حصاد الزيتون: عُرس فلسطيني بامتياز
جملة لم يُرددها عبثًا الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، فلم يخلُ خطاب له تقريبًا منها، ليؤكد للعالم أن زيتون فلسطين هو تاريخها وموروثها الثقافي والاجتماعي، وكذلك جوهر اقتصادها، وأن إسقاطه قد يعني إسقاط المشروع الوطني الفلسطيني.
بدأ تأصيل هذا المشروع على المستوى الدولي في خطاب عرفات أمام الجمعية العامة في الأمم المتحدة عام 1974، حينما طالب – بعد سنوات النضال والثورة منذ الخمسينيات – قائلًا:
لكن «إسرائيل» على مر تاريخ احتلالها للأرض الفلسطينية لم ترغب بذلك وحاولت عبر عصابات مستوطنيها بقتل «غصن الزيتون الأخضر»، والتفرد بالأرض والحرث والنسل. لذلك، أنتجت مشاريع استيطانية تقتلع شجر الزيتون وتُنهي وجوده باعتباره شاهدًا على تاريخ القضية، وتمنع المزارعين الفلسطينيين من الوصول إلى أراضيهم المزروعة بالزيتون إلا بتنسيق أمني ولمدة لا تتجاوز الأيام الثلاثة في أوقات نهاية الحصاد، بعدما تكون قد عاثت في الشجر والثمر الفساد والتخريب، وفق شهادات بعض المزارعين لـ «إضاءات».
ورغم هذه الممارسات، يبقى موسم حصاد الزيتون في فلسطين له بريقه الذي لا يخبو، وتُشكل تفاصيله لوحة تراثية تبعث الأمل في نفوس الفلسطينيين. «إضاءات» تروي حكاية الحصاد عن قرب.
فلسطين الموطن الأصلي لشجرة الزيتون
تُعد الأراضي الفلسطينية الموطن الأصلي لشجرة الزيتون، حيث توجد فيها شجرة يزيد عمرها على ألف سنة، وبعضها يُقدر عمرها بحوالي ألفي سنة؛ أي منذ زمن السيد المسيح، ومع تعاقب الأجيال اكتسب المزارعون خبرة عالية في التعامل مع هذه الشجرة التي يُنظر لها كـ «ثروة بيئية واقتصادية».
وبتحليل البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة الزراعة الفلسطينية، فإن المساحة المزروعة بالزيتون تغطي ما نسبة 58% من مجمل المساحة الزراعية في فلسطين؛ أي ما يُعادل 780 ألف دونم، منها 650 ألف دونم زيتون مُثمر بإجمالي 8.5 مليون شجرة، والباقي 130 ألف دونم غير مثمر بإجمالي 2.5 مليون شجرة زيتون.
ويقول «صلاح الدين البابا» مدير عام الإرشاد والتنمية الريفية بوزارة الزراعة لـ «إضاءات»: «إن تزايد أعداد أشجار الزيتون سنويًا يعود إلى عدم حاجته للرعاية طوال العام، بالإضافة إلى اعتماده بشكل أساسي على مياه الأمطار»، ما يُشير إلى أنّه بنسبة 90% زراعة بعلية، وفيما يتعلق بأصناف الزيتون في الأراضي الفلسطينية أخبر «البابا» أن السائد منها هو النبالي البلدي ويُعرف بـ «الرومي»، وأشار أنه منذ الثمانينيات شهدت الأراضي الفلسطينية إدخال أصناف أخرى كـ «النبالي المُحسن» والـ «K18» و«الشملالي».
ويُقدر «البابا» إنتاج فلسطين من الزيتون بـ 100 ألف طن، الغالبية العظمي بقيمة 80 ألف طن تُنتج في الضفة الغربية، و20 ألف طن فقط في غزة، وأوضح أنه من مجموع الـ 100 ألف طن من إنتاج الزيتون يتم استخدام فقط 18-20 ألف طن لأغراض التخليل فيما البقية تُصدر إلى المعاصر للحصول على الزيت، والذي تُحقق عملية بيعه انتعاشة لجيوب أصحاب مزارع الزيتون وللاقتصاد الفلسطيني ككل.
