عقدة «أوباما» في سوريا
في نهايات القرن الثامن عشر، بعد أن أنجزت الثورة الأمريكية مهمتها في كتابة الدستور واستقرار حكم الولايات، نشأ نزاع شهير مع اندلاع الثورة الفرنسية «1789م»، حيث افترق الآباء المؤسسون إلى فريقين، بين من يراها ثورة شعبية تنشد الحرية ومن واجب ثوار الحرية الأمريكيين دعمها لإنجاز أهدافها، ويمثله «توماس جيفرسون»، والفريق الآخر الذي رآها فوضى من شعب غير ناضج للحكم وتزايدت فيه نسب العنف وعلى أمريكا أن تكتفي بحلّ مشاكلها، ويمثله «جون آدمز»، والأخير هو الموقف الذي توافق مع موقف منظر الثورات المضادة البريطاني الشهير «إدموند بيرك»، ولعل الثورة السورية قد شهدت انقسامًا مشابهًا في آراء المنظرين والساسة الأمريكيين.
عقيدة أوباما
أثارت مقالة الصحفي الأمريكي «جيفري غولديبرغ» والتي عنونها بـ «عقيدة أوباما»، كمراجعة لسلسة مقابلات مع الرئيس الأمريكي، نقاشًا كبيرًا امتدّ حتى تعقيبات معلنة من سياسيين غربيين وعرب.
تقوم عقيدة أوباما في السياسة الخارجية كما يشرحها على تقليص مساحة التدخل العسكري المباشر، في القضايا الخارجية عامة والشرق الأوسط خاصة، وحصرها بما يهدد الأمن القومي الأمريكي بشكل مباشر. لا يكتفي أوباما بالقناعة بتقلص النفوذ الأمريكي في العالم، بل هو يسعى لذلك فعليًا، ويلوم الدول على أنها لا تقوم بحماية مصالحها بنفسها، وأنهم يتصرفون «كأنهم ركاب بالمجان» وينتظرون عضلات أمريكا لحمايتهم؛ وإن كان هذا لا يمنع الولايات المتحدة أن تنتقد الجرائم ضد الإنسانية إن حصلتْ، دون أن تلتزم بالتدخل الإنساني أو منهج «التدخل الليبرالي» ضدها، وهو بذلك يعتبر أنه أقرب للمدرسة الواقعية في السياسة الخارجية، ويعطي الأولوية للشأن الداخلي والملف الاقتصادي والصحي.
تقوم هذه الحكمة الهادئة والممتزجة بنقولات فلسفية وسياسية على نقد خطابات المحافظين الجدد «المانوية والتشرشلية» ومن ضمنها كتابات «صموئيل هتنغتون»، إضافة إلى تجاوز التقليد الأمريكي في حفظ الأمن القومي، وبرر أوباما بذلك تراجعه في اللحظة الأخيرة عن التدخل العسكري ضد نظام بشار الأسد بعد استخدامه الأسلحة الكيماوية «أغسطس/ آب 2013م» والذي أدى لمقتل قرابة 1400 إنسان فورًا. ويُبرر بذلك عقده الاتفاق النووي مع إيران، العدو التاريخي لحلفاء أمريكا التاريخيين في المنطقة. ويبرر ما دعاه «الانسحاب» من الشرق الأوسط، والاهتمام بمناطق وقضايا أكثر جدوى. طبعًا يَعتبر الحرب على تنظيم داعش استثناء بحكم كونها تهديدًا مباشرًا للولايات المتحدة بل «للعالم»؛ ولكن هل انسحبت أمريكا من المعادلة السورية وتركت الفراغ ليتشكل وحده حقًا؟!
محطات المواجهة
مرت سياسة إدارة أوباما في التعامل مع القضية السورية بمفاصل وتطورات رئيسة عدة على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، وإن كانت جميعًا تندرج في استراتيجية واحدة كما تجادل هذه الورقة:
من الثورة إلى الإرهاب
في 18/ 8/ 2011م، بعد خمسة أشهر من بدء الثورة السورية في درعا، قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما، إن على بشار الأسد التنحي، رغم أن الأمر نفسه استغرق أيامًا فقط في حالة الثورة المصرية التي لم تتوفر على ذات الامتداد الشعبي أو الدموية التي واجه بها النظام المتظاهرين. استطاع نظام الأسد أن يلعب على وتر التردد الأمريكي حيال الموقف منه، ما بين إدانته إعلاميًا، والحرص على وجوده كواقع غير مضمون البدائل، واعتمدت بروباغندا النظام الترويج لحربه على الثورة السورية وحواضنها الشعبية كجزء من حرب الإرهاب الغربية.
