«أوليفر كان» وحديث عن الكرات الخمس
دون أن أدري ينعرج بيننا الحديث نحو طبيعة العمل تلك الأيام، كيف أن المرء يقضي معظم وقته في العمل لتوفير احتياجات عائلته. يبدو حديثًا مكررًا ومواكبًا للأحداث تمامًا، لكن لا تدور الأمور كعادتها مع صديقي هذا.
يعتدل في جلسته ليأخذ وضع متحدثي التنمية البشرية، ثم تلمع عيناه قبل أن يوجه لي السؤال المعتاد: هل سمعت عن نظرية الكرات الخمس من قبل؟ أكرر معه السؤال في ذهني من فرط حفظي له لكنني أجيب بالنفي. تلك هي قواعد اللعبة مع صديقي العزيز منذ أن وهب حياته لمحاضرات التنمية البشرية، أيًا ما كانت إجابتي فهو بلا شك سيحدثني عن نظرية الكرات الخمس للمرة الألف، ولذا أجبت بالنفي.
أتركه في محاضرته الوهمية وألتقط الهاتف لأتابع بعض الأخبار. مقارنة معتادة بين بيب وكلوب، رجوع تركي آل الشيخ إلى صباه، حديث نادر لأوليفر كان عن هوية مدرب بايرن ميونخ القادم. يبدو «كان» أكثر هدوءًا بعد هذا العمر، حتى ملامحه تبدو أكثر ارتياحًا بفعل الزمن.
هنا تحديدًا أبدأ في تخيل «أوليفر كان» في موقفي مستمعًا لحديث أحدهم عن الكرات الخمس، أقاطع صديقي وأطلب منه أن يعيد الحديث منذ بدايته، يستحضر صديقي من جديد روح المحاضر وأستحضر أنا بدوري روح «كان» منصتًا للحديث عن الكرات الخمس.
نظرية الكرات الخمسة
أتمنى ألا يكون صديقي هذا صديقًا مشتركًا بيننا وقد أرهقك بالفعل بالحديث عن الكرات الخمس. إن كان ذلك صحيحًا، أرجوك تجاوز تلك الفقرة برمتها إلا الأربعة أسطر الأخيرة، وساعدني في التخلص من صديقنا هذا في أقرب وقت.
نظرية الكرات الخمس هي محتوى حديث للسيد براين دايسون، الرئيس التنفيذي السابق لشركة كوكاكولا. يطلب براين من الجميع تخيل الحياة على أنها لعبة قذف الكرات في الهواء والتقاطها، وهي لعبة يحاول فيها الشخص أن يقذف بعض الكرات تباعًا في الهواء دون أن تسقط إحداها ودون أن يتوقف الشخص عن قذف تلك الكرات.
تمثل تلك الكرات ببساطة: العمل، والأسرة، والصحة، والأصدقاء، والروح. ومطلوب من الشخص في الحياة أن يحافظ على تلك الكرات جميعها دون أن تسقط.
يدرك المرء سريعًا أن العمل كرة مطاطية، إذا قمت بإسقاطها فسوف ترتد إليك مرة أخرى. بينما الكرات الأربع الأخرى مصنوعة من الزجاج، إذا سقطت واحدة فربما تتعرض للتلف أو تتحطم والأكيد أنها لن تعود كسابق عهدها أبدًا. لذا خلال العمل، ابذل أقصى جهدك خلال الوقت المحدد لهذا العمل، وفي المقابل امنح الوقت اللازم لعائلتك وأصدقائك واحصل على الراحة المناسبة.
أدرك تمامًا كيف يشعر «أوليفر كان» الآن بعد سماعه لهذا الحديث، من المؤكد أنه ربما يبكي من فرط تأثره، لكن لو كان هذا الحديث دار على مسامعه منذ ثلاثين عامًا ربما كان سيجيب: أنا لا أهتم بما تقول على الإطلاق، لكنني متأكد أنك إذا قذفت نحوي خمس كرات دفعة واحدة سألتقطهم جميعهم على الفور، لأن هذا ببساطة هو عملي.
معجزة الوايلد بارك وسطوع الشمس
وجد أوليفر نفسه يلعب كرة القدم في السادسة من عمره في نادي كارلسروه حيث لعب والده، ثم بدأ الجميع يعرف اسمه بعد ما يسمى بمعجزة الوايلد بارك. لعب كارلسروه في بطولة كأس الاتحاد الأوروبي عام 1994، ثم وبشكل مفاجئ تجاوز ايندهوفن الهولندي في المرحلة الأولى ليجد نفسه أمام فالنسيا العملاق آنذاك، لذا كانت الهزيمة بثلاثة أهداف منطقية تمامًا.
كان يأمل الجميع في تقديم مباراة جيدة في العودة على ملعب الوايلد بارك الألماني، إلا أن المباراة انتهت بفوز كارلسروه بسبعة أهداف دون رد. انتهت رحلة كارلسروه في الدور النصف النهائي للبطولة، لكن تلك النتيجة الخرافية وضعت لاعبي الفريق بالكامل تحت الشمس، كان أوليفر أحد أبرز أعضاء الفريق بالطبع.
بمجرد رؤيته في الملعب تدرك على الفور أن هذا الرجل يملك شخصية مختلفة، شخصية القائد الذي يضع نفسه في وضعية الاحتراق الذاتي بمجرد بدء المهمة ولا يهدأ إلا بإنجاز المهمة أو الانفجار في وجه أحدهم، حتى أنه قال ذات مرة إن منافسه في كرة القدم هو عدوه بلا شك، لذا كان أمرًا منطقيًا أن يجد نفسه في الموسم التالي لاعبًا في صفوف بايرن ميونخ.
