احتجاجات أكتوبر: ما هي حدود عملية التغيير في العراق؟
خرجت تظاهرات شعبية حاشدة بالعراق في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2019، في محافظات بغداد والبصرة ومدن أخرى، للاحتجاج على أداء حكومة «عادل عبد المهدي» اعتراضًا على الفشل في تنفيذ برنامجها الحكومي، خلال عام من عمرها، وكذلك اعتراضًا على إقالة القادة العسكريين الذين انتصروا على تنظيم داعش، ومن بينهم رئيس جهاز مكافحة الإرهاب «عبد الوهاب الساعدي».
وعلى الرغم من تكرار خروج العراقيين في تظاهرات كبرى لأكثر من مرة منذ انطلاق ثورات الربيع العربي، وكان آخر تلك الاحتجاجات في محافظات الجنوب خلال العام الماضي، 2018، إلا أنها المرة الأولى التي تخرج التظاهرات دون دعوة أو حشد من قادة معروفين أو تيارات سياسية تستغل حشد المتظاهرين من أجل تحقيق مكاسب على طاولة المفاوضات مع القوى الأخرى، بل أبرزت التظاهرات شعار «لا للسياسيين، ولا للمعممين»، في إشارة لرفض التحاق أي تيار سياسي أو قيادة دينية للمتاجرة بالتظاهرات، وهو ما يُعد مؤشرًا على ما يسير إليه مستقبل النظام السياسي العراقي في ظل العجز المستمر للنخبة السياسية.
فاتورة الفساد
أحد المطالب الرئيسية التي رفعها العراقيون على نطاق واسع لأكثر من مرة في السنوات التسع الماضية، هو تحسين مستوى الخدمات العامة، حيث تعاني الدولة العراقية من أزمات اقتصادية واجتماعية حادة كضعف الخدمات الرئيسية كالكهرباء والمياه، وتدهور البنية التحتية، وارتفاع معدلات البطالة، وُيرجِع المراقبون ذلك إلى تكلفة فاتورة الفساد الهائلة داخل البلاد، حيث احتل العراق المرتبة 168 لعام 2018، من بين 180 دولة شملها مسح مؤشر مدركات الفساد الذي يصدر عن منظمة الشفافية الدولية، وحصل العراق على 18 نقطة من مجموع 100 نقطة.
وعلى الرغم من إنفاق عشرات المليارات على قطاع الكهرباء، إلا أنه لا يزال لا يعمل بكفاءة، كما تصاعدت أزمة المياه مؤخرًا، حيث تأتي الموارد المائية العراقية بشكل أساسي من الأنهار، وأهمها نهري دجلة والفرات اللذين ينبعان من الأراضي التركية والإيرانية، وتأثرت تلك الموارد جراء إقامة دول المنبع لمشاريع مائية تحول دون مرور حصة مائية مناسبة للاحتياجات العراقية.
كذلك ساهم تزايد ظاهرة البطالة، وعدم توفر فرص العمل لآلاف الخريجين وحملة الشهادات العليا، في ارتفاع مستويات الغضب لدى تلك القطاعات الشبابية على الحكومة عندما لم تتمكن من توظيفهم وتوفير فرص العمل لهم.
ومن أهم ظواهر الفساد في العراق، عمليات تهريب النفط التي تتم بتواطؤ بعض الدول المجاورة وكذلك عناصر ومسئولين في مؤسسات الدولة العراقية، حيث يمول أكثر من 40 فصيلاً مسلحًا ونحو 10 أحزاب سياسية أنشطتهم ورواتب أعضائهم من خلال العوائد المالية للنفط المُهرّب من جنوب العراق، بالإضافة إلى 6 جهات كردية تموّل نفسها أيضًا من النفط العراقي المهرب في الشمال، وعلى الرغم من ذلك تظل عائدات العراق من عمليات تصدير النفط تُقدر بعشرات المليارات من الدولارات، حيث تحتل بغداد المركز السادس كأكبر دولة منتجة للنفط في العالم خلال عام 2018، وثاني أكبر دولة مصدرة للنفط داخل منظمة «الأوبك».
فشل حكومة «عبد المهدي»
بعد مرور عام كامل على تشكيل حكومة «عادل عبد المهدي»، إلا أن الفجوة بين الأداء الحكومي وبين طموحات واحتياجات المواطن العراقي لا تزال كبيرة على مختلف المستويات الاقتصادية والسياسية وغيرها، كما أخفقت الحكومة في تنفيذ وعودها المتعلقة بالإصلاح الحكومي ومحاربة الفساد.
فعلى الرغم من العائدات الكبرى لصادرات النفط العراقية، إلا أن سوء إدارة موارد الدولة وحجم الفساد الإداري، يحول دون تقديم مستوى من الخدمات يتناسب مع حجم تلك الموارد، فقد كشفت اللجنة المالية بالبرلمان العراقي عن وصول الدين الخارجي على العراق لأكثر من 125 مليار دولار، بالإضافة إلى توقعها وصول العجز بموازنة 2020 إلى 72 ترليون دينار، وهو ما وصفته اللجنة بـ «رقم مخيف وغير مسبوق».
