قتل المسنين باسم الحياة: اختبار أخلاقي في مواجهة كورونا
في تجربة محاكاة لمعضلة القطار بمسلسل The good place وضع مايكل -في دور الشيطان- أستاذ علم الأخلاق «شيدي أناغونيه» في محل سائق قطار بلا فرامل. في كل مرة يكون أمام شيدي اتجاهان عليه اختيار أحدهما، وكلاهما يقف عليه أشخاص يعرفهم أو لا يعرفهم، وضعهم القدر في طريقه، ولا يملك القدرة على تحذيرهم من القطار المنفلت، ليزداد قلقه خوفًا من اتخاذ قرار غير أخلاقي.
تنتهي كل تجربة وشيدي مغطًى بدماء وأشلاء أصدقائه، وكذلك نحن في هذه الأوقات غير المسبوقة، حيث تتعارض الحريات الفردية مع رفاهية جنسنا البشري. وبالنسبة لمعظم الناس، كبارًا وصغارًا، فإن حاضرنا محفوف بنتيجة صراعنا مع فيروس كورونا المستجد.
رفاهية تناول القهوة في السبعين
كان تنزه شيوخ أوروبا كل صباح انتصارًا في حد ذاته لإدارة الصحة العامة. فقد ارتفعت نسبة المسنين فوق الثمانين إلى 4% في عام 2005. يأملون في العيش 11 عامًا إضافيًّا مع أحفادهم. وبحسب مكتب الإحصاءات الوطنية البريطاني في عام 2014، بلغ متوسط العمر للسكان أعلى مستوى له على الإطلاق. بالإضافة إلى ذلك استمر عدد الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عامًا في النمو. مع انتظار القفزة القادمة بسبب «طفرة المواليد» في الستينيات التي تصل إلى الشيخوخة في حوالي عام 2030.
جرى الأمر سريعًا بشكل لافت. حتى أنتجت دراسات الاستبصار الدولية تقديرات أكثر تشاؤمًا بأن إسبانيا ستكون أقدم دولة في العالم في عام 2050، مع 40% من سكانها فوق سن الـ 60. وبالتالي، فإن الحاجة إلى التعامل مع التحديات التي تفرضها شيخوخة السكان كانت أكثر إلحاحًا في تلك المجتمعات من غيرها؛ ما دفع الباحثين إلى دعوة دولهم على مدى العقد الماضي لصب التركيز على تحسين الأبعاد الطبية والاجتماعية والنفسية لرعاية المسنين، لتعزيز جودة حياتهم في تلك المرحلة استعدادًا للمستقبل.
نظرت الحكومات الأوروبية للأمر بشكل مختلف؛ فتلك المجموعة النامية من الشيوخ الأكثر عرضة لخطر الخرف والمشاكل الصحية الأخرى المعوقة تستخدم موارد الرعاية الصحية والاجتماعية بشكل كبير. والحل الأسهل هو خفض الإنفاق على الرعاية الاجتماعية لهم. ليجد الأجداد أنفسهم في قوائم انتظار لا تنتهي لتلقي العلاج، وعدد أقل من الأطباء في المستشفيات، وعربات إسعاف لم تعد تصل، ودور مسنين تُغلق أبوابها بسبب تراكم الديون.
المسنون ليسوا سكورسيزي وترامب فقط
مع تزايد أعداد المسنين، تراجعت الحكومات عن تحمل مسئولية صحتهم ورفاهيتهم من خلال تدابير التقشف. في عالم يكاد يكون من البديهي أن يُقاس النسيج الأخلاقي للمجتمع بشكل أفضل بكيفية تعامله مع الضعفاء بين أفراده.
لتطبيق إجراءات التقشف على المسنين دون رفض من جيل الأبناء، سعت الحكومات لتمرير فكرة أن كبار السن يفرضون عبئًا غير مُبرَّر على المجتمع. وبشكل أكثر تحديدًا على النظام الصحي. وأن تلبية احتياجاتهم قد تُعرِّض الشباب للخطر. وبالفعل شهدنا استجابة شعبية خجولة تُشجع المسنين على تحمل مسئولية صحتهم في السنوات الأخيرة.
تبحث شير شيموني في تمثيل الشيخوخة في الثقافة الشعبية. وتؤكد أن صورة المسنين تغيرت على مدى العقد الماضي بالتوازي مع إجراءات التقشف. تلك الصورة التي تروِّجها الحكومة بأن كبار السن هم حفنة من الأثرياء قادرون على دفع علاجهم، وإن لم يكونوا كذلك فيجب عليهم التفكير في العمل بعد سن المعاش لإيجاد عناية مركزة عند مرضهم، أمّا الفقراء بينهم فعليهم الرضا بحتمية الموت، لذا لا داعي من الذهاب للمستشفى والمحاولة.
جاء ذلك في اهتمام هوليوود بحياة كبار السن أكثر من أي وقت مضى، بداية بفيلم Something’s Gotta Give عام 2003، وحتى وقت قريب في ملحمة The Irishman. وتقديم المسنين على أنهم مبدعون وسعداء وقادرون على إدارة حياتهم بمفردهم.
