«عمر المختار»: أسد الجبل الأخضر
القائد الإيطالي الجنرال «جراسياني» متحدثًا عن «عمر المختار» في مذكراته «برقة الهادئة»
في البدء كانت «السنوسية»
تأسّست السنوسية على يد «محمد بن علي السنوسي» كحركة إصلاحية إحيائية تجديدية تستهدف العودة بالإسلام إلى أصوله الأولى، عبر وحدة العقيدة، وتحكيم الكتاب والسنة، وتصحيح المَسلك التربوي والصوفي والدعوي، وصدق الانتماء إلى الإسلام، وتحقيق الأخوة بين أفراد المجتمع.
أسّس السنوسي قرابة 20 زاوية في برقة وما حولها، اختار لها مواقعَ استراتيجية (بمميزات عسكرية وسياسية واقتصادية)، تتقارب فيما بينها، وكان تصميم كل زاوية يشبه القلعة ليسهل الدفاع عنها. وفيما بعد، اختار «الجغبوب» مركزًا لحركته، باعتبارها موقعًا صحراويًا خارج قبضة العثمانيين والفرنسيين والمصريين، وتقع على خط الحج الرئيسي القادم كم شمال أفريقيا الغربي عبر مصر إلى مكة.
وقد طوّر ابن السنوسي مفهوم الزوايا باعتبارها نسقًا تنظيميًا مركزيًا يقوم بأدوار التعليم والتربية والتطوير الحِرفي والمهنى، والإصلاح الاجتماعي، والنشاط التجاري والزراعي والعسكري، مما جعلها تشكّل نواةً لمجتمع تحكمه سلطة وعليه واجبات اجتماعية واقتصادية وسياسية ودعوية وجهادية، ووفّرت شبكة إدارة محلية ساعدت على حفظ الأمن وتوطيد العلاقات بين القبائل وتأمين تجارة القوافل.
وبعد مبايعة ابنه «محمد المهدي» خلفا له على رأس الحركة، في 1859م، طوّر الجغبوب كعاصمة للحركة، وانتظم العمل في معهدها العلمي، وتضاعف عدد الزوايا أربعة أضعاف تقريبًا، وأخذت أبعادًا أكثر دقة وانتظامًا، وانضافت إليها مهام أخرى كالبريد والاستخبارات، وتوسّع انتشارها إلى تشاد والنيجر ومالي ونيجيريا والكونغو والكاميرون والحبشة، الأمر الذي شكّل عائقا مستمرًا أما نشاطات التبشير المسيحي في وسط أفريقيا وغربها، ودفع ببعض البلاد أوروبية كفرنسا لاتخاذ ضغوط دعائية وسياسية للتحجيم من نشاطات السنوسية.
وفي أواسط عام 1902م، بويع ابن أخيه «أحمد الشريف» على رأس الحركة، وانتقل بعاصمة الحركة إلى الكَفرة، وشكّل جبهةً لمقاومة الغزو الفرنسي الزاحف من جنوب تشاد، قبل أن يتمكّن الفرنسيون من السيطرة على تشاد كاملة.
كانت إيطاليا قد بدأت باستهداف ليبيا على مهلٍ وتؤدة، من خلال توطين المؤسسات الخدمية التابعة لها كالمدارس والبنوك وخطوط المواصلات والمؤسسات الخيرية والبعثات الاستكشافية الجغرافية والتجارية وما شابه، ثم محاولة انتزاع الاعتراف الدبلوماسي بأطماعها في احتلال ليبيا، قبل أن تأتي اللحظة الحاسمة لإعلان الحرب والاحتلال الفعلي لها، بأمرٍ من الملك الإيطالي «فيكتور عموئيل الثالث».
وكان أن أسّست الحركة السنوسية أربعة معسكرات كبرى تابعة لها للمشاركة في مقاومة الاحتلال الإيطالي، كان أبرزها في طرابلس ومصراتة، بخلاف تواجدها العسكري المسبَق في برقة وبنغازي وغيرها. ونزل رئيس الحركة أحمد الشريف بنفسه إلى ميادين القتال، بعد إعلان الحركة رفضها لمعاهدة الصلح بين العثمانيين والاحتلال الإيطالي 1913م، وجرت معارك وحملات ضارية متبادلة بين الاحتلال الإيطالي والمقاومة الليبية بقيادة السنوسية، تكبّدت فيها إيطاليا خسائر متتالية.
كان هذا قبل أن تندلع الحرب العالمية الأولى، وتعمل عدّة جهات دولية وعربية طوال الحرب على توريطه في مواجهات وخيارات ضارّة منها اشتراكه مع الأتراك والألمان ضد بريطانيا، عادت بالسلب الشديد على المقاومة، الأمر الذي مهّد لظهور ابن عمه الأمير محمد إدريس بن محمد المهدي السنوسي في صدارة الأحداث ابتداءً من 1916م، ثم توليه الحركة وقيادة المقاومة المنقسمة، وإعلانه الانسحاب من الحرب ضد بريطانيا وإيطاليا، حفاظًا على الحركة، وإقامته لحكومة وطنية عاصمتها إجدابيا في 1917م، واختاره زعماء القبائل الليبية أميرًا على البلاد في 1922م.
