في ذكرى تأسيسه: 16 عامًا من تجربة العدالة والتنمية
في الـ 14 من آب/أغسطس من عام 2001 أعلنت مجموعة بقيادة رجب طيب أردوغان تأسيس حزب العدالة والتنمية في تركيا، وهو الحزب الذي فاز في أول انتخابات شارك بها في 2002، ليشكل الحكومة منفردًا وليستمر في حكم تركيا حتى يومنا هذا.
ولئن كان تقييم تجربة ما زالت ماثلة ومستمرة يُعد ضربًا من المخاطرة، فإنه لا مناص ولا ضرر من تلمس بعض المحطات المهمة اليوم في مسيرة الحزب، الذي أصبح استثناءً في تاريخ تركيا الحديث من باب الاستقرار في الحكم وتراكم الإنجازات سواءً بسواء. كما أن إنجازاته المتعددة لا تنفي وجود أسئلة مهمة تشكل تحديات بارزة يحتاج للتفاعل معها والإجابة عنها.
لا شك أن الإنجاز الاقتصادي هو الأهم بالنسبة للعدالة والتنمية وهو أساس التجربة وعمودها الرئيس، وهو ما أمّن للحزب قاعدة شعبية التفت حوله ومنحته الاستمرارية ثم القدرة على إحداث التغيير في عدة مسارات. لكن العامل الاقتصادي ليس ضمن دائرة اهتمام هذه المادة التي ستحاول التركيز على السياسي والفكري والثقافي أكثر، بينما الأرقام المتعلقة بالدخل القومي ومتوسط دخل الفرد وسداد قرض صندوق النقد الدولي وغيرها من المؤشرات الاقتصادية متاحة، وقد كتب فيها الكثير.
الاستمرارية
قد يكون من الغريب أن نذكر استمرار الحزب في حكم تركيا منفردًا منذ نهايات 2002 كأحد أهم إنجازاته، لكن بالنظر إلى تاريخ الجمهورية التركية، فالحزب يمثل استثناءً كبيرًا، ليس فقط لجهة استمراره في الحكم منفردًا لـ 15 عامًا متواصلة، ولكن أيضًا لتزايد نسبة التصويت له بشكل مطرد في معظم المنافسات الانتخابية التي خاضها حتى الآن، سواء كانت رئاسية أم برلمانية أم محلية أم استفتاء شعبيًا، وهو الأمر الذي لا يتناسق مع ظاهرة تراجع التأييد المرتبطة بطول فترة الحكم وترهل البنى السياسية.
فباستثناء انتخابات حزيران/يونيو 2015 البرلمانية، التي فقد فيها العدالة والتنمية الأغلبية التي تخوله تشكيل الحكومة بمفرده، والتي أعيدت في تشرين الثاني/نوفمبر وأعادت له تلك الأغلبية، لم يواجه الحزب كثير عناء أو منافسة تذكر، ولعل ضعف المعارضة وتشتتها وغياب مشاريعها وبرامجها من ضمن عوامل استمرار الحزب الحاكم دون منافسة تذكر.
في تاريخ الجمهورية التركية الذي يمتاز بقصر عمر الحكومات واضطراب الحياة السياسية (معدل عمر الحكومة 16 شهرًا)، يمثل كل من عدنان مندريس وتورغوت أوزال استثناءَيْن نسبيَّيْن، لكنهما لا يقتربان مما وصل له العدالة والتنمية مع أردوغان، لا من حيث مكانة تركيا وقدراتها، ولا من حيث الاستقرار السياسي والاقتصادي ولا حتى من حيث الإنجازات والإصلاحات.
الإصلاحات
بدأت مسيرة الديمقراطية والحياة البرلمانية التركية منذ نهايات الدولة العثمانية، لكنها تعرضت لعدة انتكاسات أهمها الانقلابات العسكرية الأربعة، الانقلابان الدمويان في 1960 و1980 والانقلابان «الأبيضان» في 1971 و 1997، بحجة حماية مبادئ الجمهورية التي كانت تقع على عاتق المؤسسة العسكرية بنص المادة 35 من الدستور التركي المطبق حتى اليوم.
