فيلم «عن الآباء والأبناء»: عن الجيل الثاني من الدواعش
أب محب لأطفاله، لكنه ﻻ يتورع عن إرسالهم إلى الموت باسم الدين.
هذا هو محور الفيلم التسجيلي «عن الآباء والأبناء Of Fathers and Sons» للمخرج طلال ديركي، المولود في دمشق بسوريا، ويعيش مع أسرته في المنفى، في برلين بألمانيا. في هذا الفيلم يعود ديركي إلى سوريا، وبالتحديد إلى ريف إدلب، لينخرط وسط المجتمع الجهادي المتطرف، بوصفه أحد المتعاطفين مع الفكر الجهادي، لما يقارب العامين عاش فيهما وسط عائلة أحد الجهاديين بجبهة النصرة، يرصد حياته اليومية وبشكل خاص علاقته بأطفاله.
يعتبر الفيلم الجزء الثاني من ثلاثية سينمائية عن الحرب في سوريا. حقق ديركي الجزء الأول بعنوان «العودة إلى حمص The Return to Homs» والذي فاز عنه بجائزة سينما العالم للأفلام التسجيلية من مهرجان صندانس، أكبر وأهم المهرجانات بالولايات المتحدة الأمريكية، عام 2014. يتناول الفيلم كيف تحولت الثورة السلمية إلى نزاع مسلح، من خلال التركيز على مدينة حمص وما لحق بها في السنوات التي أعقبت الثورة.
يعود ديركي هذا العام إلى مهرجان صندانس ويفوز بالجائزة نفسها عن الجزء الثاني من سلسلته، فيلم «عن الآباء والأبناء». كما شارك الفيلم في مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة بمهرجان الجونة السينمائي في دورته الثانية، والمنعقدة في الفترة من 20 إلى 28 سبتمبر الماضي، وحصد جائزة النجمة الفضية.
على مدار سنوات الحرب السورية الثمانية، حققت الكثير والكثير من الأفلام السينمائية التسجيلية والروائية التي تتخذ من الحرب موضوعًا لها، غير أن ديركي يغوص إلى أعماق الحرب، ويرصدها من الداخل، متجاهلاً كل المخاطر التي تحف هذا الاقتراب، ومحافظًا في الوقت نفسه على التوازن ما بين الهدف الأقرب وهو توثيق سوريا في سنوات الحرب، وبين الهدف الأبعد وهو تحقيق فيلم سينمائي ﻻ تتغول فيه الجوانب الإنسانية على تلك الفنية. فنحن هنا بصدد عمل فني حقيقي، وليس فقط مغامرة مهنية لمخرج قرر أن يتحدى الخطر، ويعيش على حافة الموت لعامين كاملين.
فيلم يستحق المخاطرة
لم تكن المهمة سهلة، فقد كان على ديركي أن يكتسب ثقة المجتمع الجهادي في إدلب. يقول ديركي عن ذلك: «قدمت نفسي كمصور حرب، وعرضت عليهم لقطات من فيلمي الأول، واصطنعت موالاة الحركة الجهادية، فاكتسبت ثقتهم».[1] ويضيف أنه قام بعدد من المداخلات مع الإذاعات السورية المعارضة، وتعمد مدح المجاهدين في هذه المداخلات وقدم نفسه بأنه معتنق لأفكارهم، وأفاض في وصف نور الإيمان الذي دخل قلبه، والحديث عن الظلمات التي عاشها الشعب السوري تحت حكم نظام الأسد.
مخاطرة كبيرة بالطبع تلك التي كان على ديركي ومدير تصويره «قحطان حسون» أن يخوضاها لمدة عامين، للخروج بأصدق صورة عن المجتمع الجهادي وكيف ينشأ الجيل الثاني من الأبناء في أجواء الحرب السورية. يقول ديركي إنه قام برسم مخطط كامل لباقي طاقم العمل لاستكمال الفيلم حال لقي مصرعه.
الخط الأساسي لفيلم «العودة إلى حمص» هو خط سياسي يقوم على توثيق واقع مدينة حمص من خلال شخصيتين؛ إحداهما اتخذت التوجه السلمي، والأخرى قررت حمل السلاح.يقول ديركي: «خرجت من فيلمي الأول وأنا أشعر أنه لم ينته، فالوضع يتطور بسرعة كبيرة، وأنا أمتلك العديد من العلاقات وقنوات الاتصال بالمجاهدين، كان علي أن أستغلها»، ومن هنا خرج فيلم «عن الآباء والأبناء».
الجهاد أسلوب حياة
على مدار العامين، وفيما يتخطي 300 ساعة تصوير،[1] رصد طلال ديركي الحياة اليومية لأبي أسامة، أحد الأعضاء البارزين في جبهة النصرة، الذراع العسكري لتنظيم القاعدة في سوريا، وهو أيضًا أب متفانٍ ومحب لأطفاله الثمانية.
