عقدة أوديب الإسلامية في فرنسا – مترجم
*أوليفر روي7 يناير 2016 القضية الجهادية الفرنسية ليست متعلقةً بالدين أو بالسياسية؛ بل بالتمرد الجيلي.
تخوض فرنسا حربًا!، ربما، ولكن ضد من أو ماذا؟
في نوفمبر الماضي، عندما دبّر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) حوادث إطلاق النار المتفرقة التي أسفرت عن مقتل 130 شخصًا في باريس؛ لم يرسل التنظيم سوريين لتنفيذ الهجوم. ومنذ عام، عندما نفذ تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية – وفق المزاعم – هجومًا على مكتب مجلة تشارلي إيبدو، لم يرسل مسلحين من اليمن؛ بل اجتذب التنظيمان المنفذين من مخزونهم من الشباب الفرنسيّ المتطرّف الساخط الذي، بغضّ النظر عما يجري في الشرق الأوسط، يبحث عن هدف، انتماء، أو خطابٍ يستطيعون نسب بصماتهم الدمويّة له.
تتّسم تلك الحرب الخاصة بالشباب بالانتهازية؛ فاليوم، يستغلّ تنظيم الدولة الإسلامية الفرصة؛ وبالأمس، استغلها تنظيم القاعدة؛ وفي العام 1995، استغلها التابعون للجماعة الإسلامية المسلحة الجزائرية، أو مارسوا ترحال الجهاد الشخصي، من البوسنة إلى أفغانستان، مرورًا بالشيشان، وغدًا سيقاتلون تحت رايةٍ أخرى؛ طالما لا يؤدي التعرض للقتل، تقدم العمر، أو خيبة الأمل إلى إفراغ صفوفهم.
ليس هناك جيلٌ ثالث، رابع، أو خلافه من الجهاديين. فمنذ العام 1996، واجهتنا ظاهرة مستقرة للغاية؛ وهي تشدد فئتين من الشباب الفرنسي، وهما الجيل الثاني من المسلمين، والفرنسيّوا الأصل المتحولون إلى الإسلام، وبالتالي فإن المشكلة الأساسيةبالنسبة لفرنسا ليست الخلافة في الصحراء السورية، التي ستختفي عاجلًا أم آجلًا، كالزواج القديم الذي أصبح كابوسًا يخيم على طرفيه؛ بل تتمثل المشكلة في تمرد هؤلاء الشباب. ويكمن التحدي الحقيقي في فهم ما يمثله هؤلاء الشباب؛ سواء أكانوا طليعة حرب ملوّحة، أو على النقيض، مجرد حشو تاريخيّ.
حاليًا، تبرز قراءتان تحديدًا للمشهد وتشكلان المناقشات الجارية على التلفاز وصفحات الرأي في الصحف؛ وهما بشكل أساسي، التفسير الثقافيّ والتفسير المتعلق بالعالم الثالث.
يطرح التفسير الأول نظرية (حرب الحضارات) المتكررة والمزعجة، حيث يقول إن تمرد الشباب المسلم يُظهر مدى عجز الإسلام عن الاندماج مع الغرب، على الأقل طالما يترك الإصلاح الديني الدعوة للجهاد على حالها في القرآن. بينما يستحضر التفسير الآخر معاناةَ ما بعد الاستعمار، الصدى الذي تجده القضية الفلسطينية لدى هؤلاء الشباب، رفضَهم للتدخل الغربيّ في الشرق الأوسط، وإقصاءَهم من قبل المجتمع الفرنسيّ العنصريّ والمصاب برهاب الإسلام. أي أنه باختصار، طالما لم نجد حلًا للصراع الإسرائيلي الفلسطيني؛ سيستمرّ التمرد.
ولكن التفسيريْن يواجهان نفس المشكلة؛ فإن كانت أسباب التطرف هيكليّة، فلماذا تؤثر فقط على فصيلٍ ضئيلٍ ممن يعيشون في فرنسا، الذين يطلقون على أنفسهم (مسلمين)؟ وهم آلاف قليلة وسط عدة ملايين من الأشخاص.