السنوسية حاضنة «عمر المختار»
وُلد عمر المختار عام 1862م، في فترة رئاسة محمد المهدي للحركة السنوسية. وبعد وفاة أبيه في رحلة الحج، التحق عمر بزاوية جنزور بشرق طبرق، ثم انضمّ للدراسة في معهد جغبوب لمدة 8 سنوات متعلّمًا ومتربيًا، وعُرف بنبوغه ونباهته وتفانيه، واكتسب معرفة واسعة بطبائع القبائل وعاداتهم وأنسابهم، وبالبيئة الصحراوية ومسالكها وطرقها وحيواناتها ونباتاتها.
اشتهرت سُمعة المختار في الحركة برسوخ الخلفية العلمية الشرعية لديه، وحسن السيرة والسلوك، والإسهام الاجتماعي الفعّال، فقرّبه محمد المهدي منه، واصطحبه في رحلاته، وفي عام 1897م صدر قرارا بتعيينه شيخًا لزاوية القصور بالجبل الأخضر، بأرض قبيلة العبيد المعروفة بقوة الشكيمة وشدة المراس، وكانت تجربة شديدة الصعوبة والثراء، طبّق من خلالها رؤيته فعلّم الناس أمور دينهم وساهم في فضّ النزاعات بين القبائل وعمل على جمع كلمتهم وسعى في مصالحهم، وسار في الناس بسيرة حميدة، فظهر في شخصيته أخلاق الدعاة من الحلم والتأني والصبر والرفق والعلم والزهد، وظهر جليًا ما انطوى عليه ونقله لأتباعه من زادٍ علمي وثقافة متميزة وتفوق روحي ورجاحة عقل وقوة حجة ورحابة صدر وسماحة نفس، مع الحرص على تعلّم العمل والعمل به.
كان للحركة السنوسية مشاركات مبكّرة في المقاومة ضدّ الاحتلال الأجنبي لبلاد المغرب العربي؛ وقد اتهمتها فرنسا صراحة بمسئوليتها عن عن ثورة «محمد بن عبد الله» في تلمسان وصحراء الجزائر (1848 – 1861م)، وعصيان «محمد بن تكوك» في الظهرا عام 1881م، وغيرها. وقد اتصل بها «أحمد عرابي» أثناء الثورة العرابية بمصر 1882م، طالبا المدد، غير أن موقف السنوسية من حركة عرابي كان سلبيًا لأنهم اعتبروها ثورة غير مدروسة، الأمر ذاته تكرّر مع ثورة أحمد المهدي في السودان.
لذا، مع زحف الاستعمار الفرنسي على مراكز الحركة السنوسية في تشاد في 1902م، ردّت الحركة بالمقاومة سريعًا، وأُرسِل عمر المختار للانضمام لقيادات المقاومة، وأظهر شجاعة وبسالة نادرة في القيادة واتخاذ القرار، ما جعل زعيم الحركة يصرّح: «لو كان لدينا عشرة مثل المختار لاكتفينا». وعاد المختار في 1906م إلى زاويته بالجبل الأخضر، ثم انضمّ للمعارك الضارية بين الحركة السنوسية وبريطانيا على الحدود المصرية في 1908م.
وفور اندلاع الحرب الليبية الإيطالية في 1911م، حشد عمر المختار كلّ من كان صالحا للقتال من قبائل العبيد التابعة لزاويته، وكانوا ألف مقاتل، وسلّحهم، وانطلق به إلى معسكر بنينة، ومنذ ذلك الحين بدأت شهرته كقائد عسكريٍ متفوّق بالفِطرة، جعلت الأتراك يقارنون بينه وبين القادة المتخرّجين من الكليات العسكرية.
وظلّ عمر المختار على ولائه وانتمائه للحركة السنوسية على امتداد مراحلها، رغم مخالفته لها في احد أهم القرارات في نهاية حياته، وقد أكّد هذا في زيارته لمصر للقاء زعيمه «إدريس السنوسي»، عام 1923م، رافضًا العرض الإيطالي بطلب الاستسلام وقطع علاقته مع زعيمه، قائلاً: «إنني أعرف أن قيمتي في بلادي – إذا ما كانت لي قيمة أنا وأمثالي-، فإنها مستمّدة من السنوسية».
واتفق عمر المختار مع إدريس السنوسي على تفاصيل العمل المُقاوِم، وتشكيلات المعسكرات، واختيار القيادات، وتموين وتسليح وإمدادات المقاتلين، وتنظيم خطوط الهجرة واللجوء بين الأراضي الليبية والمصرية، على أن تكون القيادة العُليا لكل ذلك موكّلة بعمر المختار.
أسد الجبل الأخضر
لم تكن خبرة عمر المختار العسكرية محدودة أو هيّنة؛ فقد شارك على مدار أعوام متتابعة كقائدٍ في معارك المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي لتشاد، ثم ضد القوات البريطانية على الحدود المصرية الليبية، وأخيرًا ضد الاحتلال الليبي لإيطاليا، قائدًا لتشكيلاتٍ داخل المقاومة، ثم قائدًا عامًا للمقاومة، بعد أن اتخذ من الجبل الأخضر مركزا لمعسكرات المقاومة، واعتمد تراتبية النظام العسكري العثماني في التنظيم والترقيات.