في 11/ 12/ 2012م (في اليوم نفسه الذي اعترفت فيه واشنطن بالائتلاف الوطني كممثل شرعي للسوريين) أدرجت الولايات المتحدة تنظيم «جبهة النصرة» على لائحة الإرهاب، قبل أن تعلن الجبهة تبعيتها لتنظيم القاعدة، وقبل أن تعلن عن أجندة معولمة أو تنفذ عمليات «إرهابية» ضد مدنيين، وهو ما أثار رد فعل واسعًا بين الفصائل الثورية التي مثلت لها جبهة النصرة حليفًا ميدانيًا ضد نظام الأسد قبل حصول حوادث اقتتال فيما بينها، عدا عن خدمة سردية الإرهاب التي روّجها النظام نفسه، والذي لم يتم تصنيفه أو تصنيف داعميه أو الميليشيات الرديفة له على اللائحة رغم ارتكابهم العديد من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية الموثقة؛ هذه الازدواجية الطائفية المقصودة، لم تخدم النظام والميليشيات الطائفية الحليفة له فقط، بقدر ما دعمت سردية وشرعية التنظيمات السلفية الجهادية والجهادية المعولمة في الوقت نفسه.
كان هذا التصنيف أول بوادر تحوّل الاهتمام الأمريكي «المعلن» حول سوريا من الثورة إلى الإرهاب، والذي ظهر شيئًا فشيئًا من خلال التعامل الدولي مع الثورة السورية، باعتبار أن أمريكا «تضع الأجندة».
في 24/ 2/ 2012م عُقد مؤتمر أصدقاء سوريا في تونس، لتصبح هذه المجموعة المسؤولة عن دعم المعارضة السورية ضد نظام الأسد، والتي أشرفت على غرف دعم/توجيه عسكري «الموك، الموم» للفصائل الثورية. وعقدت هذه المجموعة مؤتمرات عدة إلى أن تم الإعلان -بعد تضاعف عدد ضحايا النظام السوري مئات المرات- في 14/ 11/ 2015م في فيينا عن «المجموعة الدولية لدعم سوريا ISSG»، لتصبح المجموعة المسؤولة عن القضية السورية، والتي ضمت روسيا وإيران رسميًا كمسؤولين عن المعادلة السورية، لا كأطراف مدانة باشتراكها مع النظام في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ولتصبح خطة المجتمع الدولي -الذي تضع الولايات المتحدة أجندته كما يقول أوباما- جَمْع النظام والمعارضة في العملية السياسية لتوحيد جهودهم ضد الإرهاب الذي يمثله تنظيم داعش والقاعدة.
خط أوباما الأحمر
منذ بدء الثورة السورية، وحتى بعد تصريح أوباما بأن على بشار الأسد التنحي، كرر أوباما والإدارة الأمريكية لعشرات المرات، تصريحها بأنها لن تستخدم القوة ولا التدخل العسكري ضد نظام الأسد، رغم أن هذه الإدارة لم تُطالب أو تُسأل عن ذلك، وكان الاستثناء الوحيد الذي صدر هو قول أوباما إن استخدام السلاح الكيماوي –فقط- خط أحمر وستردّ عليه أمريكا بالقوة.
كان أبرز محطات التعامل الأمريكي مع القضية السورية هي مجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقية 21 آب/ أغسطس 2013م، بعد تهديد الرئيس الأمريكي بالرد إن استخدم النظام هذا السلاح وبوجود بعثة المراقبين الدوليين في دمشق. وكان ارتكاب نظام الأسد هذه المجزرة الكبرى -ذهب ضحيتها قرابة 1400 شخص- غريبًا جدًا ضمن هذه الظروف. ولكن ما حصل في 30 أغسطس/ آب حين تراجع الرئيس الأمريكي عن توجيه ضربة للنظام ربما يُظهِر أن نظام الأسد كان يفهم السياسة الأمريكية وضرورة وجوده بالنسبة لها أكثر من السياسيين الأمريكيين أنفسهم. سلّم النظام الأسلحة الكيماوية بوساطة روسية، واستمرّ في تنفيذ المجازر بأسلحة أخرى بعد أن قدم ثمنًا للتعامل معه سياسيًا ولضمان عدم «التدخل الإنساني» ضدّه حسب مصطلح الأمم المتحدة. لم يكن الجديد أن تكون ترسانة أسلحة الردع في الحرب الباردة وجهًا آخر للسياسة، وإنما أن يكون استخدامها في جرائم كبرى تطال آلاف الضحايا المدنيين في زمن العولمة هو بالذات ورقة الشرعية السياسية.