إلا أن هؤلاء المتطرفين الشباب تم رصدهم، فجميع الإرهابيين الذي مارسوا نشاطاتهم بالفعل قد أدرجوا داخل (الملف إس)؛ أي أنهم تحت رقابة الحكومة. لا أتمنى بدء نقاشٍ هنا حول استباق النشاطات الإرهابية، بل أشير ببساطةٍ إلى أن المعلومات المتعلقة بهم موجودة ويمكن الوصول إليها، لذلك فلنلق نظرة حول هويّاتهم ولنحاول استخلاص بعض الاستنتاجات.
ينتمي جميع الجهاديين الفرنسيين تقريبًا إلى فئتين محددتين؛ فهم إما فرنسيون من (الجيل الثاني)، وهم الذين ولدوا أو نشأوا منذ سنّ صغير جدًّا في فرنسا ، أو أنهم فرنسيوا الأصل تحولوا إلى الإسلام (الذين تزداد أعدادهم بمرور الوقت؛ ولكنهم يمثلون بالفعل 25 بالمئة من المتشددين بحلول نهاية التسعينيات). يعني ذلك أنه في صفوف المتشددين، ليس هناك جيل أول من الجهاديين، كذلك لا يوجد جيل ثالث.
ولكن فئة الجيل الثالث في فرنسا تنمو، حيث أصبح المهاجرون المغاربة في السبعينيات أجدادًا الآن؛ ولكننا لا نجد أحفادهم ضمن صفوف الإرهابيين. ويجدر التساؤل أيضًا حول سبب تطلّع المتحوّلين، الذين لم يعانوا أبدًا من العنصرية، إلى الانتقام بوحشية للمسلمين الذين يمرون بتجارب مُهينة؟ خصوصًا في ضوء أن العديد من هؤلاء المتحولين – مثل ماكسيم هوشارد، المولود في نورماندي، الذي يظهر في مقاطع فيديو قطع الرؤوس الخاصة بتنظيم داعش – يأتون من أرياف فرنسا وليس لديهم أسباب قوية للتلاقي مع المجتمع الإسلامي، الذي يعتبر موجودًا نظريًا فقط بالنسبة لهم. باختصار، لا يمثل ذلك (تمرد الإسلام) أو تمرد أحد المسلمين؛ بل مشكلة محددة متعلقة بفئتين من الشباب أغلبيتهم ذوي أصولٍ مهاجرة. وبالتالي فإن الأمر لا يتعلق بتطرف الإسلام، بل بأسلمة التطرف.
لا يلتزم أعضاء الجيل الثاني بإسلام آبائهم، ولا يمثلون تمردًا مناهضًا للتغريب؛ فهم أنفسهم متغرّبون، يتحدثون فرنسية أكثر طلاقة من آبائهم، ويتشاركون جميعًا الثقافة الشبابية الخاصة بجيلهم؛ فقد شربوا الكحوليات، ودخنوا الحشيش، وغازلوا الفتيات في الملاهي الليلية، وقضى عدد كبير منهم فترة في السجن؛ ولكن في أحد الصباحات، أعادوا التحول إلى الإسلام السلفي، الذي يمكن القول إنه يرفض مفهوم (الثقافة)، وهو إسلامٌ يمتلك معايير تسمح لهم بإعادة تشكيل أنفسهم بأنفسهم؛ لأنهم قد تخلَّوْا بالكامل عن ثقافة آبائهم، أو الثقافة الغربية التي أصبحت رمزًا لكراهيتهم لذاتهم.
يتمثل مفتاح ذلك التمرد في غياب بث الدين المتكامل ثقافيًّا، وهي مشكلة لا تتعلق بالجيل الأول، الذي يجلب أعضاؤه الإسلامَ من بلادهم الأصلية؛ ولكنهم لم يتمكنوا من تمريره إلى الجيل التالي ولا الجيل الثالث، الذي يتحدث مع والديه بالفرنسية، والذين تكيفوا مع الطريقة الأمثل للتعبير عن الإسلام في المجتمع الفرنسي، وينسب الفضل في ذلك لهم أنفسهم. إن كان صحيحًا أن هناك أتراكًا داخل الحركات المتطرفة أقلّ من المنتسبين إلى شمال أفريقيا؛ فإن ذلك يعود بلا شك إلى أن تمرير الدين كان أكثر سلاسةً بالنسبة للأتراك؛ بما أن الدولة التركية قد تولّت بذاتها إرسال معلمين وأئمة لجالياتها في الخارج، (مع أن ذلك يولّد مشكلاتٍ أخرى؛ ولكنه يجنّب الأتراك الالتزام بالسلفية وممارسة العنف).
