يخفي سعادته بأن يد القدر أهدته فرصة ثانية لاكتشاف الدنيا، وعودة التفاعل مع الناس، وخوض علاقة عاطفية مع إحدى الفتيات تمهيدًا للارتباط بها.
يقول إنه نادم على هذه التجربة؛ لأنه كان من الممكن أن يفكر في حياته بشكل أفضل، رغم ذلك أحيانًا تراوده بعض الأفكار الانتحارية عندما يشعر بالفشل أو عدم التقبل ولكنه سرعان ما يذكر نفسه أن الانتحار لا يمكن أن يكون حلًا.
ووفقًا لـ«ع»: في هذه الأوقات يكون بحاجة كبيرة للهدوء النفسي وإزاحة الضغوط والتفاعل مع المقربين وبالأخص حبيبته «القوية» التي تمده بالجرأة وتعينه على محاولات التغير، وهي الصفات التي كان يتمنى وجودها في أمه، على حد قوله.
«ن»: ثورة يناير أنقذتني من نفسي
تقول «ن. ن» (27 سنة)، تعمل حاليًا مُترجمة، إنها قررت الانتحار وهي في الخامسة عشرة من عمرها، وإذ بها تهم بالقفز من الدور الثامن في بيتها لتُفاجأ بأخيها الصغير يريد أن يشاركها بعدما خيل إليه أنها تلعب!
تراجعت «ن» عن قرارها، وبعدها دخلت في نوبات إيذاء للنفس عن طريق الضرب والصفع نتج عنها إصابتها كدمات وجروح سطحية.
تذكر أن فكرة الانتحار ظلت تشغل تفكيرها بشكل كبير لكنها لم تمتلك الجرأة لتكرار نفس الفعل مرة أخرى،واكتفت بتعذيب نفسها بالعنف من حين لآخر.
استمرت في هذه المعاناة لسنوات إلى أن قامت ثورة 25 يناير عام 2011.
الطريف أن الانفراجة التي حدثت لهذه الحالة جاءت نتيجة توابع الانفلات الأمني الذي ساد البلاد في الأيام التي غابت فيها الشرطة عن الشوارع، وهو ما أجبر أسرتها على الوجود المكثف في البيت ومن ثم ملاحظة أن هناك خلل ما في طريقتها في الحياة.
هذا الخلل كان يظهر في الخوف المبالغ فيه من الأحداث، والانطوائية، والتعامل العنيف مع أي شخص يريد الاقتراب منها، والدخول في نوبات بكاء، إضافة إلى اضطرابات النوم والأكل ومشاكل متنوعة في الصحة العامة وبالذهاب لأكثر من طبيب أكدوا جميعًا أنها تعاني من مشاكل نفسية وبالفعل ذهبت لطبيب نفسي تحت رعاية والديها ليتبين أنها تعاني من الوسواس القهري وتبدأ رحلة علاج طويلة.
«لو كانت علاقتي قوية جدًّا بأهلي يمكن ماكنتش فكرت في الانتحار»، هكذا ردت «ن. ن» (27 سنة) على تساؤل: ماذا لو اكتشف أهلها منذ البداية أنها تعاني من أفكار مرعبة تضرب رأسها وتسيطر على تفكيرها؟
موضحة أنه ربما لو كانت العلاقة مع أهلها سوية وتعتمد على الحوار الدافئ لطلبت الدعم والمساعدة في ذلك التوقيت، ولم تُقدِم على الانتحار.
رغم رحلة العلاج الطويلة التي قطعتها «ن. ن»، تؤكد أنها ما زالت تخاف من الأماكن المرتفعة وتحاول بقدر الأماكن البعد عنها وكذا الأدوات الحادة مثل «السكاكين» لأنها تثير لديها التفكير في التخلص من الحياة.
وتؤكد، أن مخاوفها لم تنتهِ بعد وأن الفكرة تعاود التسلل إلى رأسها في بعض التوقيتات السيئة، ولكنها تعلمت وما زالت تتعلم كيفية إدارة خوفها لوأد هذه الفكرة، بخاصة بعدما تفتحت مداركها وأيقنت أن الحلول دائمًا موجودة ولكن العناء يكون في إيجاد الطريقة، التي لا بد من إيجادها لأنه على حد قولها «فيه حاجات كتير ماينفعش تفوتني في الحياة».