غرف الدعم العسكري
مما لا شكّ فيه أن غرف الدعم العسكري التي شكّلتها مجموعة أصدقاء سوريا كان تمويلها بأغلبه من الدول العربية الحليفة للثورة السورية، ورفضت الإدارة الأمريكية تقديم أي «مساعدات قاتلة» للمعارضة السورية فيما قبل برنامج التدريب، إلا أن الإدارة الأمريكية كانت «تضع الأجندة» كما يقول أوباما، وكذلك وضعت الخطوط الحمراء على الأسلحة التي يُمنع وصولها للثوار السوريين والتي كان أهمها مضادات الطيران. وقد مرت سياسة الدعم وتأثيراتها بمنعطفات عدة، خاصة في مرحلة التنافس ما بين المحور «السعودي-الإماراتي» في زمن الملك عبد الله، والمحور «التركي-القطري»، أي أن نشاط أمريكا في غرف الدعم العسكري كان المراقبة والتأثير و«الحدّ من الدعم»، أكثر مما كان «تقديم الدعم».
وضعت أمريكا الخطوط الحمراء على الأسلحة التي يُمنع وصولها للثوار السوريين وأهمها مضادات الطيران، أي أن نشاطها كان «الحدّ من الدعم»، أكثر مما كان «تقديم الدعم».
وكانت حملة الإمارة -التي قامت بها «جبهة النصرة» و«جند الأقصى» في الفترة بين يوليو/ تموز 2014- فبراير/ شباط 2015، حيث قامت بتفكيك عدة فصائل للجيش الحر في ريف إدلب وحلب أهمها «جبهة ثوار سوريا» و«حركة حزم» -المقرّبين من المحور السعودي الإماراتي والذين كانوا يوصفون كحلفاء محتملين للإدارة الأمريكية- قد غيّرت من خارطة القوى العسكرية بالشمال، لتصبح مجموعات الجيش الحر في ريف إدلب أصغر وأضعف أمام مشروع القاعدة.
كان من اللافت في سياسة غرف الدعم العسكري هذه الميل للتعامل مع الوحدات الأصغر من الفصائل الثورية. وحتى مع الفصائل الكبيرة -فوق 2000 مقاتل- كان يُفضّل التعامل مع مجاميعها باستقلال عن بعضها، مع دعمْ أكبر لفصائل أصغر وغير قادرة على حماية مستودعاتها، وهو ما كان يدفعها لتقديم جزء منه لتنظيم القاعدة، أو لأن تُبتلع بالكامل من قبله أحيانًا، كما حصل مع أكثر من عشرة فصائل في ريف إدلب وحلب، والتي كان آخرها «الفرقة 13» في معرة النعمان مارس/ آذار 2016م.
برنامج التدريب
تضمن برنامج التدريب الأمريكي اشتراطات بعدم قتال نظام الأسد والاكتفاء بقتال تنظيم داعش الأمر الذي واجه معارضة من معظم فصائل الثورة السورية.
بعد أسبوعين فقط من سيطرة تنظيم «داعش» على الموصل 10/ 6/ 2014م، قدّم أوباما للكونغرس طلب تخصيص مبلغ نصف مليار دولار لبرنامج تدريب المعارضة السورية المعتدلة الذي دخل حيز التنفيذ مطلع 2015م، وواجه معارضة من معظم الفصائل التي عُرض عليها البرنامج الذي تضمن اشتراطات بعدم قتال نظام الأسد والاكتفاء بقتال تنظيم داعش، حيث تحوّل مصطلح «المعارضة المعتدلة» إلى شبح غودو بالنسبة لإدارة أوباما، في ظل سيطرة عصاب الإرهاب على التعامل الغربي مع القضية السورية، ولم تجد هذه الإدارة معارضة معتدلة بين عشرات الآلاف من الثوار السوريين، إلا 54 مقاتلاً «الفرقة 30» دخلوا إلى ريف حلب الشمالي في نهاية يوليو/ تموز 2015م بأسلحة ومعدات أمريكية حديثة، وسرعان ما سيطرت عليها جبهة النصرة كلقمة سائغة.
في 9/ 10/ 2015م أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية عن تعديل برنامج التدريب بعدما فشل بتحقيق أهدافها، واستشهد «لويد أوستن» قائد القيادة المركزية الأمريكية بقصة «الفرقة 30» في حديثه للكونغرس سبتمبر/ أيلول 2015 عن فشل برنامج التدريب، وكان البديل جاهزًا وسريعًا.