وعلى غرار ذلك، يلتزم المتحولون الشباب بصورةٍ (نقية) من الدين؛ حيث لا يهتمون نهائيًّا بالمساومة الثقافية (ما جعلهم مختلفين تمامًا عن الأجيال السابقة التي تحولت إلى الصوفية). وفي إطار ذلك، ينضمون إلى الجيل الثاني في ولائهم لـ(إسلام الانسلاخ)؛ الانسلاخ الجيلي، الانسلاخ الثقافي، وأخيرًا، الانسلاخ السياسي. من غير المُجدي تقديم (الإسلام الوسطي) لهم كبديل؛ فالتطرف يستهويهم بالأساس. لا تمثل السلفية مجرد صورة من الوعظ تمولها المملكة السعودية؛ بل تمثل أيضًا منتجًا يناسب هؤلاء الشباب الذين يجدون أنفسهم على خلاف مع المجتمع.
علاوةً على ذلك، وهو الفارق الأكبر عن ظروف الشباب الفلسطيني الذي يتبنى صورًا مختلفة من الانتفاضة، لا يفهم الآباء المسلمون للجيل الثاني المتطرف تمرد ذريتهم. أما بالنسبة لآباء المتحولين، فإنهم يحاولون أن يعيقوا (ردكلة) أبنائهم؛ فيستنجدون بالشرطة، وإن غادر أبناؤهم البلاد، يتبعونهم على أمل إعادتهم، ويخافون بشكل مبرّر أن يجتذب الإخوة الكبار صغار إخوانهم. وبعيدًا عن كونهم رمزًا لتشدد الشعوب المسلمة ككل، يفجر الجهاديون البرزخ بين أجيال، الذي يمكن اعتباره بشكل مُبسّط متمثّلًا في العائلة.
يسكن الجهاديون هوامش المجتمعات المسلمة؛ لا يملكون أبدًا – تقريبًا – أي تاريخٍ من الورع أو الممارسات الدينية؛ بل على العكس تمامًا. وتحمل جميع مقالات الصحفيين ذات الصلة قدرًا متشابهًا من الذهول لذلك التحول. وبعد كل هجوم، يطرحون الأسئلة على الدائرة المقربة للقاتل، ودائمًا ما يبرز ذلك الشعور بالصدمة: “يصعب فهم الأمر؛ لقد كان شابًّا لطيفًا” (أو بصورة أخرى: مجرد شابّ جانح غير مؤذٍ”). “لقد كان شابًّا يقظًا؛ تناول المشروبات الكحولية، ودخن المخدرات، وسهر مع فتيات؛ ولكنه تغير بالفعل خلال الأشهر القليلة الأخيرة؛ حيث أطلق لحيته وأفاض علينا من تديّنه الجديد”. أما في حالة الإناث، فيمكنك الاطلاع على فيض المقالات عن حسناء آية بولحسن، (حسناء الجهاد الطائشة).
لا يفسر مفهوم (التقية)، أي إخفاء معتقدٍ ما؛ خشية التضرر من إظهاره، هذه المسألة؛ لأنه بمجرد حدوث (الولادة الجديدة) لهؤلاء الشباب، لا يتمكنون من إخفاء أي شيء، بل يعرضون قناعاتهم الجديدة على فيس بوك، يقدمون صورًا عن أنفسهم العليا الجديدة، رغبتهم في الانتقام لإحباطاتهم المقموعة، اللذة النابعة من القوة الجديدة الممنوحة لهم إثر استعدادهم للقتل، وافتتانهم بفكرة موتهم. يعتبر العنف الذي يشتركون فيه عنفًا حديثًا؛ حيث يقتلون على طريقة ممارسي القتل الجماعي في أمريكا أو أندرس بريفيك في النرويج؛ بدمٍ باردٍ وبهدوء، بالتأكيد يرتبط الفخر والعدمية ببعضهمها البعض بشكل عميق.
