كانت «لونا Luna» ربة القمر عند الإغريق قديما وأخت «هيليوس» ملك الشمس، تعتلي عربتها التي يجرها حصانان مجنحان، أحدهما أبيض والآخر أسود، تغطيها عباءة لامعة هي الهلال، لتتبع الشمس في رحلتها الأبدية حول الأرض على متن عربتها ذات الأربعة أحصنة.

ورغم جمالها وحبها للبشر،فإنها كانت أنانية، وقد أحبت الأمير الراعي «إنديميون Endymion»، البشري الشاب الوسيم، فطلبت من «زيوس» ملك الآلهة أن يحفظ شبابه وجماله للأبد. وافق زيوس لكنه اشترط أن ينام الراعي في كهف مهجور للأبد، بهذا فقط يحفظ شبابه، لا يستيقظ وغير مدرك لما يدور حوله. وافقت لونا على الشرط القاسي على الراعي وظلت تقضي باقي لياليها معه في كهفه لتغمره بقبلاتها التي لا يشعر بأي منها.

القمر الحالي قمر طيب، ذهبنا إليه عدة مرات بمركباتنا الفضائية، وهبط عليه بضعة رواد بشريون دون أن تؤذيهم لونا بحبها، هذا بجانب الكثير من المسابير التي دارت حوله أو استكشفت سطحه لسنوات متعددة. لم يكن هذا هو الحال دائما، فالقمر قديما ربما كان بنفس درجة الأنانية التي حملتها الجميلة لونا، أو حتى مصاب بالغيرة من الأرض، ذات الغلاف الجوي، والذي كان مضطربا آنذاك، منذ بضعة مليارات من الأعوام.

قرر القمر أن يصبح له غلافه الجوي الخاص، وتكفلت الانفجارات البركانية العنيفة على سطحه بهذه المهمة.


منذ مليارات الأعوام

كان هذا منذ حوالي 3.5 مليار عام، والقمر بعمر مليار عام آنذاك، طفل صغير ما زال، ويحوي بقلبه الكثير من الطاقة والنشاط الجيولوجي، والبركاني بالطبع. كونت الحمم البركانية البحار القمرية Lunar Maria، وهي المناطق المعتمة التي نراها حين ننظر للقمر في أي ليلة صافية.

لم يقتصر دور البراكين العنيفة على طلاء القمر بهذا اللون الفضي المعدني المعتم، لكن كان لها دور آخر، فالآن أصبح للقمر غلافه الجوي الخاص، المكون من الانبعاثات البركانية المتطايرة في سمائه، وهو الغلاف الذي كان يمكن أن يرى من سطح الآرض، لولا عدم وجود حياة آنذاك.

هذا ما تقوله الورقة الجديدة الذي نشرت الشهر الفائت على Earth and Planetary Science Letters بعنوان: «النشاط البركاني القمري تسبب في غلاف جوي مؤقت حول القمر القديم»، للعالمين «دبرا نيدام Debra H.Needham»، و«ديفيد كرينج David A.Kring» من مركز اسكتشاف وعلوم القمر Center for Lunar Science and Exploration، وناسا.

يقول البحث إن القمر الحالي لا يمتلك غلافا جويا بالمعنى المفهوم -وهو ما نعرفه بالفعل- إلا أن هذا لم يكن حاله منذ أكثر من ثلاثة مليار عام، فالنشاط البركاني العنيف أنتج غازات وغبارا بوتيرة متسارعة كانت كافية لتغطية القمر بغلاف جوي وصل ضغطه لحوالي 1 كيلو باسكال (kPa)، يماثل هذا مرة ونصف الضغط الجوي على كوكب المريخ حاليا، و1% من الضغط الجوي الأرضي، تزامن هذا مع الفترة التي تكونت فيها البحار القمرية.

على الأغلب كان الغلاف الجوي القمري مائل للبني بمسحة صفراء، وذلك بسبب تركيز الكبريت فيه، وهذا ما جعله ممكن الرؤية من الأرض
هكذا قالت ديبرا لمجلة Sky and Telescope

استمر هذا الغلاف مع النشاط البركاني حوالي 70 مليون عاما، إلا أن توقف البراكين بعد ذلك مع جاذبية القمر الضعيفة جعلت من الصعب على القمر أن يحتفظ بغلافه الخفيف. فقد القمر معظم الغلاف للفضاء الخارجي، وربما لم يحتفظ إلا بـ 0.1% منه، ليس في الحالة الغازية، فهذه النسبة ربما كانت هي المياه التي قد احتفظ بها القمر على سطحه في الأماكن المظلمة دائما في القطبين.