قوات سوريا الديمقراطية
في 11/ 10/ 2015م تم إعلان تشكيل «قوات سوريا الديمقراطية»، كتحالف بين «وحدات حماية الشعب الكردية» بشكل رئيس مع تشكيلات أقليات مختلفة ومجموعات صغيرة كانت ضمن الجيش الحر وعشائر عربية، مهمته قتال تنظيم داعش في منطقة الجزيرة السورية والحدود التركية السورية من سوريا، ويتبنى شعارات أكثر علمانية وليبرالية من خطاب الفصائل الثورية بالعموم، وبدعم أمريكي وروسي ودولي في الآن نفسه، وبعد يوم واحد من تشكيل هذه القوات ألقتْ طائرات أمريكية 50 طنا من الأسلحة إليها.
ضمت هذه القوات أيضًا تشكيل «جيش الصناديد» الذي كان جزءاً من «ميليشيات الدفاع الوطني» التابع للنظام، ودعمت الولايات المتحدة بقوة هذا الخليط الغرائبي بقيادة الـ «PYD»، مع حصر مهمته بقتال تنظيم داعش، والذي أضيف إليه القتال ضد الفصائل الثورية عامة في معارك ريف حلب الشمالي، ومورست ضغوط سياسية وميدانية قوية على فصائل الجزيرة السورية ثم ريف حلب الشمالي للانضمام إليه، وهو ما يعني بطبيعة الحال الانضمام إلى تشكيل يتحالف مع النظام ويقاتل فصائل الثوار نفسها، أي أن شرط دعم هذه الفصائل الثورية ضمن قوات سوريا الديمقراطية كان تفريغها من جوهرها الثوري عملياً.
كان واضحاً أن المشروع أقرب لواجهة تقودها «وحدات حماية الشعب PYD»، لتطبيق منطقة «روج آفا» -كوردستان الغربية-، وشاركت هذه القوات بالقتال ضد الفصائل الثورية في ريف حلب الشمال بالتعاون مع قوات النظام والميليشيات الشيعية متعددة الجنسيات المدعومة إيرانياً وبغطاء الطيران الروسي في شباط 2016م، وتم استخدامها سياسياً من قبل المبعوث الدولي «ستيفان ديمستورا» وبدعم روسي لترويج فكرة أن «الهيئة العليا للمفاوضات» لا تمثل وحدها المعارضة السورية، وأن هناك أطرافاً أخرى في المعارضة من الواجب تمثيلها.
الاتفاق النووي الإيراني
وكما أن إدارة أوباما دعمت وحدات حماية الشعب الكردية رغم كونهم أعداء لحلفاء أمريكا التقليديين شمال سوريا ونعني تركيا، فإن الاتفاق النووي مع إيران 15/ 1/ 2016م، كان ضربة موازية لحلفاء أمريكا التقليديين جنوب سوريا ونعني السعودية ودول الخليج عامة؛ وفر الاتفاق النووي شرعية سياسية مضاعفة وفائضاً مالياً لتغطية التدخل العسكري الإيراني في سوريا، والذي لا يقتصر على دعم وتدريب ميليشيات شيعية متعددة الجنسيات للقتال في سوريا، بل وصل حتى مشاركة قادة ومشاة «الحرس الثوري الإيراني» بأنفسهم في المعارك ضد الفصائل الثورية التي تدعم الولايات المتحدة بعضها عبر غرفة الموم والموك.
التدخل الروسي
نهاية أيلول 2015م أعلنت روسيا بدء عملياتها الجوية في سوريا لدعم نظام الأسد، وتركزت ضرباتها الجوية في معظمها ضد مقرات ومناطق سيطرة الفصائل الثورية -ومن ضمنها فصائل مدعومة أمريكياً-، في الشمال السوري خاصة، وكغطاء لمعارك النظام والميليشيات المدعومة إيرانيًا ضدها.
استطاع النظام بهذه العملية التقدم في جبهة الساحل وفي ريف حلب الجنوبي، وأخيراً في ريف حلب الشمالي، حيث وصل النظام 9 فبراير/ شباط 2016م إلى بلدتي «نبل» و«الزهراء» لأول مرة منذ قرابة ثلاث سنين، وانفصل بذلك ريف حلب الشمالي عن باقي مناطق الثوار في الشمال السوري، إلى أن تم إعلان الهدنة في 27 فبراير/ شباط 2016م، وأعلنت روسيا بدء انسحابها من سوريا في 14 مارس/آذار.
لم يكن تحرك روسيا في سوريا بعد أوكرانيا مفاجئًا في ظل تردد الدول الحليفة للثورة بالتدخل، وتركزت التحليلات حول أن روسيا استغلت الفراغ الذي تركته أمريكا لتملأه بطائراتها، ولكن سرعة الاستجابة الأمريكية للوضع الجديد في ريف حلب الشمالي، والتنسيق السياسي العالي بين البلدين حول سوريا، يؤكد وجهة النظر التي تميل إلى أن روسيا إنما تحركت ضمن «دائرة الأهداف المشتركة» مع الإدارة الأمريكية، أكثر مما تحركت رغماً عنها أو استغلالاً لانسحابها من المنطقة.
