أوديب الملك ويسار 30 يونيو
في مسرحيته «أوديب ملكًا» يحكي «سوفوكليس» عن طفلٍ رضيع وجده أحد الرعاة موثق القدمين عند سفح أحد الجبال، فأخذه وأعطاه إلى ملك كورنثة ليتخذه الملك والملكة ابنًا لهما. كبر الفتى وأخذ البعض يشككونه في بنوته من الملك فخرج يستشير الآلهة التي أخبرته: «سوف تقتل أباك وتتزوج من أمك».
لم يتحمل «أوديب» هول النبوءة فقرر الهرب من المدينة ورحل إلى طيبة حيث قابل في طريقه إليها رجلًا فتخاصما فقتله. وصل أوديب إلى مملكة طيبة واستطاع حل لغز «سفنكس» وأنقذهم من شرها. فرح شعب طيبة بهذا الأمر في نفس الوقت الذي جاءهم فيه خبر وفاة ملكهم في طريقٍ ذات شعب فقرروا أن ينصّبوه ملكًا ويزوّجوه من «جوكاستا» زوجة الملك السابق.
تولى أدويب الحكم وأنجب من جوكاستا ولدين وابنتين، وبعد مضي سنوات حلّت لعنة على طيبة وساد الخراب والدمار في كل البلاد. حاول أوديب البحث جاهدًا عن سبب اللعنة فأخبرته الآلهة أن قاتل الملك السابق يحيا بينهم وهو سبب هذه اللعنة، فتوعد بكشف القاتل وعقابه.
في تلك الأثناء بلغه خبر وفاة ملك كورنثة ففرح أشد الفرح لفشل النبوءة، غير أن خادم ملك كورنثة الذي حمل إليه الخبر أخبره أنه لم يكن ابن هذا الملك وأنه هو بنفسه من استلمه من أحد الرعاة، ليكتشف فيما بعد أن الرجل الذي قتله في طريقه إلى طيبة هو أبوه وأن المرأة التي يضاجعها في فراشه هي أمه.
لم يستطع أوديب تحمل هول الحقيقة وقسوتها كما لم يتحمل حقيقة أنه سبب هذه اللعنة التي حلّت بالبلاد، فما كان منه إلا أن فقأ عينيه ورحل عن طيبة إلى غير رجعة. لم يكن أوديب حقًا يعلم نسبة الرجل الذي قتله ولا حقيقة المرأة التي يضاجعها غير أنه لم يستطع نفي مسئوليته عن كل ما حل بالبلاد.
خمسة أعوام مضت على 30 يونيو/حزيران ولا يزال المصريون يحصدون آثارها الكارثية. استولى العسكر على السلطة وانفردوا بالحكم، كمموا الأفواه وملأوا السجون بشباب هذا البلد، باعوا الأرض بثمنٍ بخس وأغرقوا البلاد في الديون، جفّ نهر النيل بفضل سياساتهم الرعناء مثلما جفّ الأمل في نفوس الشباب بين طريدٍ وسجين ومكلوم.
لكن هل يمكن للمرء أن يتناسى جهد «المثقفين» والنشطاء الذين دعوا وأيدوا ودعموا حراك الثلاثين من يونيو وما تلاه؟ بالتأكيد لا يمكننا أن ننكر جهدهم وقتذاك والذي استمر طيلة شهر ونصف ولم يتوقف إلا مع مذبحة رابعة لضخامة أعداد القتلى وطريقة الفض لا لمبدأ رفض القتل ذاته!