وقد كان سلوك المختار على المستويين التكتيكي ثم العملياتي لافتًا، إذ تنوّعت تكتيكاته في مواجهاته الأولى مع الاحتلال الإيطالي، متخّذةً نسقًا متقدّمًا من أنساق حرب العصابات؛ فكانت معسكرات المقاومة تتمركز قريبة من نواجع الأهالي حتى يسهل على المختار وقواته الحصول على التمويل والذخائر والمؤن، وكانت تكتيكات المختار تعتمد على التزام الدفاع والتربص بالعدو واستدراجه والانقضاض عليه.
ولكن، وفقًا للمستجدات التي طرأت على مسرح العمليات؛ انتقل المختار إلى تكتيكات أخرى على المستوى العملياتي، فبعد أن قام الاحتلال الإيطالي بحشر القبائل في المعتقلات الجماعية غيّر المختار خطته، وبدأ الاتصال مع الأسواق المصرية عبر الحدود ليرسل إليها ما يغنمه المجاهدون من حيوانات ومتاع، ويستبقي لجيشه ما يلزمه من النفقات، واعتمد دروبًا سرية للإمداد مع إنشاء مستودعات سرية في الواحات البحرية والفرافرة وسيوة.
كذلك، اعتمد المختار على الهجوم المكثّف على معسكرات وفرق الاحتلال الإيطالي باستغلال عنصر المباغتة، وركن إلى مفاجأة القوات الإيطالية بعد كشفها والاستطلاع عليها في أماكن متفرقة، وخاض في هذه المرحلة فقط 263 معركة في مدة لا تتجاوز عشرين شهرًا. وكان متميزًا في إفساد خطط الإيطاليين وبسرعة تنقله بحيث لا يمكن تحديد موقعه لتسديد الضربات له ولجنوده.
وقد انعكست خبرته القيادية في الزاوية والميدان العسكري، على رؤيته السياسية، التي ارتبطت بمبدأ شَرطي، وهو «استعادة الحقوق في حدّها الأدنى» (شرعية وثقافية واجتماعية وهويّاتية وتاريخية) مهما كلّفه ذلك الأمر. وقد ظهر تطبيقه لهذا المبدأ في قيامه بواجب الجهاد والمقاومة ضد الفرنسيين ثم البريطانيين ثم ضد الإيطاليين، وفي عدم التزامه بطاعة القيادة السنوسية بشروط التفاوض المهينة مع الاحتلال الإيطالي، رغم بيعته لها.
ثم ظهر في سلوكه مسار المفاوضات السياسية عندما دعاه الإيطاليون إلى المفاوضات السياسية، حيث لبّى الدعوة بمجرد وصولها إليه، وبذل من ناحيته كل ما يمكن بذله في سبيل الوصول إلى تفاهم لا يتنازل فيه عن الحدّ الأدني من الشروط الأولية التي وضعها، وقبِل مدّ أجل الهدنة رغم علمه أن إيطاليا تريد كسب وقت لا أكثر، وظلّ منتظرًا جواب الإيطاليين حتى آخر لحظة، ولمّا لَم يُجدِ هذا المسار عاد من فوره إلى المسار العسكري الميداني.
وفي العاشر من سبتمبر/أيلول 1931م، وقع عمر المختار في الأسر بعد إصابته في مواجهات بالجبل الأخضر مع القوات الإيطالية، وتم نقله في الطراد الحربي «أورسيني» إلى بنغازي، ونقل في حراسة مشدّدة إلى سجن بنغازي، وأعدّت له محاكمة صورية في 15 سبتمبر/أيلول، استمرّت ساعة وربع الساعة، ونُفّذ فيه حُكم الإعدام شنقًا صباح اليوم التالي.
التايمز البريطانية، مقالة «انتصار إيطالي»، بتاريخ 17 سبتمبر 1931م
أخيرًا، وفي ذكرى إعدامه على أيدي الاحتلال الإيطالي، الأربعاء 16 سبتمبر/أيلول 1931م، شنقًا بمنطقة سلوق جنوب بنغازي:
- تاريخ الحركة السنوسية في أفريقيا، د. علي محمد الصلابي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثالثة، 2009م.
- لثمار الزكية للحركة السنوسية في ليبيا، ج2، د. علي محمد الصلابي، مكتبة التابعين، القاهرة، الطبعة الأولى، 2001م.
- عمر المختار: الحلقة الأخيرة من الجهاد الوطني في ليبيا، الطاهر أحمد الزاوي، دار المدار الإسلامي، بنغازي ليبيا، الطبعة الثانية، 2004م.
- الشيخ الجليل عمر المختار: نشأته وأعماله واستشهاده، د. علي محمد الصلابي، المكتبة العصرية، بيروت، بدون تاريخ.
- عمر المختار شهيد الإسلام وأسد الصحراء، محمد محمود إسماعيل، مكتبة القرآن للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، 1992م.