ريف حلب الشمالي
في 9/ 2/ 2016م استطاع التحالف الإيراني-الروسي الداعم لنظام الأسد أن يصل إلى بلدتي نبل والزهراء في ريف حلب الشمالي، ليفصل بذلك بين ريف حلب الشمالي ومناطق الثوار في الشمال السوري، وبالتنسيق والتزامن معها تقدمت قوات سوريا الديمقراطية من «عفرين» لتسيطر على القسم الغربي من ريف حلب الشمالي والتي كان أهمها بلدة «تل رفعت»، وسلم النظام بلدة «إحرص» جنوب «مارع» للقوات الكردية، لتشكل قوات سوريا الديمقراطية حزاماً حامياً بين مناطق الثوار وقوات النظام.
خلال قرابة أربع سنوات منذ بدء الحراك المسلح في محافظة حلب، تحولت جبهات حلب إلى «ستالينغراد الثورة السورية»، وشهدت المعارك الأعنف والأعلى كثافة ودموية بين كلّ الأطراف، وكان نصيب الثوار السوريين الأعلى من تحالف الفرقاء المختلفين «داعش، النظام، وحدات حماية الشعب» للهجوم على مناطقهم، خاصة في ريف حلب الشمالي.
بانفصال ريف حلب الشمالي نشأ واقع جديد، حيث أصبح لفصائل حلب طريق إمداد وحيد ومهدد بالقطع «الكاستيلو» نحو ريف إدلب «معبر باب الهوى» بعد فقد الاتصال بـ «معبر باب السلامة» في «إعزاز»، وفقدت كذلك اتصالها بجبهات تنظيم داعش التي انحصرت في ريف حلب الشمالي، والذي فقد بدوره اتصاله بفصائل الشمال وبجبهات النظام، إضافة إلى منطقة لا وجود لتنظيم القاعدة فيها، وهو ما كان حجة معلنة لتقليص الدعم أو حجبه عن الفصائل.
سرعان ما استجاب البنتاغون لهذا الواقع الجديد -والذي يبدو أنه شارك في رسمه بالتنسيق مع روسيا-، ودعم دخول مجموعات للجيش الحر ممن كانوا ممنوعين من قبل جبهة النصرة، إضافة إلى دعم تجنيد متطوعين جدد في برنامج التدريب، واستطاع ضم عدة فصائل –جديدة- لهذا البرنامج «الذي يشترط قتال التنظيمات الإرهابية فقط»، وقدّم البرنامج دعمًا مضاعفًا هذه المرة لفصائل جديدة وغير متماسكة بعد، بديلاً عن التعامل مع فصائل الشمال الكبيرة -باستثناء «فيلق الشام» الذي دعمت تركيا وجوده بقوة في ريف حلب الشمالي-، وهو ما هيأ لخسارات بشرية وميدانية كبيرة في صفوف الفصائل الثورية، رغم تحقيق تقدم سريع عبر الشريط الحدودي مع تركيا، سرعان ما تحول لمعارك كرّ وفرّ وتبادل مواقع مكلفة بين فصائل الثوار وتنظيم داعش، وهو ما تعتمد عليه قوات سوريا الديمقراطية في ترويجها لكونها الطرف الأفضل لقتال التنظيم.
في الوقت الراهن، تعمل الإدارة الأمريكية على دعم تشكيل إدارات مستقلة «مشروع المنصة» للبلدات المتبقية في ريف حلب الشمالي، لتسهيل إمكانيات التحالف مع قوات سوريا الديمقراطية، كجزء من المنهج نفسه الذي اتبعته مع الفصائل من قبل، من خلال التجزيء والتفتيت المستمر، لعرقلة وجود قرار على مستوى وطني أو حتى على مستوى مدينة أو جبهة واحدة.
وتهدد خسارة ريف حلب الشمالي بفقدان آخر جبهة للثوار في الشمال السوري مع تنظيم داعش، باعتبار أن الرأسمال السياسي في موازين الشرعية الدولية أضحى مرتبطًا بحرب الإرهاب.
مدينة حلب
في 20/ 4/ 2016م أعلنت «الهيئة العليا للمفاوضات» تعليق مشاركة وفدها في «مفاوضات جنيف»، بعد شهور من عدم تنفيذ النظام للبنود الإنسانية التي نصّ عليها قرار مجلس الأمن رقم 2254 «الإفراج عن المعتقلين السياسيين، فك الحصار عن المناطق المحاصرة، إيقاف القصف على المدنيين»، إضافة إلى انحياز المبعوث الدولي «ستيفان دي مستورا» لطرف روسيا والنظام، وإصراره على وجود أكثر من وفد للمعارضة غير وفد الهيئة العليا، مع وجود الأسد في العملية الانتقالية.
