السياسة الخارجية العُمانية: السمات والمستقبل
أبرز سمات السياسة العُمانية
يمكن القول بأن السياسة العُمانية طوال العقود السابقة، خصوصاً منذ وصول السلطان قابوس بن سعيد إلى الحكم في 1970 بعدة سمات جعلت من السلطنة نموذجاً فريداً في المنطقة، ويمكن تلخيص أهم هذه السمات في النقاط التالية:
–الجنوح إلى السلام والمفاوضات والبعد عن لغة التهديد والصدام، فقد لعبت السلطنة أدواراً كبيرة في تقريب وجهات النظر أثناء الصراعات التي شهدتها المنطقة، كما حدث في محاولات التهدئة و الوساطة أثناء الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي. بل وتتبع عُمان هذا الأسلوب أيضاً في التعامل مع القضايا المصيرية في المنطقة، كالصراع العربي الإسرائيلي؛ فقد جاء الموقف العُماني، إلى جانب مواقف دول عربية أخرى، فريداً بين المواقف العربية من مبادرة السلام المصرية الإسرائيلية في السبعينيات ورفضت قطع العلاقات مع مصر بعد قرارات قمة بغداد 1978.
كما ساهمت بدور كبير في دفع مفاوضات الملف النووي الإيراني حتى تم التوصل إلى اتفاق بين إيران والدول الكبرى في يوليو الماضي.
–التوازن في العلاقات مع دول الجوار والنأي بالنفس عن الصراعات، فعلى سبيل المثال لم تخرج مواقف واضحة من عُمان معلّقة على أحداث الربيع العربي التي غيّرت وجه المنطقة. كما حاولت التهدئة والتقريب بين الأطراف المتصارعة في الدائرة المحيطة بها، فعلى سبيل المثال تدخلت لحل المشكلات الحدودية بين العراق والكويت.
وقد جاء هذا التوجه العماني مدفوعاً بأبعاد تاريخية؛ فقد شهدت البلاد تدخلات عديدة من جانب القوى الخارجية والمحيطة لفترات طويلة فكانت سياسة الحياد والانفتاح على الجميع هي الضامن الأساسي لسلامة البلاد وسلامها حتى لا تنخرط في الصراعات التي تشهدها المنطقة، خصوصاً مع قيام الثورة الإسلامية في إيران في 1979 واتخاذ الصراع في المنطقة أشكالاً أكثر قوة.
–الاعتماد المتبادل والارتباط بمختلف الأطراف، كما في حالة التعاون مع إيران والحفاظ على علاقات جيدة معها وإقامة العديد من المشروعات المشتركة، وفي نفس الوقت الحفاظ على علاقات جيدة مع دول مجلس التعاون الخليجي والإنخراط معهم في المجلس ومشاريعه المختلفة، إلى جانب الارتباط بالولايات المتحدة وبريطانيا والحفاظ على علاقات تعاونية كبيرة، خصوصاً في مجالات الأمن.
وقد ساهم ذلك في اتباع السلطنة لسياسة الحياد واعتزال الصراعات، بل والمشاركة في حل هذه الصراعات نتيجة علاقاتها الجيدة بمختلف الأطراف.
– الحفاظ على الأمن في منطقة الخليج ومضيق هرمز، وحماية مراكزها التجارية الهامة في مدخل الخليج كميناء صحار.
– الثبات والاستمرارية؛ حيث ظلت السياسة العُمانية محكومة بتوجهات السلطان قابوس الذي يقبع على رأس السلطة في بلاده منذ نحو خمسة وأربعين عاماً.
ويمكن من خلال ما استعرضناه القول بأن أهم ما يحدد ويحرك السياسة العُمانية هو مصلتحتها الوطنية، وهذا هو ما أوضحه السلطان قابوس عندما صرّح بأن عُمان ترفض أن تكون مصالحها وصداقتها «حكراً لأي بلد» وأضاف كذلك «لسنا ملزمين أمام أية دولة إلا عُمان».
وبالإضافة إلى السمات السابقة، فإن هناك سمتين أخريين قد ميّزتا السياسة العُمانية بشكل كبير، ولأهميتهما فإننا نفضّل أن نتناولهما في نقطتين منفصلتين.