تعود النزعة الفردية المتطرفة لدى هؤلاء الشباب إلى عزلتهم عن المجتمعات الإسلامية؛ فالقليل منهم يذهبون بانتظام إلى المساجد. وعادة ما يكون القادة الدينيّون، الذين يختار الشباب في النهاية اتباعهم، أشخاصًا أعلنوا أنفسهم أئمة. وينشأ تطرفهم حول خيالاتٍ مثل البطولية، العنف، والموت، وليس الشريعة أو المثالية. وفي سوريا، يخوضون حربًا فقط، دون تكاملٍ أو مصلحة داخل المجتمع المدني. وإن أخذوا عبيدًا جنسيين أو جنّدوا شابّاتٍ عبر الإنترنت لتصبحن زوجاتٍ لشهداء المستقبل؛ فإن ذلك بسبب أنهم غير مندمجين بأي شكل داخل المجتمعات المسلمة التي يزعمون الدفاع عنها. إنهم عدميّون أكثر من كونهم مثاليين؛ حتى إن قضى بعضهم وقتًا مع جماعات التبليغ، فإن أحدًا منهم لم ينضمّ لاتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، ولم يشارك في أي حركة سياسية، أو بذل جهودًا لدعم فلسطين. كذلك لم يشارك أيّ منهم في نشاطاتٍ لخدمة المجتمع؛ كتقديم وجبات الإفطار في رمضان، ممارسة الدعوة في المساجد، أو حتى زيارة السكان المحليين، لدعوتهم في بيوتهم. لم يقم أيٌّ منهم بدراساتٍ دينيةٍ جادّة، ولم يُبدِ أيٌّ منهم اهتمامًا بدراسة علم التوحيد، أو حتى طبيعة مفهوم الجهاد أو الدولة الإسلامية.
أصبح هؤلاء الأشخاص متشددين داخل مجموعةٍ صغيرة من (الرفقاء) الذين التقَوْا في مكانٍ محدد، (منطقة، سجن، أو نادٍ رياضيّ)؛ فأعادوا إنشاء عائلة، أو أخوية. هناك أيضًا نموذج هام لم يدرسه أحد؛ فعادةً ما تكون الأخوية بيولوجية، وكثيرًا ما تحدث هجماتٌ على يد (أخوَيْن)، مثل: الأخوين كواشي أو عبد السلام، عبد الحميد أبا عود، الذي اختطف أخاه الأصغر، والأخوين كلين، اللذين تحولا إلى الإسلام معًا، ناهيك عن الأخوين تسارناييف، اللذين نفذا هجوم بوسطن في أبريل 2013. يُعتقد أن تشدد الإخوة (أو الأخوات أيضًا) يمثل طريقةً للتأكيد على البعد الجيلي والتمزق بينهم وبين والديهم. يبذل أعضاء الخلية جهودًا لخلق صلاتٍ عاطفية بينهم، حيث قد يتزوج عضو عادة أخت أحد أشقائه في القتال. لا تشبه الخلايا الجهادية نظيراتها في الحركات المتطرفة المستوحاة من الفكر الماركسي أو القومي، مثل جبهة التحرير الوطنية الجزائرية، الجيش الجمهوري الأيرلندي، أو منظمة إيتا الأسبانية. فنظرًا لتأسيس تلك الخلايا على علاقاتٍ شخصية؛ يكون من الأصعب اختراقها.
وبالتالي فإن الإرهابيين لا يمثلون تعبيرًا عن تشدد الشعب المسلم؛ بل يعكسون تمردًا جيليًا يؤثر على فئةٍ محددةٍ فقط من الشباب.
فلماذا الإسلام؟ بالنسبة لأعضاء الجيل الثاني، يبدو الأمر واضحًا، إنهم يسترجعون، على طريقتهم الخاصة، الهوية التي – من وجهة نظرهم – رفضها آباؤهم. فهم (أكثر إسلامًا من المسلمين)، وبشكلٍ خاص، أكثر من آبائهم. ويضيعون طاقةً هائلةً (بلا جدوى) في سبيل حث آبائهم على إعادة التحول؛ ولكنها تظهر مدى انعزال فكرهم، (لدى جميع الآباء قصص حول تلك التبادلات). أما بالنسبة للمتحولين، فقد اختاروا الإسلام لأنه الفكر الوحيد المطروح بقوة الذي يتبنى التمرد المتطرف، حيث يحمل الانضمام لداعش يقين إثارة الرعب.
*أستاذ بمعهد الجامعة الأوروبية بفلورانس، إيطاليا، ومؤلف كتاب Globalized Islam.