مياه على القمر؟

المناطق الزرقاء توضح المناطق المحتمل وجود الماء بها حول قطبي القمر

رغم أنه زعم قديم عند العلماء، ربما منذ الستينيات، فإن الأبحاث المشتركة بين ناسا ووكالة الفضاء الهندية باستخدام المسبار القمري شاندرايان1 Chandrayaan-1 أكدت وجود مياه بالفعل، ليست سائلة بالطبع كما نجدها على الأرض لكنها متجمدة ومختبئة في الفوهات القمرية في القطبين، حيث لا يصل إليها ضوء الشمس أبدا، مما يجعلها مخزنا دائما للمياه. وفي ورقة بحثية نشرت في يوليو لهذا العام على مجلة «ناتشر Nature» اقترح العلماء وجود كم ضخم من مياه سائلة في قلب القمر تحت سطحه كذلك.

دراسة وجود مياه على القمر مهمة لأكثر من سبب؛ ربما يرغب البشر في بناء قاعدة فضائية دائمة على القمر، ووجود مياه على سطحه سيوفر الكثير من الموارد، حيث إن نقل المياه في الفضاء هو من أصعب المهام وأكثرها تكلفة، ووجودها في القمر سيجعل المهمة أسهل بالطبع. كما أن وجود بعض الغازات متجمدة في الثليج كأول أكسيد الكربون والكبريت وغيرهم قد يستخدم كمورد غير متوقع للطاقة كذلك بشكل ما، مما يؤهل القاعدة القمرية أن تكون محطة انطلاق لمهام أبعد في الكون كذلك فدراسة تاريخ تكون القمر يحتاج لدراسات جيولوجية تفصيلية عن تكوينه، خصوصا أن القمر يتميز بأنه التابع الأكبر بالنسبة لحجم الكوكب الذي يدور حوله.

الآن هناك سبب آخر محتمل لوجود مياه على سطح القمر كإضافة على الآراء التي تقترح ارتطام نيازك أو كويكبات بسطح القمر كمصدر وحيد للمياه. ويقول العالمان في البحث إنه لو ظلت نسبة 0.01% فقط من المياه التي خرجت من قلب القمر مع الانفجارات البركانية في القطبين، لكونت كل ما نجده من مياه الآن.


أبولو ما زال هنا

القمر، براكين، براكين القمر، فضاء

لا نتحدث هنا عن أبولو إله الشمس والضوء، ابن زيوس، لكننا نتكلم عن بعثات أبولو للقمر، صواريخ ساتورن 5 الأسطورية، والتي حملت البشر ليخطوا خطواتهم الأولى على سطح القمر، والتي ما زالت عينات الصخور التي جاءت بها من سطحه تكشف المزيد عن أسراره بين أيدي العلماء، بعد عقود من انتهاء البرنامج وانطلاق آخر رائد فضاء بداخل مركبته القمرية في رحلته عائدا للأرض.

رحلتا أبولو 15 و17 تحديدا زارتا أطراف البحرين القمريين؛ بحر الصفاء Serenitati وبحر الأمطار Imbrium لتأتي منهما بعينات صخرية حدد بها العلماء عمر الانفجارات البركانية التي تسببت في تكوينهما، كما وجدوا أدلة على وجود غازات في العينات، وبدراسة معدل تطايرها قاس العلماء المعدل الذي كانت تتكون به فوق سطح القمر آنذاك، ليجدوا أن هذا المعدل أكبر من معدل التطاير للفضاء، خصوصا في أقوى فترات الانفجار البركاني، منذ 3.8 و3.5 مليار عام.

ساعدت التحاليل التي أجريت على الصخور القمرية من بعثات أبولو العالمين دبرا وديفيد في بحثهما بجانب جمع وتحليل بيانات من أحدث المهمات التي تدور حول القمر الآن وتدرسه بدقة كمسبار الاستطلاق القمري من ناسا lunar reconnaissance orbiter، ومهمة رصد جاذبية وتكوين القمر Gravity Recovery and Interior Laboratory من ناسا أيضا، وكذلك مخطط المعادن القمرية Moon Mineralogy Mapper التابع لناسا لكن على متن المركبة الهندية شاندرايان1 Chandrayaan-1.

دراسة كل هذه البيانات ساعدتنا كثيرا على فهم تطور القمر وتكوينه وغلافه الجوي على مر الزمان منذ نشأته وحتى الآن، وما كان يبدو لنا دائما كوجه أبيض طيب ينير لنا ظلام الليل للأبد، يكشف لنا العلم بعيدا عن الأساطير أنه كان ذا شباب عنيف مضطرب، لم يكن بهذه الطيبة طول العمر، تحتاج فقط للسفر عبر الزمن بضعة مليارات من الأعوام وتنظر للسماء لترى بنفسك.


هذا التقرير نشر كجزء من مشاركة الكاتب في ورشة الصحافة العلمية «الكتابة في المجال العلمي» التي نظمها معهد جوته وDAAD مصر، والمدعومة من وزارة الخارجية الألمانية.

This article is part of the science journalism project “Schreiben über Wissenschaft -الكتابة في المجال العلمي” of the Goethe-Institut and the German Academic Exchange Service (DAAD), supported by the German Federal Foreign Office. More information can be found at https://www.goethe.de/egypt.