الوساطة العُمانية .. هل تنافس مسقط الدوحة؟
مكّنت السياسة العُمانية خلال العقود السابقة في جعل البلاد محل ثقة من جانب مختلف الأطراف، وهو ما دعّم من دورها كوسيط بين الأطراف المتعارضة حتى في أصعب القضايا وأكثرها حساسية، كما في مفاوضات البرنامج النووي الإيراني. وقد وصل الأمر إلى حد إطلاق البعض على عُمان ألقاب من قبيل «سويسرا الشرق الأوسط»، أو «نرويج الخليج».
وقد لعبت عُمان أدوار الوساطة في عدد كبير من الأزمات والقضايا؛ أبرزها البرنامج النووي الإيراني، كما أسلفنا، و التوسط لإطلاق سراح بريطانيين وأمريكيين محتجزين في إيران بين أعوام 2007 و2011، وساهمت كذلك في إطلاق سراح عالم إيراني من الولايات المتحدة في 2013.
ومؤخراً خرجت بعض الأنباء عن وساطة عُمانية في اليمن، تدعّمت بعد إعلان التحالف العربي انتهاء عمليات عاصفة الحزم في أعقاب خروجها، بالإضافة إلى بعض الحراك الخاص بالأزمة السورية الذي تم في مسقط وأدّى إلى تنبؤات بإمكانية لعب عُمان لدور في محاولات حل الأزمة.
وقد جاء تعاظم هذا الدور العُماني في لعب دور الوسيط في ظل تراجع الدور القطري كوسيط تقليدي في أزمات المنطقة ليشير إلى إمكانية وجود تنافس بين الدولتين على هذا الدور، خصوصاً بعد أن عادت قطر إلى محاولة لعب هذا الدور مرة أخرى بعد مجابهة محاولات تدخلها في شئون المنطقة بشكل قوي من جانب قوى خليجية أخرى.
وبالرغم من أهمية هذا الدور العُماني باعتبار أن عُمان وسيط موثوق فيه من مختلف الأطراف بعكس قطر التي فقدت بعض من حياديتها مع تفاعلات الربيع العربي، إلّا أن الدور القطري يبقى مهماً وفريداً في المنطقة في ظل الإمكانات المادية الكبيرة لقطر، والتي تمكنها من الضغط على أطراف معينة، كما أن قطر تتفرد بقدرتها على التوسط مع جماعات إسلامية وجماعات أخرى توصف في بعض الأحيان بأنها «متطرفة»، وهي أطراف لا علاقات أو اتصالات لعُمان معها.
وتبرز أهمية ادوار الوساطة القطرية خصوصاً في الأزمات التي تبدو بعيدة إلى حد ما عن منطقة الخليج العربي، فقد وصلت الوساطات القطرية إلى لبنان والسودان وغيرها، في حين أن جهود عُمان منصبّة بشكل أساسي على المنطقة الصغيرة المحيطة بها، والتي ترتبط معها بشكل مباشر كالخليج وإيران. وحتى عندما خرجت بعض الأنباء عن وساطة عُمانية في الأزمة الطائفية الأخيرة في مدينة غرداية الجزائرية، فإن هذه الوساطة لم تكن إلا بناءاً على روابط دينية بين عُمان والإباضية في الجزائر.
الارتباط بالولايات المتحدة وبريطانيا
ارتبطت سلطنة عُمان تاريخياً بالمملكة المتحدة لفترة طويلة من الزمن، حينما كانت بريطانيا قوى عظمى مسيطرة في العالم، كما تُعد عُمان أولى الدول التي أقامت علاقات مع الولايات المتحدة تعود إلى عام 1833 حين ارتبطا معاً باتفاقية صداقة وتجارة.
ومع تراجع القوة البريطانية بعد الإجهاد الكبير نتيجة التنافس الاستعماري والحروب العالمية، كانت الولايات المتحدة هي الوريثة للنفوذ البريطاني في عُمان. فبقيت العلاقات الأمريكية العُمانية متواضعة حتى تطورت بشكل كبير مع زيارة السلطان سعيد بن قابوس إلى الولايات المتحدة في 1938، ثم الاهتمام المتزايد من قِبل الولايات المتحدة بالخليج بشكل عام مع ظهور النفط في المنطقة، ثم بعد ذلك استغلال الموقع الإستراتيجي لعُمان وطلب تسهيلات عسكرية خلال الحرب العالمية الثانية ومابعدها.