وفيما يتعلق بالعوامل التي تُؤثر على نسبة وكمية الزيت في ثمار الزيتون أثناء عصرها، يسرد لنا المهندس «فارس جابي» خبير الزيت والزيتون الفلسطيني، بعضها ابتداءً من الصنف ونوعية الثمار ومدى نضجها أو إصابتها بالآفات، بالإضافة إلى موعد القطف وطريقته وعملية الجمع والنقل والتخزين للثمار، ثم طريقة العصر وآلية الرقابة عليه وكذلك عملية تخزين الزيت، كما شدد على أهمية العمليات الزراعية وآلية العناية بالشجرة منذ زراعتها، وقال لـ «إضاءات»: «إن حراثتها بالطريقة الصحيحة عبر الالتزام بالمواعيد المحددة في السنة لحراثة الأرض، وكذلك التزام مواعيد التقليم للأغصان الجافة يُحسن جودة الزيت ويُثري كميته».
ولم يغفل «جابي» طبيعة المناخ والظروف الجوية من حرارة ورطوبة جوية وفي رأيه أن المناطق ذات الجو الحار الرطب تحتوي فيها ثمار الزيتون على نسب عالية من الزيت خلافًا للمناطق الحارة الجافة وقال: «إن هذه العوامل مجتمعة تؤثر على جودة الزيت وعلى نجاح عملية تسويقه وتصديره للأسواق العالمية».
عرس فلسطيني بامتياز
غالبًا ما تُحدد وزارة الزراعة الفلسطينية «التصليبة»، أول مرة تُمطر فيها السماء في فصل الخريف والتي توافق 27 سبتمبر/أيلول من كل عام وتمتد حتى نهاية أكتوبر/تشرين الأول من كل عام؛ موعدًا لبدء موسم قطاف الزيتون، ويقول المثل الشعبي: «لَمَّا يْصَلِب الصَلِيب ما ترفع عن زيتونك القضيب»، ويُشير هذا المثل إلى إمكانية بدء المزارع الفلسطيني عملية «الجِداد»، جني ثمار الزيتون، وقديمًا كانوا يعتمدون على العصا في جني الثمار من على أعالي الأغصان في شجر الزيتون لكنهم لم يعودوا يفعلوا ذلك بعد ثبات خطرها على الأغصان الصغيرة النامية التي ستحمل ثمار الموسم المقبل.
ويبدأ المزارعون مع نهاية شهر سبتمبر/أيلول وأوائل أكتوبر/تشرين الأول بعملية التقاط حبات الزيتون الناضجة التي تتساقط بسبب الهواء، بالإضافة إلى بعض الثمار التي تُستخدم للتخليل، بينما يُؤخرون عملية «الجداد» الكاملة إلى منتصف أكتوبر/تشرين الأول وبداية نوفمبر/تشرين الثاني، وذلك لمنح الثمار فرصة لتستمر في النمو وزيادة كمية الزيت فيها عند العصر.
في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، تجمع الحاجة «فاطمة» (78 عامًا) أبناءها وأحفادها لقطاف بضعة من أشجار الزيتون التي زرعتهم وزوجها في حديقة منزلها، يلتف حولها أصغر أحفادها «عبد الرحمن» و«حسن» في الصف الأول الابتدائي.
تجدهم كلما التقطوا حبّة زيتون مع جدتهم تهتف ألسنتهم بـ «الدلعونا»، وتُشاركهم العمّة «منى» معلمة التربية الأساسية في روضة «الشهيد عارف حرز الله» بالمدينة، وتُشجعهم على الاستمرار بالغناء، تقول لـ «إضاءات»: «إن هذه الأجواء تُحيي التراث في نفوس الأطفال وتربطهم بماضيهم وتعمق علاقتهم بتاريخهم الذي يعود لآلاف السنين تمامًا كشجرة الزيتون الرومية»، وتُضيف إنها تحرص خلال موسم الزيتون على استلهام العديد من القصص المرتبطة بالزيتون ورويها للأطفال سواء في نطاق عملها أو محيطها المجتمعي فقط ليبقى «الزيتون» الهوية التاريخية والإنسانية التي يحتفظ بها الأطفال في عقولهم ووجدانهم.
وتقول كلمات أغنية الدلعونا:
«جداد الزيتون»: فرص عمل مؤقتة للعاطلين
أدت الأوضاع الاقتصادية المُزرية التي يُعاني منها الوطن الفلسطيني إلى ارتفاع معدلات الفقر والبطالة بين الشباب الفلسطيني خاصة في قطاع غزة، ويقول شباب فلسطينيون إن تدهور أوضاعهم المعيشية وانعدام فرص العمل يدفع بهم إلى اختراق المواسم والتحايل على الواقع المتأزم لإيجاد سبيل عيش كريم لهم ولأسرهم.
