حرب النفط وكورونا: روسيا تخسر الحرب والنفوذ الدولي
في مرحلةٍ ما لا بد من انتهاء الهيمنة الأمريكية على العالم، وظهور أستاذ جديد للكون. الأستاذ التالي كانت أغلب التكهنّات تدور حول أنه إما روسيا أو الصين، وفي حالة الشرق الأوسط تحديدًا فكانت الاحتمالات تقترب أكثر من الجهة الروسية. فبينما تُعتبر العديد من دول الشرق الأوسط حليفًا أمريكيًا، إلا أن تلك الدول كانت تعقد صداقات مع روسيا في الوقت ذاته. إلى الحد الذي دفع عددًا من الخبراء والسياسيين الأمريكيين إلى مطالبة الولايات المتحدة بالتخلي تمامًا عن علاقتها بالشرق الأوسط.
الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يبدو صديقًا يمكن الاعتماد عليه أكثر من نظرائه الأمريكيين. بوتين لم يتخل عن بشار الأسد في سوريا، بينما تخلى باراك أوباما، الرئيس الأمريكي السابق، عن حليفه الرئيس المصري الأسبق، حسني مبارك، عام 2011. فروسيا في خيال قادة الشرق الأوسط هي الحليف الإقليمي المفيد والمُنتج عكس الولايات المتحدة التي غالبًا ما تكون مُستهلكةً لخيّرات وموارد حلفائها.
اقرأ أيضًا: انهيار أسعار النفط: كيف حدث ذلك؟
ما يجمع بين دول الشرق الأوسط وروسيا أيضًا أنها دول مُنتجة للنفط. قواسم مشتركة كثيرة لكن تغيّرت الأوراق وقواعد اللعبة في أيام معدودة، كعادة تحالفات الشرق الأوسط. روسيا والسعودية خاضتا حرب نفط ظهرت فيها روسيا بموقف العدو الواضح الذي لا يمكن التحالف معه بعد ذلك. خاصةً أن الدولتين تعتمدان على أرباح النفط في فعل ما تريدان، كخوض الحروب في سوريا وأوكرانيا، أو خوض حرب اليمن.
النفط كان من المفترض أن يكون نقطة مشتركة جديدة بين السعودية وروسيا، لو وافق الجانب الروسي على تخفيض الإنتاج نسبيًا في اجتماع «أوبك» » في مارس/ آذار 2020. لكن مكابرة روسيا وإصرارها على استمرار إنتاجها كما هو، مع طلب أن تقوم السعودية منفردةً بخفض إنتاجها، كانت السبب في خروج السعودية من الاجتماع مُصرةً على زيادة إنتاجها إلى 10 ملايين برميل يوميًا، لهذا انهارت أسواق النفط. إذن كلمة السر في العداء الروسي السعودي كانت النفط، وهو كلمة السر أيضًا في العديد من الشراكات الروسية، فما حال روسيا اليوم بعد أن أدت جائحة «كورونا» لانهيار أسعار وقيمة النفط عالميًا؟
النفط الروسي يُستنزف
النفط الروسي يعاني حتى من قبل أزمة كورونا، فقطاع النفط الروسي مر بأزمات عديدة في تاريخه. أول أزماته الحقيقية كانت عند انهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه، فانخفض الإنتاج من قرابة 12 مليون برميل يوميًا إلى 6 ملايين برميل فقط. لكن عادت روسيا مع الوقت إلى الصدارة، وبدأت تنافس المملكة السعودية على مقعد أكبر مُصدّر للنفط للعالم، لكن تلك الصدارة لم تكتسبها روسيا مجانًا، بل يمكن القول إنها استنزفت حقولها.
الاستنزاف أودى بصحة آبار النفط الموجودة في غربي سيبيريا التي تمتاز بسهولة الاستخراج ونقاء نفطها، مما يُضطر الروس إلى اللجوء إلى حقولهم ذات التكلفة العالية في الاستخراج والتي سوف تحتاج إلى عمليات تكرير أكثر وأغلى. أضف إلى ذلك أن روسيا لا تمتلك معدات متطورة لتنقية النفط بسبب العقوبات الغربية المفروضة عليها. إذن، كان القطاع النفطي في روسيا مريضًا بالفعل قبل أن تصيبه جائحة كورونا.
بعد كورونا انخفضت عائدات روسيا من النفط بنحو 165 مليار دولار، ما يعني أن على الدولة أن تستخدم احتياطها النقدي لتمويل احتياجات الشعب وميزانية الدولة. بجانب التباطؤ الناتج عن انهيار النفط شهدت روسيا تباطؤًا آخر بسبب جائحة كورونا. أعداد الإصابات في روسيا أقل من مثيلاتها في دول العالم، لكن ذلك لا يعني أن روسيا بعيدة عن الفيروس، بل يعني أنها لا تزال في البداية وأن الوباء آخذ في الانتشار.
الأعداد المتزايدة لا تبالي بمحاولات القيصر ممارسة القوة الناعمة بإرسال المساعدات الطبية للدول المصابة مثل صربيا وإيطاليا. لكن توشك روسيا أن تصل إلى السعة القصوى لمستشفياتها العامة، مما يعني أن الدولة سوف تقف عاجزة أمام أعداد المصابين والموتى. وإذا أرادت روسيا أن تنقذ شعبها فسيعني ذلك أن على القيصر أن يتخلى عن سياسته التوسعيّة الخارجية.