ومع الإنسحاب البريطاني من منطقة الخليج في أواخر الستينات وبدايات السبعينات، تزايد التواجد والنفوذ الأمريكي في عُمان. وسبقت عُمان دول الخليج الأخرى في توقيع اتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة في 1980 بسبب القلق من الثورة الإسلامية في إيران قبل عام من هذا التاريخ، وقد تضمّنت الاتفاقية إقامة منشئات عسكرية للقوات الأمريكية، والسماح لقوات الولايات المتحدة باستخدام بعض المنشئات العسكرية العُمانية. هذا قبل أن توقع دول الخليج الأخرى الاتفاقيات الأمنية مع الولايات المتحدة بعد الغزو العراقي للكويت.
وبقيت العلاقات بين عُمان وكل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا قائمة بشكل أساسي على التعاون في الشق العسكري بعد ذلك وأصبح عنواناً للعلاقات بينهم.
وحافظت عُمان على هذه العلاقات بشكل كبير، خصوصاً مع الولايات المتحدة؛ ويتضح هذا السعي للحفاظ على العلاقات في أن السلطنة كانت تقوم بالإنفاق على تجهيز المنشئات والوجود الأمريكي، وهذا التعاون العسكري يضمن توفير الحماية الإستراتيجية لشواطئ عُمان ومدخل الخليج ومضيق هرمز الذي تم التهديد بتلغيمه، أو اعتراض السفن فيه، أو السيطرة عليه كثيراً في خضم مسلسل التهديدات المتبادلة بين إيران والغرب.
كما أن هذه الحماية تسمح لعُمان بالإبقاء على حياديتها دون الإنخراط في سياسة المحاور الإقليمية، خصوصاً وأن الولايات المتحدة ليست ممتعضة من هذا التوجه العُماني، بل واستفادت هي وبريطانيا من هذه التوجهات العُمانية في مناسبات عديدة.
فقد توسطت عُمان بين بريطانيا وإيران لإطلاق سراح بعض أفراد البحرية البريطانية في 2007، كما توسطت بين الولايات المتحدة وإيران لإطلاق سراح سياح أمريكيين احتُجِزوا في إيران في 2010 و2011، وأخيراً تم توظيف العلاقات الطيبة بين عُمان وإيران من أجل دفع عملية التفاوض في الملف النووي.
وبالرغم من أن التواجد الأمريكي العسكري في عُمان قد شهد تراجعاً في الفترة الأخيرة، إلّا أن الولايات المتحدة قد أبقت على مخازن أسلحة ضخمة وقواعد عسكرية يمكنها استخدامها، وقد استخدمتها بالفعل في تنفيذ بعض الضربات في أفغانستان وباكستان. كما تحتفظ الولايات المتحدة بمحطات مراقبة وقواعد لانطلاق طائرات التجسس، كما وتعتبر عُمان مركزاً للقيادة المشتركة لعمليات الخاصة والسي آي إيه في منطقة الشرق الأوسط.
و مؤخراً، قامت الولايات المتحدة بمساعدة عُمان في توسعة مطار السيب العُماني للسماح لطائرات الأمريكية بالهبوط بشكل آمن واستقبال طائرات F-16 الأمريكية.
وبالرغم من أن الولايات المتحدة قد ورثت النفوذ البريطاني في عُمان بشكل كبير، إلّا أن بريطانيا احتفظت بعلاقات كبيرة مع العُمانيين، خصوصاً في الجانب الأمني كما أسلفنا؛ فتكفي الإشارة إلى أن بريطانيا قد قامت بأكبر تمرين عسكري خارج حدودها منذ حرب الخليج الثانية في 2001 بعُمان، كما أن قيادات بريطانية بقيت على رأس القوات المسلحة العُمانية حتى أواخر التسعينات.
والعلاقات القوية التي تتمتع بها بريطانيا صحيح أنها تعود في جزء كبير منها إلى الفترة الطويلة التي قضتها بريطانيا في البلاد من قبل، إلّا أنها تعود كذلك إلى دوافع خاصة من السلطان قابوس؛ إذ أنه قد التحق بأكاديمية ساند هيرست العسكرية في بريطانيا قبل توليه لسلطة في بلاده، وبعد أن تولى السلطة ساعده البريطانيون على إخماد تمرد ظفار الشيوعي ووطدت أركان حكمه.
