«أديان قديمة وسياسة حديثة»: لماذا نشأ إسلام سياسي؟
لماذا يؤدّي الإسلام دورًا في السياسة المعاصرة أكبر من دور الأديان الأخرى فيها؟ هل يوجد شيء بخصوص التراث الإسلامي يجعل من المسلمين يميلون/أو يرجّحون الاستناد إلى الدين في حياتهم أكثر من غيرهم من المنتسبين إلى عقائد أخرى؛ إذا كان الأمر كذلك فما هو؟ يسعى كتاب «أديان قديمة وسياسة حديثة» إلى الإجابة عن هذين السؤالين عبر البحث في أدوار الإسلام والهندوسية والمسيحية في الحياة السياسية الحديثة مركّزًا تركيزًا خاصًا على صلة تراثهم أو عدم صلته بالهموم الاجتماعية والسياسية في الوقت الحالي.
ويلقي مايكل كوك نظرة مقارنة في العمق على الهوية السياسية والقيم الاجتماعية والمواقف إزاء الحرب ووجهات النظر حول دور الدين في مختلف المجالات الثقافية وتصوّرات النظام السياسي. وهو يجد في كل هذه المجالات ما يدل على أنّ التراث الإسلامي يقدّم لأولئك المنخرطين في السياسة الحالية مواردَ أكثر ثراءً مما يقدّمه كلا التراثيْن الهندوسي والمسيحي.
ويستعمل كوك هذا الاكتشاف ليفسّر حقيقة أنه على الرغم من وجود نظائر في الهندوسية والمسيحية لبعض وجوه الإسلاموية، فإن الأخيرة ستبقى بكليتها، اليوم، ظاهرةً فريدةً من نوعها. كما يبين الكتاب أن الأصولية-بمعنى العزم على العودة إلى المصادر الأصلية للدين- هي سياسيًا أكثرُ ملاءمة للمسلمين منها للهندوس أو المسيحيين.
بنية الكتاب
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام، كل واحد منها مخصص لغرض رئيس من أغراض المقارنة.
فالقسم الأول يتعلَّق بدور التراثات الدينية الثلاثة في الهوية السياسية الحديثة. وموضوعه الرئيس هو بيان أن الإسلام يقدم لأهله هوية سياسية لا تتكافأ على ما فيها من قيود كما يجب مع الهندوسية ناهيك عن المسيحية.
ويسعى الفصل الأول إلى تحقيق توازن بين شكل الهوية السياسية الإثني وشكلها الديني في العالم الإسلامي التقليدي العربي وغير العربي، وإلى تقدير قوة الهوية الإسلامية السياسية في الأزمنة ما قبل الحديثة. ثم يسأل الفصل عما حصل لهذا التوازن القديم وخاصة للهوية الإسلامية القديمة في الظروف الحديثة.
أما الفصل الثاني فيتعلق بالمدى المحدود لما يقدمه التراث الهندوسي من نظير للهوية السياسية الإسلامية، ومزيج من النجاح والفشل اللذين حضرا في محاولات القوميين الهندوس لجعل هذه الهوية ذات قدرة عملية في السياسة الهندية.
ويستكمل الفصل الثالث المسألة، فيبين أن اكتشاف هوية سياسية من هذا النوع في سياق المسيحية اللاتينية الأمريكية أعسر حتى بالقياس إلى الحالة الهندوسية.
ويعالجالقسم الثاني مساهمة تراث الأديان الثلاثة فيما هو بمعنى عام قيم سياسية في الوضع الحديث. ويختلف تنظيم معالجة موضوع هذا القسم عما جاء في القسم الأول، حيث خصص المؤلف كل فصل لغرض معين، وقدم فيه مسحًا للأديان الثلاثة.
فالفصل الرابع يُعنى بالقيم الاجتماعية، ويبحث في مدى تمثيل القيم التي يتضمنها كل تراث منها من مساعدات لأصحابها أو معيقات في السياسة الحديثة. ففي كل حالة من حالات الأديان الثلاثة يعيِّن الفصل وجهًا خاصًا من الدين المعني باعتباره الوجه ذا الدلالة المميزة على الرغم من أن الوجوه المنتخبة تختلف بعضها عن بعض.
وينتقل الفصل الخامس إلى المواقف من الحرب، فيركز أولاً على قيمة الجهاد الإسلامية وقيمتها السياسية وفوائدها في العالم المعاصر على المدى الذي يمكن أن نجد من خلاله ظاهرة موازية له في الديانة الهندوسية والمسيحية.
ويدور الفصل السادس حول الطرق التي تربط هذه الأديان الثلاثة بأشكال ثقافية مختلفة. وفيه يحاول المؤلف استدرار الفروق إلى حد يجعل هذه التقاليد الثلاثة تدعي السيادة على مجالات ثقافية معينة وإلى درجة الالتزام التي تصل إليها هذه التقاليد أو معتنقوها في المحافظة على هذه السيادة. ولعل الفروق التي تبرز في هذا الاستدرار هي الأكثر إثارة للاهتمام في المجال القانوني.
ويستخرج الفصل السابع تصورات هذه الأديان حول نظام الحكم والسلطة. فيبين من ناحية أولى أن الأديان الثلاثة تشترك في بنية من علاقات القرابة الوثيقة خلال جل مراحل تاريخها. ولكنه يبرز من ناحية ثانية تميز الخلافة الراشدة والدعوة إلى استئنافها في أيامنا هذه.