ويمكن ملاحظة ذلك أيضًا في كتب تدعو المسن لتجنب أن يصبح غير ضروري اجتماعيًّا، أو تلك العشرات التي تتصدر قوائم نيويورك تايمز للأكثر مبيعًا وهي تناقش قضايا كالموت الواعي بكرامة على سرير دافئ بالمنزل، بدلًا من الخضوع لعمليات جراحية تهدد الحياة، مثل: «طرق باب النعيم: منهج للوفاة بطريقة أفضل»، و«كيف نموت: تأملات في الفصل الأخير للحياة» ليس بهدف توضيح الحد الفاصل بين إنقاذ الحياة وإطالة أمد الموت. بقدر ما كان تصريحًا لمسئولي الرعاية الصحية لخلع أنبوب الأكسجين عمن نحب.
كورونا: كوميكس تويتر ممرات للجحود
وصلت اللعبة إلى مرحلة الحسم في منافسة غير عادلة مع انتشار فيروس كورونا. ففي الأسابيع الماضية أعلن الخبراء مرارًا وتكرارًا أن فيروس كورونا خطير بشكل خاص على كبار السن. وتم تمرير هذا في كثير من الأحيان كنوع من رسالة مطمئنة للجمهور -طالما أنهم تحت سن الـ 70- ولم تكتفِ التغطيات الإخبارية بأن كبار السن هم في خطر أعلى بكثير، ولكنهم انتقدوا المسنين الذين غادروا منازلهم عصيانًا للأوامر الطبية والحكومية فيما وُصف بقلة البصيرة.
نظرة وحشية تداولها الشباب بعد تغريدة كتبها مايكل شولمان، الكاتب لدى «نيويوركر» يتساءل عما إذا كان «أي شخص آخر يلاحظ أن الآباء لا يلتزمون كأبنائهم». كان هناك أكثر من 1500 تعليق من أبناء مزعومين بوجهة نظر مماثلة. تضمنت الردود حكايات عن أقارب مسنين يقومون بإجازة في فلوريدا، ويذهبون إلى الكنيسة، ويزورون والديهم البالغين من العمر 101 عام. بينما لم يستطع المسنون الإبلاغ هم الآخرون عن أبنائهم الذين تركوهم وحيدين لقضاء عطلة كورونا على الشاطئ؛ لأنهم لا يدخلون إلى تويتر.
سعى البعض لتبرير موقف المسنين كشهادة أخلاقية لم تجد مجالًا لها. ففي مقالها على موقع «فوكس»، فسَّرت لويز أرونسون، أستاذ الطب في جامعة كاليفورنيا، أن شعور المسن بذاته لا يتغير وإن تغيرت ملامحه في المرآة. حتى إن بعض المسنين يُفضِّلون عدم اعتبارهم ضعفاء مهددين بالخطر إذا أصابهم الفيروس.
سبب آخر لانتشار المسنين في الشوارع هو تأكيد حقوقهم الفردية في شراء المتطلبات الأساسية لعدم قدرتهم على الطلب عبر الإنترنت، والسعي وراء علاج للسرطان الذي قد لا يحظى بالاهتمام الذي كان عليه قبل أسابيع، أو حتى نزهة في يوم ربيعي مشمس، وطاولة وقهوة صباحية. تلك المتع البسيطة التي تحافظ على صحتهم النفسية.
ببساطة حددت الحكومة مبدأها لترتيب قوائم انتظار أنبوب الأكسجين؛ وأصبح «وفقًا لاحتمالات النجاح»، بدلًا من «الأشد حاجة». ويتبع المبدأ الحالي وجهة نظر أخلاقية ترى أن تحقيق المصلحة لأكبر عدد هو الخيار الصحيح. ما قد يتم تفسيره على أنه ببساطة عدد الأشخاص الذين تم إنقاذهم، أو على أنه أكبر مجموع من سنوات الحياة حتى لو قل عدد الأفراد. وإذا كان الخيار الأول هو الهدف الأخلاقي الشامل فإن الحكومات تخالف هذا الرأي وتحرم المسنين من أولويتهم لأنهم سيستغرقون وقتًا أطول للتعافي من الفيروس.
لذلك أوصت الحكومات أطباءها ضمنيًّا ورسميًّا بعدم وضع مسن مريض بفيروس كورونا على جهاز التنفس الصناعي. كحل يُجسِّد حيرة النظم حول كيفية موازنة التأثير الاقتصادي للحظر الوطني الكامل مقابل العدد المحتمل للوفيات من الفيروس. وضعف قدرة دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وإسبانيا على التعامل مع الوباء، بينما تجبر هؤلاء في الخطوط الأمامية على اتخاذ خيارات مستحيلة.