وامتداداً للارتباط والتعاون الأمني الكبير بين عُمان وكل من الولايات المتحدة وبريطانيا، قامت عُمان بعقد صفقات كبرى للسلاح من هاتين الدولتين؛ فعلى سبيل المثال في 2010 كانت هناك صفقة ضخمة تتضمن نحو 18 طائرة F-16 من الولايات المتحدة، وفي 2013، كانت هناك صفقة لشراء نظام أمريكي للدفاع الجوي بنحو 2.1 مليار دولار.
أمّا مع بريطانيا، فقد تم في 2012 عقد صفقة لشراء 12 مقاتلة تايفون وطائرات تدريب من طراز هوك بنحو 2.5 مليار جنية استرليني، ومن المُتوقع أن تدعّم السلطنة أسطولها الجوي بهذه الطائرات بدءاً من 2017.
مستقبل السياسة الخارجية العُمانية
ينص النظام الأساسي العُماني على جعل الحكم وراثي في ذرية السيد تركي بن سعيد بن سلطان، وليس لأبناء السلطان الحاكم. وفي ظل الوضع الصحي للسلطان قابوس الذي يدخل عامه الخامس والسبعين بعد نحو شهرين من الآن وهو في حالة صحية لا تبدو جيدة، وفي ظل عدم وجود ورثة مباشرين له، ليس لديه أبناء ولا إخوة أو أشقاء، يقوم بدعمهم لتولي المنصب من بعده.
فإن القلق يتزايد حول مدى سلاسة انتقال الحكم بعد قابوس، وهو ما يضع بدوره العديد من علامات الاستفهام حول مستقبل السياسة العُمانية الخارجية، وإذا ما كانت ستحافظ على طابعها القابوسي أم لا؛ إذ أن السلطان تولى إلى جانب قيادة البلاد قيادة وزارات الدفاع والخارجية والمالية، وهي الوزارات التي تلعب الدور الأبرز في رسم السياسة الخارجية.
وبعيداً عن الدخول في تفصيلات وإشكاليات نقل السلطة، فإن المرشحين الأبرز لتولي الخلافة بعد قابوس قد تقلّدوا مناصب دبلوماسية رفيعة في عهد قابوس وكانوا قريبين من إدارته للسياسة الخارجية للبلاد. أي أنه لا توجد توقعات بتغيُّرات كبيرة في سياسة البلاد الهادئة والمنفتحة على كل الأطراف في مرحلة ما بعد قابوس، كما لا يُتوقع أن تكون هناك تحولات كبيرة في القضايا الحساسة للسلطنة كقضية الاتحاد الخليجي.
الخاتمة
تأثرت السياسة العُمانية بشكل كبير بالفترة الكبيرة التي حكم فيها السلطان قابوس البلاد منذ 1970، ونتيجة لذلك اتسمت هذه السياسات بالثبات والإستمرارية في طابعها الهادئ والمنفتح على مختلف الأطراف في المنطقة المحيطة بعُمان، مع نشاط ملحوظ في الفترة الأخيرة لعُمان كوسيط في أزمات المنطقة.
نجحت السياسة العُمانية في تحقيق المعادلة الصعبة للتوفيق بين علاقاتها مع كل من إيران من ناحية، ودول مجلس التعاون والولايات المتحدة وبريطانيا من ناحية أخرى. وبرغم التقارب الكبير مع إيران وظهور العديد مع دول خليجية أخرى كالسعودية ، إلّا أن هذا لم يؤثر بشكل كبير على التوازن الذي تحاول السلطنة إقامته مع هذه الأطراف.
وحاولت عُمان الحفاظ على علاقاتها مع الولايات المتحدة وبريطانيا، خصوصاً في جانبها الأمني، واستفادت الولايات المتحدة من نظام العلاقات المعقدة لعُمان في تحقيق الاختراق الكبير في مفاوضات البرنامج النووي الإيراني، والذي أفضى في النهاية إلى توقيع الاتفاق النووي في يوليو الماضي.
وبرغم القلق المتزايد من مدى سلاسة انتقال السلطة في عُمان بعد تدهور الحالة الصحية للسلطان قابوس، فإن معظم الأسماء المرشحة تصب في اتجاه استكمال النهج الذي تبناه السلطان قابوس خلال مرحلة ما بعد السلطان قابوس.