هذا الدستور كانت قد وضعته مجموعة انقلاب 1980، وأجرت عليه استفتاء شعبيًا في 1982، وتكفي نتيجة الموافقة عليه (%91.4) للتدليل على مدى ديمقراطيته وشرعيته وظروف تمريره، ورغم ذلك فلم تستطع الحكومات والبرلمانات والأحزاب المختلفة منذ ذلك الوقت التوافق على دستور مدني جديد للبلاد.
أجري على هذا الدستور «العسكري» 18 تعديلًا؛ تسعة منها في الفترة ما قبل العدالة والتنمية وتسعة أخرى في عهده، وهو مؤشر مهم على مدى اهتمام الحزب بالإصلاحات الديمقراطية والدستورية في ظل تعذر كتابة دستور جديد. ولعل أهم التعديلات الدستورية كان إقرار النظام الرئاسي في نيسان/أبريل الفائت، ويمكن اعتباره ذروة وثمرة جميع التعديلات السابقة، وبغض النظر عن النقد الذي طال بعض مواده الـ 18، إلا أنه لا خلاف على مساهمته الفاعلة في استقرار النظام السياسي في تركيا.
كما أن أكثر المجالات التي طالتها الإصلاحات الديمقراطية والدستورية في عهد العدالة والتنمية هو الملف الكردي الداخلي. فقد رأى الحزب في حل المشكلة الكردية في تركيا مشروعًا استراتيجيًا يقوي النسيج المجتمعي ويوقف استنزاف البلاد ويوصد الباب أمام التدخلات الخارجية، ولذلك فقد عمل على مسارات متوازية متزامنة أحيانًا ومتتالية أحيانًا أخرى، أهمها الإصلاحات القانونية والتنمية الاقتصادية وعملية الحل السياسي.
ولأن مساحة المقال لا تتسع لكل التفاصيل، قد تكفي هنا الإشارة على عجالة إلى حزمة الإصلاحات الديمقراطية التي أعلنها أردوغان في أيلول/سبتمبر 2013، والتي يمكن اعتبارها ثمرة سلسلة من حزم الإصلاح والتعديلات الدستورية والقانونية. فقد تضمنت الحزمة زيادة عقوبات جرائم العنصرية والتمييز على أساس العرق والمذهب والجنس واللغة «أسلوب الحياة»، والسماح للمدارس الخاصة بالتعليم بمختلف اللغات (المقصود بها الكردية تحديدًا) واللهجات، والسماح للأحزاب بالدعاية بلغات غير التركية، وفتح المجال لتغيير أسماء القرى لفتح المجال أمام تسميتها بالأسماء الكردية أو العلوية، وصولًا إلى منع «قـَسَم الطلاب» المطبق في المدارس الابتدائية والمتوسطة التركية منذ عام 1933، لأنه ينص على قول «أنا تركي».
الجيش والانقلابات
تعتبر المؤسَّسة العسكرية نفسها مؤسِّسة الجمهورية التركية الحديثة والمؤتمنة على مستقبلها، وقد نص دستور 1982 في المادة 35 منه على أن «حماية مبادئ الجمهورية» من مهام وصلاحيات المؤسسة، وقد كانت هذه المادة هي «المسوّغ الدستوري» للانقلابات العسكرية الأربعة التي نفذها الجيش ضد الحكومات المنتخبة.
هذه الوصاية على الحياة السياسية كانت من أهم العقبات أمام تركيا بشكل عام والعدالة والتنمية بشكل خاص، ولذلك فقد عمل الحزب بتدرج وهدوء لتقليم أظافر المؤسسة العسكرية وكف يدها عن التدخل في السياسة. على مدى سنوات طويلة، عدّل الحزب تركيبة وصلاحيات مجلس الأمن القومي -ذراع المؤسسة العسكرية الأبرز في الحياة السياسية- ليتحول إلى مؤسسة ذات أغلبية مدنية وقراراته بمثابة توصيات للحكومة فقط، كما عدَّل المادة 35 من الدستور لتكون صلاحيات المؤسسة العسكرية حماية البلاد من الأخطار الخارجية حصرًا، وأخيرًا عدَّل بنية مجلس الشورى العسكري الأعلى المختص بالترقيات والتقاعد في الجيش ليصبح أيضًا ذا أغلبية مدنية برئاسة رئيس الوزراء.