في الأيام اللاحقة، وفي إطار الرد على هذا الموقف، صدرت ثلاث تصريحات أمريكية «الناطق باسم وزارة الدفاع، جون كيري، وأوباما» تتضمن المعنى نفسه، وهو صعوبة التمييز بين المعارضة المعتدلة والإرهابيين في مدينة حلب، وأن العملية الروسية فيها مبررة بوجود جبهة النصرة، على الرغم من أن أقلّ نسبة وجود لجبهة النصرة في الشمال السوري تعتبر في مدينة حلب، مع استثناء حلب من هدنة الساحل والغوطة الشرقية.
هيأت هذه التصريحات الضوء الأخضر للتصعيد الأخير في قصف نظام الأسد على مدينة حلب (منذ 27/ 4/ 2016م)، والذي أثار ضجة عالمية، واستهدف المراكز الحيوية بشكل مركز -خاصة المشافي-، وتسبب خلال أقل من أسبوع بقتل قرابة 200 شخص وأضعافهم من الجرحى.
ورغم تهدئة الـ 48 ساعة في حلب، التي تم التوافق عليها بين أمريكا وروسيا، فإن بيان وزارة الخارجية الأمريكية بعده أكد مرة أخرى على صعوبة التمييز بين مجموعات الثوار والإرهابيين، وضرورة التمايز بينها، في ضغط آخر على الفصائل الثورية، وتمهيد لتبرير عملية عسكرية إيرانية-روسية لحصار مدينة حلب.
استراتيجية التفكيك والإضعاف
في أوجه تعاملها المتعددة والمختلفة مع المسألة السورية، فإن الإدارة الأمريكية حافظت على خطوط عامة، تنتقد نظام الأسد إعلاميًا، وتعطيه وحلفاءه الضوء الأخضر سياسيًا، وتعطي الأولوية لمحاربة الإرهاب، وتؤيد الثورة إعلاميًا، وتدعم المعارضة بشروط، من ضمنها أن تنسى قضيتها التي جعلتها معارضة. وكان تفكيك قرار ومؤسسات الثورة السورية وإضعافها من داخلها بتفكيكها وتقوية الخصوم، ومن خارجها بتقييد حلفائها ودعم خصومهم، هو المآل الواضح لجميع أوجه تعامل إدارة أوباما مع الملف السوري.
تأخرت أمريكا لشهور حتى صرّحت بتأييد الثورة السورية، رغم كونها الأوسع امتدادًا شعبيًا والأعلى من حيث عدد الضحايا بين ثورات الربيع العربي. وحين صرّح أوباما بتأييد مطالب الثورة بتنحي بشار الأسد حافظ على طمأنته المعلنة والمتكررة للنظام بأنه لن يستهدفه عسكريًا.
أثرت «أجندة أوباما» في غرف الدعم العسكري على تماسك الفصائل الثورية الكبيرة من خلال تفضيل المجاميع الأصغر.
وحين لم ينجح النظام بقمع الثورة التي أصبح لها مناطق مستقلة عن سيطرته خلال عام 2012م، جرى التمهيد الأول لاستدخال القضية السورية ضمن حرب الإرهاب بإعلان جبهة النصرة كمنظمة إرهابية، رغم رصيد النظام وحلفائه الدموي والمتراكم. وهيمن هذا «الوسم السنّي» للإرهاب على خطابات إدارة أوباما وسياساتها، رغم توافد عشرات الآلاف من الميلشيات الشيعية متعددة الجنسيات للقتال إلى جانب النظام، وممارستها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وهو ما شكّل غطاءً سياسيًا غير مباشر لانتهاكاتها، وضغطًا مضاعفًا على الفصائل الثورية، وإضافةً إلى شرعية ومصداقية التنظيمات الجهادية.
شكّل تراجع أوباما عن ضرب نظام الأسد بعد مجزرة الكيماوي أغسطس/ آب 2013م، رغم تهديده بذلك، والاكتفاء بتسليم الأسلحة الكيماوية، المحطة الأهم في فهم النظام للضوء الأخضر الممنوح له دوليًا باستكمال حملة القمع والجرائم ضد البشرية في سوريا، وبأن روسيا أيضًا لديها خطوط حمراء «يمثلها النظام» ولكنها تحميها فعليًا، وفي ماهية الخطوط الحمراء الحقيقية بالنسبة للإدارة الأمريكية، وهو ما سيستثمره النظام بشكل مضاعف في مرحلة تمدد داعش والقاعدة، كمصداقية لسرديته حول الحراك الثوري وكورقة لشرعيته الدولية في محاربة الإرهاب. وهذا التمدد ساعد عليه كلّ من النظام والسياسة الأمريكية في المنطقة.
