الاستبداد العربي: عمر البشير يخط صفحة جديدة في كتابه
وترى الحكام العرب الذين تثور عليهم شعوبهم وجوههم مسودة، هذا كان حال «عمر البشير» وهو يلقي خطابه الثالث في مواجهة ثورة شعبه واحتجاجه ضد حكم يستمر لمدة ثلاثين عامًا، الشباب السوداني الذي بلغ عمره الثلاثين عامًا والذي يتظاهر اليوم مضحيًا بحياته لم ير وجهًا لرئيس غير هذا الرئيس ولم يسمع خطابًا مختلفًا عن خطاباته، لقد بلغت روحه الحلقوم، كان يود أن يرى وجهًا جديدًا وخطابًا مختلفًا ورئيسًا يلبي طموحاته وآماله.
كان البشير يقول، إنه يتابع كل ما يُكتب عنه في مواقع التواصل الاجتماعي، ويكتفي بالسخرية منه والضحك على موقعيه وكاتبيه، وهذا يذكر في الحقيقة بما قاله سلفه في مصر مبارك في عامه الأخير قبل ثورة الشباب في يناير 2011 – كان يقول: «خليهم يتسلوا».
في خطابيه السابقين اللذين ألقاهما:
الأول في 25 ديسمبر/ كانون الأول الماضي عقب الاحتجاجات التي انفجرت في 19 من الشهر ذاته – استخدم الآيات القرآنية الكريمة: «وفي السماء رزقكم وما توعدون»، و«أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء»، واستهل الخطاب في الجموع الحاشدة المهللة المكبرة بقوله «أكثروا من الله أكبر ولا إله إلا الله، فإن تكثير التكبير والتسبيح يغيظ شياطين الإنس والجن»، ووصف الخارجين عليه المطالبين بسقوطه بأنهم «مخربون مرتزقة عاطلون غير منتجين».
الثاني في 31 من ديسمبر/ كانون الأول، أي بعد أيام عدة من خطابه الأول، ذكر فيه استشهادًا بقوله تعالى: «ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب»، وهو ما اعُتبر تحريضًا على قتل المتظاهرين والتنكيل بهم، وفي التقارير الرسمية فإن القتلى الذين قُتلوا في هذه الاحتجاجات الغاضبة الثورية بلغوا 32 قتيلًا، بينما تتحدث التقارير غير الرسمية عن 60 قتيلًا، هذا فضلًا عن المعتقلين في أقبية السجون ومقار الاحتجاز والذين يتعرضون للتعذيب والتخويف والإهانة.
في خطابه الأخير يتراجع الرئيس خطوة إلى الوراء منحنيًا لعاصفة الاحتجاجات المستمرة التي لم تتوقف لمدة شهرين كاملين وتبدأ شهرها الثالث، الرئيس يعلن فقط أنه طلب من البرلمان تأجيل البحث في التعديلات الدستورية التي كانت تمنحه مزيدًا من الوقت للبقاء في رئاسة استمرت ثلاثين عامًا دون أن تنجز شيئًا سوى قبض الريح وتقسيم البلاد وإفقارها وفرض الحصار عليها، حتى أصبح القوت اليومي للمواطنين حلمًا بعيد المنال، وحتى أصبح الحصول على «الفلوس الكاش» هدفًا صعب التحقيق، وبدا النظام السياسي ورئيسه معًا عاجزين عن تحقيق أي تقدم في حل المشكلة الاقتصادية أو توفير الحاجات الضرورية للجماهير والناس بما في ذلك حتى لقمة العيش، فخرج الناس شاهرين أصواتهم بالاحتجاج حاملين أرواحهم على أكفّهم متحملين فقدانها خيرًا من عيش لا كرامة فيه.
وفي خطابه الذي يبدو مرجحًا – أنه ربما يكون الأخير قبل رحيله عن السلطة تحت ضغط الشعب ومطالبه الذي رفعها مختصرة مركزة في شعار «تسقط بس»، أعلن البشير أنه ينسحب من رئاسته لحزب المؤتمر الشعبي الحاكم ويصبح رئيسًا قوميًا للبلاد حكمًا أعلى على مسافة واحدة من كل القوى – بالعدل كما قال في خطابه- ثم أعلن عن حالة الطوارئ لمدة عام في البلاد جميعًا، وحل الحكومة وحكومة الولايات كلها، وهو ما يشير فيما بين السطور إلى أن شباب حزب المؤتمر الحاكم تعاطف مع مطالب الجماهير وهدد بالنزول مع الناس في الشارع وهو ما أرغم الرئيس على عدم الإنكار وإعلان تفهمه لمطالب الشعب والجماهير واتخاذ خطوات تبدو سياسية لفتح أفق جديد في أوعية قديمة، وقد أشار إلى الشباب وأنهم غير ممكنين أو ممثلين بشكل كاف في الأحزاب أو في العملية السياسية الرسمية ذاتها.