ومن أهم المحطات التي دفعت بالجيش التركي دفعًا إلى خارج حلبة السياسة قضايا التخطيط لانقلابات عسكرية مثل «أرغنكون» و«المطرقة» و«التجسس العسكري» التي حوكم فيها مئات الضباط وعلى رأسهم رئيس الأركان الأسبق إلكر باشبوغ، الذي حكم عليه بالسجن المؤبد، قبل أن تذهب هذه القضايا أدراج الرياح أو تكاد بعد أن اتضح أن قسمًا لا يستهان به من الأدلة لفقتها جماعة كولن لضمان عزل عدد كبير من قيادات الجيش والرتب العليا لترفيع أنصارها لملء مناصبهم الشاغرة، وقد كان.
بيد أن المحطة الأبرز حتى الآن على صعيد ضبط العلاقات المدنية-العسكرية في تركيا في عهد العدالة والتنمية تبقى المحاولة الانقلابية الفاشلة في يوليو/تموز 2016، التي كان لأردوغان والحزب والحكومة أدوار بارزة في إفشالها، والتي قلبت على ما يبدو صفحة الانقلابات في كتاب الجمهورية التركية حتى حين وجعلت من مجرد الفكرة مغامرة تحتاج لإعادة التفكير ألف مرة وحشرت المؤسسة العسكرية في زاوية الحاجة لتبرئة النفس وتحسين الصورة.
السياسة الخارجية
في بداياته الأولى، رفع العدالة والتنمية شعار مكافحة ثلاثة أشياء؛ الفقر والفساد والمحظورات، وقد نجح وبرز أكثر ما نجح في ثلاثة مجالات؛ الاقتصاد والإصلاحات والسياسة الخارجية.
بنى الحزب سياسته الخارجية في سنواته الأولى على أساس القوة الناعمة وأدواتها التجارية والاقتصادية والثقافية والفكرية والفنية على قاعدة الربح للجميع، ونجح في ذلك إلى حد بعيد حتى عام 2011 مسترشدًا بنظريات «الخوجا» أحمد داود أوغلو خصوصًا «تصفير المشاكل».
بيد أن الثورات العربية التي تزامنت مع وصول الحزب داخليًا لذروة قوته وشعبيته دفعت تركيا لسياسة خارجية أقل تحفظًا وحيادية، وأكثر نشاطًا ومبادرة وانخراطًا في قضايا المنطقة، رهانًا على موجة التغيير التي قد تؤسس لنظام إقليمي جديد، تكون لأنقرة فيه الريادة ويكون لها فيه شركاء وأصدقاء، الأمر الذي ألقى بها في قلب حالة الاستقطاب العربية.
ولكن، مع انكفاء الموجة الأولى من الثورات العربية واستعصاء الحل في سوريا تحديدًا، وتزامن الأزمات وتراكمها على تركيا، اضطرت الأخيرة لتعديل بوصلة سياستها الخارجية مرة أخرى رافعة شعار «تعظيم عدد الأصدقاء وتقليل عدد الخصوم» مع حكومة بن علي يلدرم في 2016.
بيد أننا نلحظ نزوعًا واضحًا في السنوات الأخيرة لرفد القوة الناعمة التي كانت عماد سياسة أنقرة الخارجية حصرًا بشيء من القوة الخشنة،تتبدى أمثلتها في الاهتمام الخاص بالصناعات العسكرية المحلية، والقواعد العسكرية التركية في العراق (بعشيقة) وقطر (الريان) والصومال، وعملية درع الفرات العسكرية في شمال سوريا، وغيرها.
اليوم، أضحت تركيا واحة للاستقرار في منطقة لاهبة متقلبة الأوضاع، وتبدو وقد تخطت الأزمة الاقتصادية العالمية وارتداداتها اللاحقة رغم الأزمات العديدة في الداخل والخارج، وتتمتع سياستها الخارجية بشيء من المرونة التي تمكنها من المناورة واللعب على الهوامش ومحاولة التوازن والفعل قدر الإمكان. لكن كل ذلك لا يعني أن مسيرة تركيا نحو أهداف عام 2023، التي تبدو اقتصادية في الأساس وهلامية أحيانًا كثيرة، بلا عقبات أو تحديات.