التحول إلى الرجل الشرير
مسيرة «أوليفر كان» مع البايرن والمنتخب الألماني مسيرة ناجحة بالطبع: ثمانية ألقاب دوري، وبطولة دوري أبطال أوروبا، وكأس الاتحاد الأوروبي، إلا أن كل هذا لم يكن فقط المميز في مسيرة كان مع بايرن ميونخ.
عندما تحاول تذكر «كان»، فإن صداته الاستثنائية ليست وحدها ما يجول ببالك ولا حتى لحظات الفرح والانكسار المعتادة، بل أقرب صور «أوليفر كان» للجميع هي لحظات جنونه الخاص: وجه متجهم يصرخ في الجميع، حارس لا يجد غضاضة أن يترك مرماه ويركض خلف المهاجم، مناوشات تصل لتوجيه ركلة كونغ فو في وجه الخصم دون الاهتمام بالعواقب.
عرف عن «كان» أنه شخصية عصبية لا تقبل الخسارة، لكن مع الوقت وتعدد المشاهد التي يفقد فيها «كان» أعصابه، تحول أوليفر إلى شخصية الرجل الشرير. استحسن الإعلام تلك التيمة الجديدة وبدأ تقديم «أوليفر كان» على أنه الرجل الألماني المجنون الذي سيوسعك ضربًا إذا اقتربت منه أكثر من اللازم، لكن لماذا قد يحدث هذا التحول؟ لنعد إذن للكرات الخمس.
لم يهتم أوليفر سوى بكرة واحدة من الكرات الخمس وهي كرة العمل، حرص «كان» ألا تقع تلك الكرة من يده، فلم يعلم ببساطة أنها من المطاط. وفي المقابل، لم يعلم شيئًا عن الكرات الأربعة المتبقية التي كانت قد تحطمت بالفعل وأصبح أثر تحطمها واضحًا دون شك، لكن «كان» لم يدرك كل ذلك إلا بعد أن وقعت منه كرة المطاط للمرة الأولى.
هدف رونالدو الذي فضح كل شيء
حسنًا، فهم «أوليفر كان» أن العمل ثم العمل دون هوادة هو الطريق نحو القمة، والدليل أنه أصبح حارس ألمانيا الأول رفقة عظيم ألمانيا البارين. ربما يبدو هذا الحديث منطقيًا في بعض المجالات، لكن كرة القدم لا يؤمن جانبها أبدًا.
خطأ «كان» خطأً مباشرًا تمامًا في أهم مباراة لأي لاعب على الإطلاق، نهائي كأس العالم. رغم تصديه للعديد من الكرات الخطرة خلال المباراة، إلا أن الكرة التي سقطت من يد كان ليودعها رونالدو كانت خطأه الأكبر والذي لم يسامحه أحد عليه.
هنا تحديدًا اكتشف «كان» أن الملايين الذين تشدقوا بحماسه وقتاله لم يستطيعوا أن يغفروا له خطأً وحيدًا خلال سبع مباريات، سقطت كرة العمل أخيرًا ليكتشف كان مدى تحطم الكرات الباقية.
شخص اعتبر كرة القدم هي كل شيء في حياته، ولذا عندما تدير الكرة ظهرها له يصبح الأمر كارثيًا. بدأ كان في التصرف بغرابة غير معهودة، حيث تم التقاط الصور له في حفلات صاخبة حتى الساعات الأولى من الصباح، أخبار عن قضاء يوم كامل دون تدريب من أجل لعب الجولف، مواعيد غرامية مع فتاة تصغره بعشرين عامًا تاركًا زوجته وأولاده في المنزل. تطور الأمر حتى وصفه أحد الكتاب الألمان أن «كان» يعاني من أزمة منتصف العمر.
اهتز «أوليفر كان» بعنف، لكنه تعلم الكثير ولم يتبق سوى اختبار ما تعلمه.
كلينسمان والاختبار الحقيقي
أدرك كان أن كرة القدم ليست هي الحياة فحسب، بدأ في العودة لمستواه الفني المعهود مع الوقت، وتزامن هذا بتولي المهاجم الألماني كلينسمان مقاليد الأمور الفنية للمنتخب الألماني. قرر كلينسمان الاعتماد على الثنائي كان وليمان في حراسة مرمى المنتخب الألماني، كانت تلك هي المرة الأولى التي يجلس فيها كان احتياطيًا لأحد.
دارت عدة أسئلة داخل عقل «أوليفر كان» حول مدى عمق علاقة كلينسمان وليمان، خاصة أن مستشارهما الرياضي واحد. لم ينفعل كان كعادته، ثم حدث ما هو أكبر، قرر كلينسمان أن حارس ألمانيا في بطولة كأس العالم 2006 هو يانز ليمان دون منافسة.
كان هذا هو الاختبار الحقيقي لدرس الكرات الخمس في حياة «كان»، والحقيقة أن «كان» نجح في الاختبار ويكفي احتفاء الجميع به بعد أن تقدم لتحية ليمان قبل بدء ركلات الترجيح بين منتخبي ألمانيا والأرجنتين خلال كأس العالم.
اعتزل كان كرة القدم بعد عامين فقط محتفظًا بالكثير من الاحترام والتقدير، حتى أنه يعد أبرز المرشحين لخلافة رومينيجه كرئيس تنفيذي لنادي بايرن ميونخ. ويبدو أن «أوليفر كان» سيكون على موعد جديد مع النجاح، خاصة أن النادي البافاري يمر بمرحلة تحول وهي المرحلة التي مر بها «أوليفر كان» بالفعل في حياته المهنية.