تقطيع الشرايين: ضريبة انفصال الأبوين
أما «هـ. ت» (26 سنة)، فتعمل حاليًا مدرسة لغة عربية، أقدمت على الانتحار بعدما انفصل والداها وأمضت طفولة حزينة مع والدها وزوجته التي كانت تعاملها بطريقة وحشية، لم ينجح الأب في إنقاذها منه بل عاملها بشكلٍ سيئ تأثرًا بحديث زوجته المسيطرة.
تحكي «تحملت العناء لسنوات، عانيت فيها من الوحدة والاكتئاب، بخاصة أن والدي كان يقنعني منذ الصغر بأن أمي تكرهني ولا ترغب فيّ، وأنها اختارت الزواج وأنجبت طفلة أخرى ولم تعد تهتم برؤيتي».
«هـ. ت» نفذت الانتحار بمحاولة قطع شرايين اليد بواسطة «موس» لتفيق من هذه المحاولة لتجد والدتها تقف بجانبها، بل ظلت لجوارها إلى أن تجاوزت الأزمة وعادت لتعيش مع والدتها وتركت بيت أبيها.
«هـ. ت»، ذات الـ26 ربيعًا، تشير إلى أنها لم تتخلص بالكامل من استيائها من والدتها لتركها لها فريسة لوالدها وزوجته، وعدم إصرارها بالشكل الكافي لرؤية ابنتها والاطمئنان عليها، ومع ذلك فمحاربة والدتها مع زوجها الحالي لضمّها إليها تغفر لأمها «سنوات النسيان».
توضح، أن أمها ربة منزل تعيش في أحد نجوع مصر التي لا ترحم المرأة المطلقة ولا تكف عن الحديث عنها، لذا فهي تدافع دائمًا عن استمرار الزواج الثاني لأمها، رغم أن زوجها رفض أن يصرف ماديًا عليها (الابنة) وأن خالها هو من تكبد مصاريف دراستها الثانوية لتحصل على مجموع عال وتلتحق بإحدى الكليات الأدبية بالقاهرة، ومن هنا تغيرت حياتها وتفتحت على مجتمع جديد وتخرجت وتزوجت.
«هـ. ت» تنوه إلى أن الحنان والدفء اللذين عرفتهما من والدتها، ولو متأخرًا، كانا بمثابة طوق النجاة الأخير للتشبث بالحياة مجددًا، وهو ما أغناها عن اللجوء إلى العلاج النفسي.
وما ساعدها أكثر هو تجربة الإنجاب التي مرّت بها وغيّرت من نظرتها للحياة، وجعلتها تتمسّك بها أكثر لشعورها بالمسؤولية تجاه طفل لا تريده أن يفقد أمه أو يمر بمثل هذه الظروف القاسية التي مرت بها، وهو ما قضَى تمامًا عن وجود أي أفكار انتحارية عندها.
قسوة الأب دفعتها للانتحار مرتين!
أقدمت «ب. م»، (20 سنة)، طالبة، على محاولتي انتحار وهي في الثامنة عشر من عمرها؛ الأولى نفذتها بابتلاع شريط دواء، والثانية بمحاولة تقطيع شرايينها بواسطة موس.
تقول، إن الدافع الأساسي للانتحار كان إحساسها بالرفض من عائلتها، وبالأخص والدها، الذي كان لا يحنو عليها أبدًا وكان تعامله مع العائلة تعاملًا ماديًّا فقط يخلو من أي احتضان أسري ومشاعر أبوة كانت في أشد الحاجة إليها في أبسط التفاصيل.
أما والدتها، فرغم أنها كانت تحاول احتواءها ودعمها بإسباغ الحب عليها، فإنها (الأم) كانت دائمة الخلاف معها بسبب رفضها لطريقة ملابسها وإلحاحها الشديد على ارتداء الحجاب، وهو ما اصطدم كثيرًا برغبة التمرد التي أظهرتها «ب» منذ الصغر.
توضح «ب»أنها لم تشارك أحدًا رغبتها في الانتحار، لكنها كانت تشعر طوال الوقت بأن حياتها بلا قيمة، وكانت تفيق من محاولة الانتحار في حالة انهيار متهمة عائلتها بأنها السبب، وهو ما كان يدفعهم لإجراء تغييرات بسيطة في معاملتهم لها، لكن سرعان ما تعود الأمور كما كانت وتدب الخلافات من جديد.
تقص أنها لجأت للعلاج النفسي وتم تشخيص حالتها على أنها تعاني من اضطرابات نفسية تفقدها الثقة بنفسها وتفقدها الرغبة بالحياة، مضيفة أنها تحسنت باستمرار العلاج وتركها المعيشة مع أهلها بعدما غيّرت مجال دراستها لأكاديمية أخرى تعينها على تعلُّم مجال تُحبه.