تحتاج تركيا العدالة والتنمية إلى الإجابة على عدة أسئلة تمثل تحديات مهمة أمامها مستقبلًا، وأهمها:
سؤال الخلافة
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في طريقه لإلقاء خطاب جماهيري في مطار إسطنبول صبيحة ليلة الانقلاب العسكري الفاشل – إسطنبول – تركيا 16 يوليو/تموز 2016. (مصدر الصورة: Elif Öztürk – Anadolu Agency)
يملك أردوغان من السمات الشخصية والصفات القيادية والمهارات المختلفة ما جعله أكثر من رئيس لحزب حاكم وقائد لحركة سياسية، ليصبح صانع التغيير ورمز «تركيا الجديدة»، وقد راكم مع حزبه وحكوماته خلال السنوات الماضية إنجازات كثيرة كان له فيها فضل كبير.
اليوم، تبدو زعامة أردوغان بلا مهدد أو منافس، ليقود الحزب والحكومة والدولة خصوصًا بعد إقرار التعديل الدستوري المشتمل على الانتقال للنظام الرئاسي ثم عودته لرئاسة حزب العدالة والتنمية بعد أن تركه -اضطرارًا واستجابةً للدستور- إثر انتخابه رئيسًا في 2014. ومع انتظار بدء تطبيق النظام الرئاسي في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، سيكون الرجل أبرز المرشحين للرئاسة ولن يجد الحزب أجدر وأقوى منه ليمثله ويقوده في تلك الانتخابات وما بعدها.
بيد أن المركزية التي يدير بها أردوغان الحزب والحكومة، والتي كان لها فوائدها في عدد من القضايا والأزمات، تحرم تركيا والحزب من بعض الكفاءات، بحيث بات أردوغان اليوم الوحيد المتبقي في دوائر الحزب القيادية من بين القيادات المؤسِّسة بعد ابتعاد غل وأرنيتش وباباجان وداود أوغلو وآخرين. وهو أمر يشكل تحديًا مهمًا لمرحلة ما بعد أردوغان، يحتاج الحزب للإجابة عليها من الآن، خصوصًا في ظل النظام الرئاسي الذي ستشكل فيه المزايا الشخصية والقيادية للمرشحين -وليس للأحزاب- أهم معايير الانتخاب لقيادة تركيا.
إن تجربة كل من حزب الوطن الأم وحزب الطريق القويم بعد أوزال ودميريل على التوالي ما تزال ماثلة أمام العدالة والتنمية، ولعلها من الأسباب التي تدعوه لتجنب أي خلافات أو نقاشات داخلية قد تضعف وحدته وتماسكه، لكنها أيضًا ينبغي أن تدعوه للتفكير في المستقبل وضمان وجود وبقاء القيادات القادرة على جمع الحزب وتوحيده وقيادته مستقبلًا حين يترك أردوغان السياسة.
سؤال الأكراد
رغم كل ما قدمه الحزب بقيادة أردوغان في سبيل حل المشكلة الكردية الداخلية، والتي كان كثير منها بمثابة مغامرات في بيئة غير مشجعة في حينها، إلا أن عملية التسوية تعاني جمودًا كبيرًا اليوم، ومنذ استثناف العمال الكردستاني لعملياته العسكرية في يوليو/تموز 2015 وعودة التصعيد بينه وبين الحكومة التركية، كما أن الأجواء السياسية ليست مشجعة جدًا في ظل ملاحقة وتوقيف قيادات حزب الشعوب الديمقراطي، الذراع السياسية للكردستاني.
لكن كل ذلك لا يلغي الحاجة الماسة لحل هذه المشكلة لما سبق ذكره من أهميتها ومحوريتها وخطورتها على حد سواء. ولذا، تحتاج الحكومة التركية للعودة إلى مسار الحل السياسي بعد أن كسرت إلى حد بعيد شوكة الكردستاني وأفشلت مشروع الإدارات الذاتية في مناطق الأغلبية الكردية شرق وجنوب شرق البلاد، مع تفهم الحاجة لتعديل العنوان والمسار وبعض الفاعلين. خصوصًا أن التطورات في سوريا والعراق تشي بانعكاسات سلبية على الملف الكردي الداخلي، الأمر الذي يزيد من مسئولية الحكومة التركية في هذا الملف، ولعلها قدمت بعض الإشارات على استعدادها لذلك عبر بعض التصريحات وأجواء ما بعد الاستفتاء الشعبي، سيما التركيبة الجديدة للهيئات القيادية لحزب العدالة والتنمية في مؤتمره العام الأخير.