ومدارالقسم الثالث هو الأصولية التي يقصد بها المؤلف خيار المؤمن في العودة إلى الأسس الأصلية لعقيدته وأخذ دينه من مصادره الأكثر قدمًا في تاريخه. وهنا قلب المؤلف تنظيم القسم لكي يوافق القسم الأول، فمنح كل دين فصلاً منفصلاً. ويطرح المؤلف في هذا الفصل أسئلة متعلقة بمدى قابلية كل دين لإضفاء صفة «الأصلنة» على ذاته، وإلى أي حد يكون من يستندون إلى تراثه في السياسة الحديثة في الواقع أصوليين و –في حدود كونهم أصوليين- ما الذي تحققه لهم الأصولية؟
آفاق المستقبل
في الخاتمة يبين كوك كيف أن هنالك عدة خصائص مشتركة بين الحالات الثلاث محل الدراسة في الكتاب، وهي: الإسلام والهندوسية والمسيحية الكاثوليكية. أول هذه الخصائص أن الحالات الثلاث تهم شعوب العالم الثالث، ما يعني أنها شعوب بمقتضى الحال ليست جيدة الإنجاز في التسابق العالمي، وهذه الظرفية الإنسانية هي في آن واحد ظرفية محبطة ومسببة للاضطراب بالنسبة إلى هذه الشعوب، بمن فيهم تقريبًا كل الشعوب الإسلامية أيًا كان اختلاف ظروفها المحلية. وثانيها هي كون الحالات الثلاث أديانًا – بل أكثر من ذلك هي أديان جماهيرية. ثم يعرّج كوك بعد ذلك على إمكانات المستقبل فيوضحها في مجموعة الإمكانات التالية:
الأولى: بقاء الوضع على ما هو عليه كما كان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب، وهذا يضع فرضيتين: واحدة حول العلاقات الدولية، والثانية حول السياسة الداخلية في العالم الإسلامي. يفترض كوك أنه بخصوص العلاقات الدولية فسيمر بعض الوقت قبل أن يجعل صعود الصين الولايات المتحدة حليفة أكثر من كونها عدوًا للإسلاميين.
وبخصوص السياسة الداخلية، فيفترض كوك أن من المسلم به أن الربيع العربي لن يكون له أثر درامي في حظوظ الحركات الإسلامية عامة. فمن أحد الوجوه، لا يزال ذلك باديًا وكأنه بيِّن بنفسه؛ فانتظار أن تفقد الحركات الإسلامية الشعبية البينة بين المسلمين بعد تغيير وجهتها نحو قيمة سياسية غربية سيئة الانغراس في التراث الإسلامي، ويعني بها كوك «الحرية السياسية» – تعليل ضعيف. ولكن من وجه آخر فقد جعل الربيع العربي -على الرغم من استمرار دواعي التوجس– افتراض استمرار حال العقديْن السابقيْن عليه أصعب.
وثانية هذه الإمكانات هي أن يربح الإسلاميون فيصلون إلى الحكم في الكثير من بلاد العالم الإسلامي كما حصل في تونس وحصل لمدة في مصر. ولكن هذا الإمكان يفتح الباب لعدة سيناريوهات تعتمد كلها على العلاقة بين الإسلاموية والديمقراطية. فأولًا قد تخسر الديمقراطية ويؤسس الإسلاميون أنظمة سلطوية وسيسبب هذا خيبة أمل واسعة لمواطنيهم. والسيناريو الثاني هو أن تكيف التنظيمات الإسلامية أهدافها لخدمة محيط ديمقراطي، وبالتالي تخفف من نزعتها السلطوية، فتتخلى عن استعادة الشريعة ذات المفعول الواسع وبناء دولة إسلامية لحساب الدفاع عن قيم اجتماعية محافظة والنشر العام للرمزية الإسلامية.
أماالإمكان الثالث فهو أن الإسلام – أو ما يريده منه الإسلاميون – سيتغير على نحو يقلل بصورة مهمة من منحاه السياسي. والفكرة التي كانت ذات إغراء في الغرب على أنه على الإسلام أن يخضع لإصلاح شبيه بالإصلاح البروتساتني الذي مكّن للقيم الليبرالية من التسيد في الغرب. ويعتبر كوك أن هذه فكرة غير معقولة إلى حد كبير؛ ذلك أن الإصلاح البروتستانتي في الغرب أطلق قوى من التعصب وعدم التسامح آلت إلى مجازر متواصلة، وهو أمر لا يحتاجه العالم الإسلامي اليوم.
أماالإمكان الرابع والأخير فهو أن نظام المعتقد العلماني الجديد سيصعد ليحتل الحيز الذي خلا بعد موت الماركسية. فالمثقفون المسلمون في حاجة إلى أن يكونوا قادرين على تبني طرق الغرب الحديث دون أن يبدوا عملاء بلا حياء. وأن يعارضوا في الوقت نفسه قوة الغرب من دون أن يبدوا ماضويين عديمي الأمل. فقد كانت الماركسية هي التي جعلتهم قادرين على القيام بهذا في الماضي. فقد أمدتهم بأرضية رفيعة، أمكنهم انطلاقًا منها أن يكونوا كافرين بالتراث ومعادين للقوة الغربية في آن واحد. فلو صعدت أيديولوجيا علمانية ملهمة في مكان ما من العالم – والأفضل أن يكون ذلك خارج الغرب – لكانت الأمور مختلفة عما هي عليه. ويعقب كوك على ذلك بتأكيد أن ذلك لا يبدو أمرًا راجح التحقق.