أبو أسامة هو متخصص بالمتفجرات، يقوم بتفكيك السيارات المفخخة، وتفخيخ السيارات، والكشف عن الألغام وتفكيكها. عمل محفوف بالمخاطر، لكنه يقوم به بشكل اعتيادي، كما لو كان مدرسًا، أو عاملاً بسيطًا. يؤمن أبو أسامة بأن الجهاد هو فرض ﻻ مفر منه، فالأمر بالنسبة له يتجاوز مجرد الإيمان بأيديولوجية إلى الاعتناق الديني الكامل،يقول ديركي: «هذا رجل يؤمن بما يفعله بنسبة 100% ولا يداخله أي شك».
الكثير من المشاهد نرى فيها أبا أسامة يقوم بعمله ويواصل حياته اليومية كما لو كانت حياة طبيعية في أكثر المدن الهادئة في العالم، وليس في إدلب، أحد معاقل الحرب السورية الطاحنة. في أحد المشاهد نسمع حديثه الشاعري عن حادثة اعتقاله بصيدنايا، وكيف أنه كان يشم رائحة ابنه أسامة وﻻ يراه، تفيض كلماته بمشاعر الأبوة، بينما هو في الوقت نفسه يقوم بقنص أحد الأشخاص. ﻻ يشعر أبو أسامة بأي تناقض، فهذه هي حياته الطبيعية.
في مرحلة متقدمة من الفيلم يصاب أبو أسامة أثناء قيامه بتفكيك أحد الألغام، ويضطر الطبيب لبتر ساقه اليسرى. يعلق أبو أسامة على الحادثة: «لقد دعوت الله أن يكون ابتلائي في ساقي اليسرى وليست اليمنى، حتى أتمكن من قيادة السيارة». هكذا بكل بساطة، كل ما كان يشغل باله هو أن تنجو ساقه اليمنى، ليتمكن من قيادة سيارته ومواصلة الحياة.
هذا عن الأب، ولكن ماذا عن الأبناء؟
يعيش الأطفال في أجواء الحرب كبيئة طبيعية، كما لو كانت وضعًا صحيًا ﻻ شاذًا. يحرص الأب على تلقين أبنائه معتقدات الجهاد، يحضر العنف في عالمهم كما لو كان من طبائع الأمور. نرى العنف الممارس ضدهم من الآباء، ونرى عنفهم ضد بعضهم البعض، واستضعافهم للنساء والحيوانات والطيور.
في أحد المشاهد ينصب الأطفال فخًا لطائر صغير ويمسكون به، يسأل الأب ابنه الأصغر: «ماذا فعلت بالطائر؟» يجيب الابن: «ذبحناه». ليصيح الأب: «الله أكبر». هكذا بكل بساطة. في مشهد آخر نرى الأب بصحبة أطفاله يقومون بصناعة قنبلة منزليًا، يتبارى الأطفال في استرجاع خطوات صناعة القنبلة، وبعد الانتهاء من صنعها يتداولون اللعب بها إلى أن تنفجر مصدرة دويًا عظيمًا فزع له كل من حضر عرض الفيلم بإحدى قاعات السينما بمنتجع الجونة، كما لو كان ما يرونه على الشاشة هو من نسج خيال المخرج، وليس توثيقًا لممارسة اعتيادية في حياة المجتمع الجهادي.
عن الأبناء
أكد ديركي أن الأبناء هم أبطال فيلمه، وبالإنجليزية «The Protagonists»، أما الآباء فهم أضداد الأبطال، أو «Anti-Protagonists». من بين ثمانية أطفال لأبي أسامة، يركز ديركي على أكبر أبنائه، أسامة (13 عامًا)، وأيمن (12 عامًا). سمى أسامة تيمنًا باسم زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن ﻻدن، أما أيمن فهو على اسم الرجل الثاني في التنظيم، أيمن الظواهري. هكذا بكل أريحية يتفاخر الأب بأسماء أبنائه الذين اختار لهم مصيرهم منذ أن تفتحت عيونهم على الدنيا، غير أن مراقبة الطفلين تحيلنا إلى واقع مغاير.
على مدار ما يقرب من 100 دقيقة، نراقب أسامة وأيمن، ونرى كيف تتباين الشقة بين الشقيقين. أسامة يميل إلى العنف، يعتنق أفكار أبيه عن الجهاد المسلح، وإن كان يفتقر إلى مظاهر التدين البسيط. في أحد المشاهد نسمع حديث الأخ الأصغر «عمر» عن أسامة، وكيف أنه يكذب بشأن الصلاة، وأنه بذلك يكفر ويخرج عن الملة، وفقًا لعبارات الطفل المستقاة من الأب.
في أحد المشاهد نراقب أسامة في عراكه مع أحد الأطفال، بينما تتحلق حولهم مجموعة أخرى من الأطفال يراقبون العراك في تلذذ واضح. يقع أسامة أرضًا، بينما يصيح الأطفال من حوله «قتلك.. قتلك».