دور المسنين: ثقب في نعش الرفاهية
مع انتشار فيروس كورونا حافظت دور المسنين على صحة نزلائها النفسية بعدم تعريضهم للأخبار. وانقطعت الزيارات عن الدور بقرار حكومي. ففوجئ الأجداد بأن أبناءهم وأحفادهم قد غابوا لأسابيع دون سبب. لم يلتفت أحد منهم للوفيات، فهي حدث اعتيادي في تلك الأماكن. لكن كان لدى البعض أسئلة حول ارتداء المارة في الشارع للأقنعة، والبعض ممن عرف بوجود فيروس -وصفه الممرضون بالإنفلونزا- شعر بالخوف على أولاده، والآخرون ظلُّوا يشاهدون المسلسلات بينما يفقدون ذاكرتهم تدريجيًّا بفعل الوحدة.
عزلة مفروضة تحوَّلت خلالها بريطانيا فجأة من مجتمع مترابط يحترم الآباء والأجداد لبلد محاصر بوباء الفيروس التاجي، حيث تجاوز عدد قتلاه في الصين بسبعة أضعاف في بداية شهر مايو/أيار، وكانت الأخبار عن دور رعاية المسنين بمثابة صدمة من نوع خاص.
قدَّر تقرير صادر عن أكاديميين في كلية لندن للاقتصاد (LSE) في 15 إبريل/نيسان أن ما بين 42% و57% من الوفيات الناجمة عن فيروس كورونا في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وإيرلندا وبلجيكا تمت في دور المسنين. وقدَّر المعهد البريطاني الصحي أن المتوفين في دور المسنين يشكِّلون نسبة 40% من النزلاء. كما تم العثور على نزلاء قتلى في دور رعاية المسنين في ظل هرب العاملين في إيطاليا وإسبانيا وبريطانيا. والبقية يأكلون القليل من طعامهم حتى يدوم.
خرجت دور رعاية المسنين عن صمتها منتقدة عدم ضم وفيات المسنين في الدور إلى الأرقام الرسمية لقتلى كورونا. والتي من شأنها أن تضيف 11% من الوفيات الإضافية على الأقل. ويأتي ذلك بعد أن أكدت الحكومة وجود تفشٍ للفيروس التاجي في أكثر من 2000 دار رعاية في بريطانيا، دون ذكر عدد الوفيات التي وقعت.
قررت الحكومة ترك حوالي 410 آلاف مسن في دور رعاية في بريطانيا كالحملان في المذابح، بدون معدات الوقاية الشخصية للممرضات. وتلقت بعض الدور رشاوى لاستضافة المسنين من مرضى فيروس كورونا الذين رفضت المستشفيات استقبالهم. وفي غضون ذلك ظهرت شبهات جنائية؛ بعدما أفادت تقارير بأن الحكومة فوَّتت ثلاث فرص لشراء معدات الوقاية الشخصية بالجملة للعاملين في الرعاية الصحية، كان لدور المسنين منها نصيب. فكان من المقرر أن يتلقى العاملون الصحيون في 25 دولة من دول الاتحاد الأوروبي شحنات بقيمة 1.3 مليار جنيه استرليني في الأيام المقبلة. لكن أفادت صحيفة الجارديان أن بريطانيا أضاعت ثلاث فرص للانضمام إلى الخطة، ولم تشارك في المحادثات بشأن المشتريات المستقبلية؛ ما دفع الممرضات والعاملين بدور المسنين للهرب.
لقاح كورونا لذوي القيمة والغلبة
عند تحديد من يستحق سرير العناية المركزة، كان المبدأ السائد هو تحقيق مصلحة أكبر عدد من البشر. إلا أن هذا المبدأ لم يصمد أمام عمليات الحصول على اللقاح. فاللقاحات التي يتم العمل عليها اليوم تحمي الشباب، ومن شأنها أن تبطئ انتشار فيروس كورونا. لكنها لا تحمي كبار السن الأكثر تأثرًا وضعفًا.
ظهر ذلك عندما أعلن فريق بحث في مستشفى بوسطن للأطفال أنهم الوحيدون الذين يعملون على لقاح فعال لمن هم في أمس الحاجة إليه؛ الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 60 عامًا، ويعانون من أمراض كالسكري وأمراض القلب والرئة والأكثر عرضة للوفاة بالفيروس.
أصبح العلاج تمييزًا جديدًا يتم ضد المسنين في خضم قرارات عالمية برفع الحظر لإنقاذ الاقتصاد دون مزيد من تدابير الصحة العامة. وتولى السياسيون مهمة قول الأشياء كما هي، مثلما خرج مساعد حاكم تكساس، الجمهوري القديم ليؤكد أن كبار السن يُفضِّلون الموت على رؤية تدابير الصحة العامة وهي تضر بالاقتصاد الأمريكي. مُرددًا:
يأتي هذا في ظل تقديرات حكومية بأنها استطاعت حل معضلة القطار، والاختيار بين الناجي والقتيل الخارجين عن المشهد. ومع عدم اعتراض الكثير على ذلك، خرجت بعض الأغاني تحث على ترك هؤلاء الذين عاشوا حياتهم يموتون من أجل البقية. وظلت بعض الأصوات الخافتة في الخلفية لمن يرى في ذلك حرمانًا للأحفاد أنفسهم من اللعب مع أجدادهم. مُحذِّرة من هذا الجيل الذي سيسعى لمقاضاة الآباء على جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبونها حاليًّا.