يشبه خطاب البشير هذا الخطاب الثاني لمبارك في مصر والذي ألقاه في مطلع شهر فبراير/ شباط بعد أقل من ستة أيام على تفجر المظاهرات الشبابية في 25 يناير/ كانون الثاني وكان قد سبقه بخطاب في يوم 28 يناير/ كانون الثاني، وفي هذا الخطاب الثاني تحدث عن الاستقرار وعن القضاء على البطالة وعن أن المظاهرات ما كانت لتحدث لولا أن هناك فرصة متاحة للتعبير واعتبر من سقطوا ضحايا وليسوا شهداء، أما خطابه الأخير، والذي بدا فيه خائر القوى زائغ العينين وألقاه في 10 فبراير/ شباط فقد أعلن خلاله أنه لن يترشح من جديد، وأنه يعدل الدستور بما يسمح بتداول السلطة والإشراف القضائي على الانتخابات وتشكيل لجنة لمتابعة الالتزام بتنفيذ ما أعلنه بحيث يمكن الانتقال السلمي للسلطة، بيد أن هذه الخطابات تأتي متأخرة بعد أن تكون الثورة قد جاوزت نقطة التراجع عن مطالبها بذهاب الديكتاتور.
أي أن خطاب البشير لم يرق لمستوى الخطاب الأخير لمبارك قبل أن يسقطه الشعب من السلطة، وهو جاء متأخرًا كما لم يأت بتنازلات محددة أو تغييرات واضحة في هيكل السلطة تتعلق بالدستور أو بالقطع بعدم ترشحه للرئاسة، وإنما مجرد التأجيل عن البحث في نقاش التمديد له.
ومن قبل مبارك، كان زين العابدين بن علي، بعد ثورة شعبه عليه في تونس، حين خرج للشعب بعد 29 يومًا من بدء ثورته يقول لهم: «لقد فهمتكم، فهم العاطلين والمتبطلين، وفهمت مطالب الشعب بالحرية والديموقراطية والتعددية»، بعد حكم دام ثلاثة وعشرين عامًا، لقد كان فهم الديكتاتور متأخرًا إلى حد أنه لم يعلن أنه فهم شعبه إلا قبل هروبه معزولًا مدحورًا مذءومًا بيوم واحد يوم 14 يناير/ كانون الثاني 2011 بعد فترة حكم امتدت لثلاثة وعشرين عامًا.
والقذافي في خطابه الشهير عقب أحداث فبراير/ شباط، قال عن الثوار عليه بأنهم «جرذان وجراثيم ومشاغبون يتعاطون الحبوب المخدرة، وبأنهم مقملون ممسخون يتبعون عملاء المخابرات الأجنبية، والدراوشة الملتحين، وبأنه سوف يستخدم القوة ويقاتل حتى آخر قطرة من دمه وأنه صخرة صماء، وسنزحف عليهم بالملايين دار دار وزنقة زنقة وفرد فرد حتى تتطهر البلد من الرجس والأنجاس..».
حكم القذافي لمدة 42 عامًا وحكم مبارك لمدة ثلاثين عامًا وحكم ابن علي لمدة ثلاثة وعشرين عامًا، بينما يحكم البشير منذ ثلاثين عامًا، وترك القذافي الحكم مقتولًا وعمره 69 عامًا، بينما تركه مبارك معزولًا وعمره 83عامًا، بينما تركه حاكم تونس الهارب وعمره 75 عامًا، وبينما لا يزال البشير متمسكًا بأهداب الكرسي وتلابيب السلطة وعمره 75 عامًا.
كتاب المستبدين سيرته واحدة كأنهم يسيرون على نفس الأسطر ويكتبون نفس الخطوات ويتحدثون اللغة ذاتها، يأتون متأخرين لا يحسنون فهم شعوبهم، يظنونها راضية طالما هي صامتة فإذا نطقت وتحركت أصابتهم الدهشة وامتلكهم الذهول ونظروا لشعوبهم وكأنهم يتوعدونهم ويستحلفون لهم، وكأنهم يقولون لهم أنتم فقط للحكم وليس للنطق، أنتم فقط للطاعة وليس للمراجعة، أنتم فقط مأمورون فما بالكم تتذمرون وتغضبون، ثم لا تلبثون إلا يسيرًا فتخرجون إلى الشوارع مطالبين برحيلنا وترك ما قد صار حقًا ثابتًا لنا، بطول العهد والأيام ومع النسيان.
والشعوب كتابها واحد أيضًا، تصمت وتكتم ثم إذا غضبت وقامت بعد طول صبر وكتمان وحرمان فإن أحدًا لا يرد قومتها، ولا بد لمن استخفوا بهم أن يخاطبوها مراوغين مداهنين آملين أن يمتصوا غضبتهم أو يدفعوا قومتهم، ولكن ولات حين مناص.