وبينما نرى أسامة وقد قتلت طفولته على مرأى من أبيه، يتمسك أيمن بطفولته، وينبذ العنف، ويرغب في مواصلة تعليمه. في مرحلة متقدمة من الفيلم، يزج الأب بابنيه في أحد معسكرات التدريب، نتابع التدريبات الصارمة لأطفال لم تتجاوز أعمارهم الثالثة عشر، يتطاير الرصاص ما بين أقدامهم، وتحفهم النار من كل جانب. يعود الطفلان من المعسكر مع تنويه من المسئولين عن التدريب بأن أسامة من المتفوقين، في حين أن أيمن غير جاهز للجهاد، لضعف لياقته وشروده الدائم.
السرد بين التقني والتسجيلي
خرج ديركي بعد عامين بمادة فيلمية ضخمة، وكان أمامه أن ينتقي منها ما يؤدي به إلى هدفه المباشر (التوثيق)، دون الإخلال بتماسك الفيلم على المستوى الفني.
أعمال المونتاج هي بحق أقوى العناصر الفنية في فيلم «عن الآباء والأبناء». فأن يخرج الفيلم في أقل من 100 دقيقة من إجمالي 300 ساعة، ليست بالمهمة السهلة، ناهيك عن الخروج بها بشكل فني.
اعتمد ديركي بشكل كبير على السرد من خلال الصورة، فنلاحظ أن التعليق الصوتي جاء في حد الأدنى، بهدف إضافة منظور شخصي على قصة الفيلم، من خلال المقاربة بين علاقة ديركي الشخصية بأبيه، وبين علاقة أبي أسامة بأبنائه، وبين نشأته في سوريا ما قبل الحرب، وبين نشأة جيل كامل من الأطفال لم تعرف حياتهم سواها. في أحد المشاهد نرى الأطفال يراقبون قصف الطائرات لمدينة إدلب، ﻻ يحاولون الاحتماء، ولكنهم يقفون مكانهم يراقبون الطائرات، فهذا ليس بالأمر الشاذ، ولكنها حياتهم الطبيعية.
اعتمد ديركي على المونتاج المتوازي لتقديم شخصيتي أسامة وأيمن. نرى ذلك في مشاهد المعسكر التدريبي، فبينما يقوم أسامة بتسلق أحد الجدران معتمدًا على الحبال، نرى في لقطات موازية أيمن وهو يلعب بالحصى، يعلوه ملل واضح من وجوده في هذا المعسكر. في مشهد آخر نرى أيمن يلعب بالحصى مع أحد الأطفال، وفي الخلفية أصوات ضرب النار، حيث أسامة يعلمه أبوه استخدام السلاح.
أثناء حضوري للعرض الأول للفيلم بمهرجان الجونة السينمائي، جاءت جلستي بالكرسي المجاور لأحد الممرات، وقبالتي جلس رجل مصري خمسيني، وخلفه جلست امرأة خمسينية أجنبية. وبينما تعرض الشاشة مشاهد نقل أبي أسامة إلى المشفى بعد إصابته، يعتدل أبو أسامة جالسًا، وتتحرك الكاميرا ببطء لتمسحه من أعلى إلى أسفل، لنرى في النهاية ساقه المبتورة للمرة الأولى. عند هذه اللحظة صاحت المرأة الأجنبية: «Oh, No»، ليرد عليها الرجل المصري: «أوه نو إيه.. ما يغور في داهية»!
أعقب الفيلم ندوة للمناقشة بحضور المخرج طلال ديركي، شارك في المناقشة الممثل السوري «جمال سليمان»، الذي وصف الفيلم بالـ«مضلل»، وأنه محاولة للتعاطف مع الجهاديين السوريين.
مشهدان معبران عن مدى تأثير الفيلم، فما جمعه ديركي من مادة فيلمية في أقل من ساعتين هو أكثر مما يستطيع المشاهد العادي استيعابه ومعالجته والخروج منه بدرجة من درجات الاستقرار النفسي والذهني. وعليه فإن أقرب الطرق إلى هذا الاستقرار هو الإنكار التام. لكن الفيلم يحاول توثيق الحياة اليومية لجيل من الأطفال نشأوا بين جنبات حرب مشتعلة، ولم يعرفوا غيرها مرادفًا للحياة.
واصل ديركي المناقشة في محاولة -تبدو بائسة- لإقناع الحضور الساخط بأن فيلمه لم يكن إﻻ عن هؤلاء الأطفال الذين يعيشون حياة شاذة بوصفها طبيعية، وأن فيلمه هو بمثابة نذير للضمير الإنساني لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
- المخرج طلال ديركي في ندوة لمناقشة الفيلم بمهرجان الجونة السينمائي، 23 سبتمبر 2018