عهد الازدهار قد ولّى
الحكومة الروسية تتوقع أن ينخفض ناتجها القومي بنسبة 10%. ووزير المالية الروسي، أنطون سيلوانوف، نفسه قال إنه حتى لو كانت روسيا مستعدة لمواجهة جائحة كورونا، فإن عهد ازدهار الاقتصاد الروسي قد ولى. وأضاف أنه من غير المرجح أن ترى الدولة عائدات النفط المرتفعة مرة أخرى، وأن العقد الأول من القرن الحادي والعشرين قد لا يتكرر في التاريخ الروسي.
التصريحات تبدو قاسيةً لكنها غير متشائمة، بالتأكيد أن وزير المالية يدرك أن انتعاش اقتصاد بلاده بعد الأزمة لن يكون أمرًا يسيرًا. الصعوبة تكمن في العقوبات الغربية التي تطوق روسيا، فلا تستطيع روسيا بيع سلعها الأساسية ولا تستطيع أيضًا الاقتراض من الخارج. في قمة العشرين، التي أقيمت عبر الفيديو، في 26 مارس/ آذار 2020 طلب بوتين رفع العقوبات على السلع الأساسية، ثم قدمت روسيا بعد عدة أيام طلبًا رسميًا للأمم المتحدة كي تخفف العقوباب، لكن في المرتين قُوبل الطلب بالرفض القاطع.
سوف ينعكس ذلك على السياسة الخارجية بطريقة غير مباشرة، الشعب الغاضب. بوتين ليس رئيسًا يدعم الشركات الصغيرة التي انهارت بسبب الجائحة، وليس من النوع الذي يُقدّم دعمًا ماديًا للمواطنين. في آخر خطاباته أعلن عن دعم للشركات الناشئة، لكنه كان ضئيلًا للغاية، يتمحور فقط في تأجيل مواعيد استحقاق القروض والضرائب عدة أشهر. تخلي الحكومة عن الشعب سوف يصب مزيدًا من البنزين على نار الشعب المشتعلة بسبب التعديلات الدستورية التي اقترحها بوتين منذ أشهر، وتسمح له بالبقاء في السلطة لما بعد عام 2024.
خاصة واستطلاعات الرأي تقول إن 55% من الروس يريدون أن تنسحب روسيا من سوريا، و37% آخرون يتوقعون أن سوريا سوف تصبح أفغانستان جديدة يذوق فيها الروس الجحيم. فمع عدم وجود أموال كافية لتمويل إعادة الإعمار أو لدعم استمرار الحرب أو لإسكات الشعب الغاضب، قد يعني ذلك أن روسيا عليها أن تتخلى عن سوريا. حتى لو لم يكن تخليًا كليًا لكن عليها أن تتراجع عدة خطوات للوراء خاصةً مع وجود إيران التي بدأت تتعارك مع روسيا حول النفوذ في دمشق.
على روسيا أن تتراجع
وعلى ذكر استطلاعات الرأي فإن استطلاعات أخرى تُظهر أن الشعب الروسي منزعج من «مغامرات» السياسة الخارجية، عام 2019 يرى 42% أن سياسات بوتين الخارجية ناجحة، بعد أن كانوا 60% عام 2017. ويرى 27% أنها فاشلة تمامًا، بينما يقف الآخرون في منطقة بين أنها غير ناجحة لكنها ليست فاشلة.
المغامرات الروسية ليست في سوريا فقط، بل شملت ليبيا أيضًا. لكن ليبيا قدمت برهانًا أن عدم قدرة روسيا عى دفع مبالغ ضخمة سوف يجعلها عاجزة عن إنفاذ ما تراه، فقد فشلت روسيا في إرغام الجنرال «خليفة حفتر» على توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار مع الحكومة المُعترف بها أمميًا. كما أن أوكرانيا التي رفضت بشكل قاطع طلب الروس تخفيف العقوبات، وندّدت كذلك بكون الأمم المتحدة تقبل أمرًا كهذا من حيث المبدأ، تراهن على أن نضوب الموارد الروسية أو ندرتها سوف يؤثر على الوجود الروسي في شبه جزيرة القرم.
اقرأ أيضًا: كيف دفعت المواجهة السعودية الروسية أسعار النفط إلى الانهيار؟
كل ما سبق يحصر روسيا في خانة البحث عن إجابة لسؤال وجودها في الدول المختلفة، وكيف ستكون سياساتها الخارجية في الأعوام المقبلة. بالتأكيد لن تتخلى روسيا عن كونها لاعبًا إقليميًا رئيسيًا، لكن على الأقل يجب عليها أن تقلل من دورها. كأن تقلل تدخلاتها العسكرية والاقتصادية في دول المنطقة، وتكتفي بعدة مكاسب استراتيجية تضمن لها قدرًا معقولًا من النفوذ. كأن تُجمد نشاطها في سوريا لكن تحتفظ بنفوذها على الأسد، وتُحجم وجودها في ليبيا، وبالطبع عليها أن تسعى لعلاقة أكثر ودية وأقل ندية مع دول الخليج العربي.