كما تشير التظاهرات -التي رفع آلاف من المشاركين فيها صورة رئيس وحدة مكافحة الإرهاب «عبد الوهاب الساعدي»، مصحوبة بهتافات ضد الحكومة ونظام الملالي في طهران- إلى حجم المصداقية الذي وجدته المعلومات المُسربة حول أن قرار نقل الساعدي تم تحت ضغوط مارستها الميليشيات التابعة لإيران على رئيس الوزراء، وهي قضية شائكة إذ يعتبر الكثير من العراقيين أن حكومات بلادهم تأتي فقط لخدمة الميليشيات والأحزاب السياسية لا لخدمة المواطنين.
حدود التغيير
على الرغم من وجود غضب شعبي حقيقي في العراق يعبر عن نفسه بين الحين والآخر في صورة احتجاجات كبرى، إلا أن حدود التغيير تظل محدودة بسبب ضيق الخيارات المتاحة أمام المواطنين. فعلى الرغم من إجراء انتخابات نيابية بشكل دوري كل 4 سنوات، إلا أنها لا تعكس ديمقراطية حقيقية حتى وإن كانت الصناديق نزيهة، فالناخبون وفق معطيات المشهد السياسي العراقي يتم حصرهم في نطاق خيارات محدودة لهم، ما بين الميليشيات المسلحة والعائلات ذوات النفوذ والمال، لأن نظام المحاصصة الذي يحكم العراق يفرض أجندة ومصالح معينة على القوى السياسية، التي تراعي بعضها البعض، وبالتالي توزع الحقائب الوزارية وفق تلك المصالح، وكذلك يتم غض الطرف عن الفساد المستشري في مؤسسات الدولة دون مواجهة حقيقية.
وبالتالي فإن الانتخابات في ظل هذا النظام لا تقدم إلا إطارًا قانونيًا وسياسيًا لشرعنة سيطرة تلك النخبة على الدولة، وهو ما يؤشر عليه تراجع نسب المشاركة الشعبية في الانتخابات، لتصل في الانتخابات التشريعية صيف 2018 إلى نسبة 44.52%، وهي أدنى مستوياتها منذ الاحتلال الأمريكي عام 2003.
عندما لا تجد الجماهير سبيلها إلى إحداث التغيير الذي يلبي احتياجاتها ويحقق طموحاتها وفق القواعد الدستورية والقانونية التي يحددها النظام السياسي القائم، فإنها تلجأ إلى إحداث ذلك التغيير من خارجه عبر الأدوات المتاحة، وهو ما سيحاول العراقيون النفاذ إليه بشكل مستمر إلا أنهم سيصطدمون دائمًا بعقبتي: غياب التنظيم، وقوة الغطاء الخارجي الذي تحظى به جميع القوى الفاعلة في المشهد السياسي العراقي، وهي إما ميليشيات عقائدية مسلحة مدعومة من إيران، وإما تيارات سياسية وعائلات مدعومة من دول الخليج العربي والولايات المتحدة، وكل منها سيدافع بشراسة عن مصالح وكلائه في الداخل، ولن يرهن مصالحه في واحدة من أغنى الدول النفطية في العالم.
مسارات الاحتجاجات
من غير المرجح أن يحدث تغيير جذري في المشهد السياسي، سواء كنتيجة للاحتجاجات الحالية، أو عقب اندلاع احتجاجات مقبلة متوقعة في ظل الفجوة الحالية بين الأداء السياسي للنخبة المسيطرة وبين المطالب والطموحات الشعبية، إلا عقب حدوث تغيير كبير في موازين القوى بالمنطقة، تؤثر ارتداداته على قواعد اللعبة السياسية في بغداد.
لذلك يبقى المسار المتاح أمام الاحتجاجات، هو استمرار عملية القمع من قبل القوات الأمنية، حيث سقط عشرات القتلى ومئات المصابين منذ بدء الاحتجاجات، مع تصاعد خطاب سياسي من كافة التيارات السياسية لطالما اعتادت عليه في الأزمات السابقة، يلتقي مع مطالب المحتجين ويطالب باحترامها والاستماع إليها ويستنكر التعامل الأمني معها، مع الاكتفاء الفعلي ببعض الإجراءات الحكومية المحدودة في ذلك السياق، مثل رصد مخصصات مالية لتحسين الخدمات الأساسية في بعض المناطق، ووعود بتعيين أصحاب المؤهلات العليا، بما يؤدي إلى تهدئة الشارع بشكل مؤقت، وترحيل التعامل مع الأزمة إلى مراحل قادمة.