عملت أمريكا على دعم برنامج المساعدات الإنسانية عبر بحر من المنظمات التي مثلت: أداة لجمع البيانات، سحب نشطاء الثورة للعمل الوظيفي، وترويج قيم الحياد وعدم الانحياز بينهم.
وللحفاظ على صورة «الرسالة العالمية للقيم الأمريكية»، تمّ دعم برنامج المساعدات الإنسانية والمساعدات غير القاتلة، وذلك عبر بحر المنظمات التي تمّ تأسيسها في تركيا خاصة، كأداة مهمة لجمع البيانات وللتأثير الناعم في الحامل البشري للثورة، وساهمت في سحب أعداد كبيرة من نشطاء الثورة للعمل الوظيفي في المنظمات، وعملت على الترويج لقيم الحياد وعدم الانحياز وقبول النظام، بينهم، مع الوقت.
أما «أجندة أوباما» في غرف الدعم العسكري التي شكلتها مجموعة أصدقاء سوريا، فقد أثرت بشكل سلبي على تماسك الفصائل الثورية الكبيرة، من خلال تفضيل المجاميع الأصغر، وهي السياسة التي أضعفت تماسك المشروع العسكري الميداني للفصائل الثورية، ودعمت بشكل غير مباشر مشروع تنظيم القاعدة، عدا عن حظر الأسلحة النوعية على الثوار، وهذه الأسلحة المحظورة لم تقتصر على مضادات الطيران، بل وصلت أحيانًا إلى المناظير الليلية، وهذا دون تبرئة الدول الأخرى –حتى الدول الحليفة للثورة- من الشراكة في هذه الأجندة، لسهولة التأثير في المجاميع الأصغر والمفككة، أكثر من المشروع العسكري والسياسي الموحد والمستقل.
وحرص برنامج تدريب المعارضة المعتدلة، على إظهار ندرة وشبحية وجود هذه المعارضة بين الفصائل في ظلّ عُصاب حرب الإرهاب الذي هيمن على العالم، وكانت الشروط التي وُضعت لهذه المعارضة تتضمن أولاً أن تتخلى عن قتالها لنظام الأسد وهو ما يلغي أساس قضيتها المعارضة، وفي النهاية تم دعم مجموعات صغيرة بهذه الشروط -وهي شروط أشبه باتهامات-، وتم زجّها في الداخل السوري وتقديمها كقربان سهل ومبرّر بالنسبة لأيديولوجيا جبهة النصرة، ما تبعه إعلان فشل البرنامج -هذا إن كان قصده النجاح أصلًا-، وتعميم صورة الإرهاب وفقدان الاعتدال على الثورة السورية للضغط على فصائلها لتقديم تنازلات أكبر، وتم التوجه نحو مشاريع أخرى.
حرص برنامج تدريب المعارضة المعتدلة، على إظهار ندرة وشبحية وجود هذه المعارضة بين الفصائل في ظلّ عُصاب حرب الإرهاب الذي هيمن على العالم.
ومنذ معركة «كوباني» نوفمبر/ تشرين الثاني 2014م – يونيو/ حزيران 2015م، شكلت وحدات حماية الشعب الكردية -الذراع غير الرسمي لـ «حزب العمال الكردستاني BKK» في سوريا- الحليف المفضل للولايات المتحدة وروسيا في الآن نفسه، ودعمت تمددها في منطقة الجزيرة السورية وعلى الحدود التركية، رغم معاداة تركيا الجذرية للحزب الانفصالي وشعورها بتهديد الأمن القومي جراء تمدده على حدودها، ورغم ارتكاب هذه الوحدات انتهاكات ممنهجة على أساس عنصري بحقّ المكونات العربية التي تتمدد في مناطقها، وهو ما يبقي جذور الاحتراب الأهلي قائمة عبر تكريس أسبابها المستدامة التي تمثلت بدعم هيمنة مكوّن عنصري على منطقة متعددة الأطياف. ولم تكتف الإدارة الأمريكية بذلك بل دعمت تحوّل هذه القوات إلى مشروع سياسي منافس من خلال «قوات سوريا الديمقراطية»، وشاركت هذه القوات بالقتال ضد فصائل الثوار في ريف حلب الشمالي، وكانت جزءًا من الخطاب الروسي ضد شرعية الهيئة العليا للمفاوضات، رغم الدعم الأمريكي المعلن للهيئة العليا.