سؤال الحريات
لا يختلف اثنان على أن تركيا تمر حاليًا بظروف استثنائية. فقد تزامنت وتراكمت عليها الأزمات والمهددات في الداخل والخارج، من العمال الكردستاني إلى داعش إلى حزب الاتحاد الديمقراطي وأذرعه العسكرية في سوريا إلى الكيان الموازي، إلى التطورات في كل من سوريا والعراق، إلى التوتر في علاقاتها الخارجية مع كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
فوق كل هذا وإضافة عليه، أتت المحاولة الانقلابية الفاشلة العام الفائت لتزيد الأمور تأزيمًا، إذ كشفت عن اختراقات كبيرة في مؤسسات الدولة المختلفة استدعت إعادة هيكلة و«تطهير»، كما رسخت القناعة بضرورة انتهاج أسلوب مختلف وجذري في مكافحة ما اصطلح على تسميته بالكيان الموازي أي الجهات القيادية والمتنفذة في جماعة كولن المتهمة بالوقوف خلف الانقلاب الفاشل.
في حصيلة سنة كاملة بعد الانقلاب تبدو الأرقام كبيرة ومقلقة، إذ يدور الحديث عن عشرات الآلاف من الموقوفين للتحقيق وأكثر من 110 آلاف من الموقوفين عن أعمالهم في القطاع الحكومي مؤقتًا لاستكمال التحقيق معهم. وهي أرقام يبدو لي أنها نتاج أربعة عوامل رئيسة؛ خطورة الانقلاب واستشعار ضرورة مواجهته بحزم وسرعة، ومدى تغلغل جماعة كولن في مؤسسات الدولة، وبعض القوانين والمواد في دستور 1982، وحرص الحكومة على سرعة وحزم الإجراءات لضمان عدم تكرر المحاولة الانقلابية في ظل تصريحات وتهديدات بشيء من هذا القبيل.
ورغم هذا، تبقى الأرقام كبيرة ومقلقة بحد ذاتها، وتـُبقي أبواب الضغط على أنقرة خصوصًا من الاتحاد الأوروبي مفتوحة على مصراعيها من جهة أخرى، ويظل احتمال الأخطاء والتجاوزات قائمًا باعتراف الساسة الأتراك. ولذلك فقد عمدت الحكومة لإنشاء لجنة للتظلم من الإجراءات الحكومية بعد الانقلاب تحت اسم «لجنة التحقيق في إجراءات حالة الطوارئ» التي بدأت عملها في 17 يوليو/تموز الفائت، واستقبلت في اليوم الأول أكثر من 3000 شكوى وتوقَّع لها الناطق السابق باسم الحكومة نعمان كورتلموش أن تصل لحوالي 120 ألف تظلم.
يعني ذلك أن الحكومة تحتاج للتعامل بسرعة وشفافية مع هذا الملف، بحيث تسرّع العملية القضائية لإثبات التهمة على المذنبين وإخلاء سبيل من لا يثبت تورطه، وتعود للقوانين الاعتيادية في أسرع وقت، خروجًا من حالة الطوارئ (لمّح أردوغان إلى قرب ذلك مؤخرًا)، وتجترح آلية للتعامل مع من لا يثبت عليهم جرم من المتعاطفين السابقين مع جماعة كولن لإكسابهم للمجتمع والدولة واحتوائهم بعيدًا عن الجماعة.
في الختام، ما زالت تجربة العدالة والتنتمية في تركيا ماثلة ومتفاعلة ومستمرة وتنتقل من مرحلة إلى أخرى، الأمر الذي يغري بمزيد من الدراسة والتحليل. ولئن قدمنا بين يدي هذه السطور تقييمًا لبعض أهم منجزات الحزب وبعض أهم التحديات الماثلة أمامه، إلا أننا نعترف مسبقًا بقصور المادة عن الإحاطة بالملف بكامله (ولا تدّعي المادة ولا كاتبها ذلك)، وإنما كانت أمثلة على سبيل المثال لا الحصر وعلى صعيد الرأي لا الجزم.
وتبقى المرحلة القادمة على مدى السنوات المقبلة على قدر عال من الأهمية، على صعيد مواجهة التحديات، وعلى مستوى بدء سريان النظام الرئاسي، وكذلك في سبيل تحقيق مشروع «تركيا 2023» الذي يستحق أن يُفرد بمقال خاص به، قريبًا إن شاء الله.