خبير نفسي: احذروا هذه الأعراض
تقول الدكتورة إيمان محمد عصمت، أخصائي الطب النفسي، إنه ليس بالضرورة أن تكون هناك دلائل نفسية تشير إلى إقدام الشباب على الانتحار بشكلٍ علني، موضحة أن المنتحر يمرُّ بمرحلة اكتئاب شديدة لا تجعله قادرًا على وضع الخطط للانتحار أو حتى التفكير في عواقب انتحاره.
وتشرح أنه في إحدى الدراسات عندما سُئل الأشخاص الذين قفزوا من أماكن عامة عالية ونجوا عما يفكرون به، كانت إجابتهم: لا نعلم ماذا حدث فعلًا، ولا نصدق أننا فعلنا هذا!
وتضيف: قد يتجه بعض الأشخاص للانتحار في الأماكن العامة لأنهم لم يجدوا طريقة أسهل ولا تحتاج إلى مجهود متوفرة في منزلهم، ففي الخارج لن يخضعوا لرقابة صارمة كما يحدث في داخل البيوت.
عصمت تشير إلى أنه هناك بعض العلامات التحذيرية التي ربما تمثل مؤشرًا لتفكير الشخص في الانتحار، ومنها: انتحار صديق مؤخرًا، وجود قلق أو اكتئاب أو إرهاق مستمر، الانشغال بموضوعات الموت أو التعبير عن أفكار انتحارية، إدمان المخدرات بأنواعها المختلفة، التخلي عن الممتلكات الثمينة، البدء في كتابة وصية، تغير ملحوظ في عادات النوم والأكل، التهيج المتكرر أو البكاء غير المبرر، الهدوء الذي يبدو عليه الشخص بعد فترة توتر فيبدو وكأنه حسم أمره.
وتوضح أن هناك بعض المؤشرات طويلة المدى التي ربما تدل على وجود أفكار انتحارية، مثل: الانسحاب من الصداقات أو التجمعات العائلية والانقطاع عن الأنشطة الجماعية، والتغييرات السلوكية الرئيسية، مثل: التعبير الدائم عن الفشل وعدم الجدارة أو عدم الاستحقاق، وعدم الاهتمام بالمستقبل، والبطالة، وضعف الصحة العامة، ووجود تاريخ لإيذاء جنسي في الطفولة.
أخصائي الطب النفسي تشرح أنه يجب ألا ننتظر إفصاح الشخص عن رغبته في الانتحار، بل يجب أن نبادر بسؤاله عن تفكيره ومحاولة التعرُّف على مشاكله النفسية حال ظهور أي علامة من علامات «العدمية» عليه.
الاكتئاب سيد الانتحار
تعتبر عصمت، أن الإصابة بالاكتئاب هو أكثر التشخصيات النفسية ارتباطًا بالانتحار، حيث لوحظ أن 70% منهم كانوا يعانون من الاكتئاب بدرجات مختلفة في الماضي.
وتؤكد أنه يمكن علاج الاكتئاب بمساعدة الطبيب النفسي في وجود دعم اجتماعي وأسري، منوهة إلى أنه حال قيام أي شخص بمحاولة انتحارية يجب أن تُقيَّم من قِبَل طبيب نفسي لتقييم الطريقة التي اختارها المنتحر ومعرفة ما إذا كان يرغب في توصيل رسالة لمن حوله أو أنه يريد فقط الموت واختار أيسر وسيلة أمامه.
كما يؤكّد إيهاب سيد رمضان، أستاذ علم النفس بكلية الآداب جامعة طنطا في كتابه «محاضرات في الطب النفسي»، أن الاكتئاب من بين الأسباب الـ10 الأساسية للانتحار في العالم بأسره، ومن المتوقع أن يكون من ضمن الـ3 الأوائل بحلول بحلول عام 2030.
ويضيف: أن علاج الشخص المكتئب إذا كان يُعاني من أفكار انتحارية يستلزم دخوله المستشفى ووضعه تحت الملاحظة الطبية الدقيقة، وإعطائه مضادات الاكتئاب، وقد يتم علاجه بالجلسات الكهربائية (ECT)، إضافة إلى أهمية الجلسات العلاجية بشكلٍ فردي لمساعدة المريض على التعامل مع النزاعات والشعور بالخسارة وتغيير أفكاره المشوهة عن الذات والعالم.