الشاب «محمد أبو سنيمة» من رفح جنوب قطاع غزة، أكد لـ «إضاءات» أن موسم «جداد الزيتون» فرصة ذهبية لكسب قوت يومه بعرق جبينه حتى لو لأيام معدودة وفقًا لمساحة الأرض وعدد أشجار الزيتون المثمرة فيها، يجوب «أبو سنيمة» الذي أنهى دراسته الجامعية قبل خمس سنوات الأراضي الزراعية في مدينتي خان يونس ورفح جنوب القطاع، ويعرض عمله على أصحاب الأراضي، فتتسنى له فرص أقلها تدوم يومين وأكثرها قد يزيد عن أسبوعين قليلًا.
يُحقق «أبو سنيمة» دخلًا جيدًا يُعينه على توفير متطلباته الأساسية، وبمزيد من التفصيل يقول:
ويُشير أنّه يُفضل أن تكون مالًا ليتمكن من تأمين متطلباته ومتطلبات أسرته كبيرة العدد.
ولا يختلف عنه الشاب «صابر» (26 عامًا)، فبعد أن أنهى دراسته في دبلوم الهندسة الميكانيكية لم يجد فرصة عمل تُحقق حلمه في بناء مستقبله واستكمال مشوار حياته، وكانت النتيجة أن اتجه للعمل في قطاف المحاصيل الزراعية خاصة، يقول: «إن أكثر المواسم رزقًا موسم الزيتون، حيث تطول مدة العمل لشهر تقريبًا ما بين قطف الثمر ومن ثم عصره لزيت وتسويقه».
في الضفة اقتلاع للشجر ودفن للثمر
ورغم أن مراسم قطاف الزيتون موحدة في الوطن الفلسطيني، إلا أن اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين على شجرها يتزايد في الضفة الغربية بحكم عدم الانسحاب الكامل من أراضي 1967، ووجود المستوطنات على الأراضي الزراعية لأهالي القرى هناك، فلم يترك الاحتلال والمستوطنون وسيلة للاعتداء على شجر الزيتون إلا وقد اتخذوها سبيلًا.
ففي قرية بورين جنوب مدينة نابلس شمال الضفة الغربية، لا يتورع المستوطنون عن سرقة ثمار الزيتون من أراضي المزارعين الفلسطينيين قبل عملية قطفها.
يقول المزارع «محمد عيد» في اتصالٍ هاتفي مع «إضاءات» إن المستوطنين في بؤرة «جفعات رونيم» المقامة على أراضي القرية سرقوا من أرضه حوالي 30 شجرة زيتون قبل أن يأوي لحصادها، ويُضيف أن الاحتلال الإسرائيلي يتعمد تأخير التنسيق والسماح للمزارعين – الذين تقع أراضيهم خارج الجدار من الوصول لأراضيهم – لحين يتم سرقتها أو تخريبها بقطع أغصانها ودفن ثمارها في باطن الأرض، يقول:
ولا يختلف الحال كثيرًا في بلدة «عزون» شرق مدينة قلقيلة، حيث يمنع الاحتلال وصول المزارعين إلى أراضيهم القريبة من المستوطنات المقامة هناك، إلا في أوقات التنسيق ولساعات مُحددة فقط من العاشرة صباحًا حتى الرابعة مساءً، وهو خلاف ما ينص عليه التنسيق مع الارتباط الفلسطيني، والذي يكون فيه الوقت مفتوحًا من ساعات الفجر الأولى.
يقول المزارع «عبد الله سمارة» أن أيام التنسيق التي حددتها سلطة الاحتلال لموسم «جداد الزيتون» في قريته عزون لا تتجاوز الأيام الخمسة، وكانت قبل بدء الموعد الرسمي الذي حددته وزارة الزراعة لبدء موسم القطاف، وأشار في مكالمة هاتفية لـ «إضاءات» أنّه لم يتمكن من الوصول إلى أرضه الواقعة داخل الجدار المحيط بمستوطنة «معاليه شومرون»، وبالتالي فإن خسائره المالية هذا العام كبيرة جدًا.
وينتظر المزارعون الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة بفارغ الصبر موسم قطاف الزيتون، باعتباره مصدر رزق أساسي يوفر احتياجاتهم من السلع الغذائية «الزيت والزيتون»، ويُحقق الفائض منه مصدر رزق سنوي؛ يبيعونه فيمنحهم وفير المال ليؤمّنوا به احتياجات أسرهم على مدار العام.