راهن «مثقفو ثلاثين يونيو» من اليسار الليبرالي على عبقريتهم الفذة التي صورت لهم قدرتهم القفز على الجيش، الذي يملك القوة والمال والإعلام، والوصول للسلطة بعد أن يقوم العسكر بإزاحة الإسلاميين من طريقهم. اتسم اليساريون بسذاجة غير مسبوقة حين انقلبوا على ديمقراطية قد ناضلوا من أجلها طيلة ثلاثة عقود مضت. لكن هل يمكننا أن نقبل تبريراتهم واعتذاراتهم لما فعلوه؟
لا تمر ذكرى للثلاثين من يونيو دون أن يمطرنا مثقفو اليسار الليبرالي، الذين تواطئوا مع العسكر، باعتذارات واهية لما اقترفته أيديهم. فتارة يخبروننا أنهم ما أرادوا إلا الخير وأنهم بالتأكيد لم يتوقعوا ما آلت إليه البلاد ولم يتوقعوا أن ينفرد العسكر بالسلطة.
يمكننا أن نقبل مثل هذا العبث ونتفهم هذه السذاجة لو أن المتحدث ذو تعليمٍ متوسط أو من عامة الشعب، لكن حينما يتبنى تلك المواقف أساتذة جامعيون درسوا ودرّسوا تاريخ الانقلابات في أمريكا اللاتينية وتركيا وإيران! فإن اعتذارًا كهذا أسخف من الموقف ذاته. لم يسأل أي منهم نفسه ولو لمرة لماذا يمكن للعسكر أن يتنازلوا لنا عن السلطة بعد أن يزيحوا الإخوان المسلمين؟
رجال أعمال نظام مبارك يملكون المال والإعلام، والعسكر يملك وسائل العنف، فماذا نملك إذن؟ نعم، تفكير كهذا هو تفكير برجماتي يتجاوز كل المثل العليا: «إرادة الشعب»، «الديمقراطية»… إلخ، لكن المشكل الأكبر ليس في أن تكون برجماتيًا بقدر أن تفشل في أن تكون برجماتيًا.
جاوبت «رباب المهدي»، أستاذة العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية، على سؤال: ماذا نملك بالجماهير؟ تسخر من هؤلاء الذين حذروا من كارثية المشهد وتتهمهم بأنهم لا يرون الجماهير ولا يؤمنون بقدرتها. أي جماهير؟ الجماهير التي حملت رجال الشرطة التي قامت عليهم ثورة يناير على الأعناق، أم الجماهير التي اختارت في خمسة استحقاقات انتخابية متتالية الإسلاميين على حسابهم؟ ثم ألم تختَرْ الجماهير من قبل الفاشية والنازية؟
عبث كهذا لم يتوقف مع مذبحة رابعة العدوية، بل كتبت بعد المذبحة بأسبوع مقالًا تراهن فيه على ما أسمته بـ«الجناح الديمقراطي» المدني في حكومة الانقلاب. قدرة غير مسبوقة ولا ملحوقة على الجمع بين المتناقضات. ستطل علينا هذه السيدة بعد أربعة أعوام لتخبرنا أنها كانت مهددة قبل حراك 30 يونيو وطلب منها السكوت وعدم التحدث، ما يدفع المرء للتساؤل إذن: لماذا كان كل هذا الترويج لـ30 يونيو، أم أنه اللعب على ضعف ذاكرة «الجماهير»؟
لا تهمني نوايا هؤلاء المثقفين، فحتى لو افترضنا جدلًا بأنهم لم يكونوا على علمٍ بما ستؤول إليه الأمور فهذا لا يصنع منهم أبرياء، أن تكون «ساذجًا» لا يغفر خطاياك. ما يهمني أن ما قد وقع تم وسط ترحيب وتأييد وترويج هؤلاء المثقفين وأنهم حتى الآن لم يتحملوا مسئولية قراراتهم ومواقفهم الحمقاء.
حينما لاحت الحقيقة لأوديب لم يتردد في أن يعلن للجميع مسئوليته عن اللعنة التي حلت بالبلاد رغم أنه فعلًا لم يكن يعلم أن المرء الذي قتله هو أبوه وأن المرأة التي يضاجعها هي أمه، بينما مثقفونا على استعدادٍ تام بأن يجمعوا كل الاعتذارات والتبريرات حتى لا يتحملوا مسئولية ما اقترفته أيديهم.