وبعد انعزال ريف حلب الشمالي عن مناطق الثوار في الشمال السوري، أصرت الولايات المتحدة مرة أخرى على محاولة إنشاء «بلاك ووتر» محلي ومفكك لمجاميع صغيرة، بدلاً من التنسيق والتحالف مع أطراف ثورية قوية بين فصائل الشمال السوري، وهو ما أضعف هذه الفصائل الكبيرة، وتسبب بخسارات ميدانية وبشرية كبيرة بين الفصائل المقاتلة ضد تنظيم داعش، وساهم هذا في الإضعاف السياسي -لا العسكري فقط- بالنسبة للفصائل الثورية مع تقلص مساحة مواجهتها لتنظيم داعش، والتهديد المستمر بتسليم هذه المساحة لوحدات حماية الشعب.
وفي ملف المفاوضات لم تقدم الولايات المتحدة دعماً حقيقياً لموقف الهيئة العليا للمفاوضات، بقدر ما مارست ضغوطاً عليها للقبول بعملية تسوية أقرب للطرح الروسي، ولا تتضمن تفكيك أجهزة الأمن والجيش، والذي يعتبر هدف الثورة السورية الرئيس، كما منحت مبررات لعمليات النظام والروس العسكرية وعمليات قصف التجمعات المدنية والمراكز الحيوية من خلال القول بصعوبة التمييز بين المعارضة المعتدلة والإرهابيين في حلب.
وعلى المستوى الإقليمي، دعمت سياسة أوباما في المنطقة تقوية كلّ الأطراف المتحالفة مع نظام الأسد ضدّ الحلف الإقليمي الداعم للثوار السوريين، من خلال دعم مشروع وحدات حماية الشعب، ثم من خلال الاتفاق النووي مع إيران، ثم بمنح الضوء الأخضر للعمليات الروسية في سوريا، إضافة لتصريحات أوباما المعلنة ضد قادة السعودية وتركيا وكونهم سبباً في انتشار الإرهاب.
هذا إضافة للدعم المكرس مسبقاً للطائفية السياسية في العراق سواء بدعم الحكومة العراقية أو الحشد الشعبي، وكلاهما عدا عن كونهما من الأسباب الموضوعية لتمدد تنظيم داعش، فإنهما مقابلان معادلان له بالطائفية والتوحش والممارسات الإرهابية.
خاتمة
خلاصة القول، إن الادعاء الأمريكي بالانسحاب من المنطقة، وأن المعادلة السورية تشكلت بمعزل عنه، هو إطلاق غير دقيق، إن لم يكن مناقضًا للواقع.
خلاصة القول، إن الادعاء الأمريكي بالانسحاب من المنطقة هو إطلاق غير دقيق، إن لم يكن مناقضًا للواقع.
وسواء قسنا تأثير التدخل الأمريكي في القضية السورية بالخطاب السياسي أو بانتشار المنظمات أو غرف الدعم العسكري أو برامج التدريب أو دعم خصوم الثورة الداخليين أو السياسة الإقليمية التي صبت في صالح خصوم الثورة من الدول وفي تكريس الصراع الهوياتي والطائفي في المشرق العربي، فإن هذا التدخل كان يؤدي إلى مآل واحد؛ وهو تفكيك وإضعاف الثورة السورية من الداخل والخارج، سواء على مستوى الحامل البشري أو على مستوى تماسك هياكلها التنظيمية أو نوعية عتادها العسكري أو موقفها السياسي المغطَّى بخطاب الإرهاب أو موقع حلفائها الإقليميين، وكذلك على مستوى دعم النفوذ الإيراني والروسي والمشروع الكردي الانفصالي في المنطقة.
أي أن سياسة «أوباما» في الشرق الأوسط عامة، وفي سوريا تحديدًا، لم تختلف بخطوطها العامة ومآلاتها عن المعادلات التي كرّسها «جورج بوش الابن» في المنطقة أو التعميمات التي يطلقها «دونالد ترامب» لجماهيره حاليًا، أولًا بازدواجية تعريفها للإرهاب، وبدعمها لأسباب الإرهاب، وتكريس جذور الصراعات الطائفية والهوياتية، والتعامل السلبي مع الانتفاضات الشعبية ضد الأنظمة الديكتاتورية.
وبالنتيجة فقد كانت عقيدة أوباما أو «عُقدة أوباما» بالأحرى، هي أحد العوامل الأهم في نشأة «الإرهاب» وتمدده وتكريس أسبابه ومنح سرديته شرعية وشعبية مضاعفة، حتى لو منحت الأولوية لمحاربته.