نووي روسيا والشَّرق الأوسط: احفظ اسم «روساتوم» جيداً
في الفترة بين 4-6 أبريل لهذا العام،وعلي هامشالمعرض الدُّولي لدورة الوقود النَّووي،والذي أقيم بدولة الإمارات العربية المتَّحدة، كانت شركة «روساتوم» الروسية تحتفل بإنشاء مكتبها الإقليمي في دبي،الذي يُفترض أن يُشرف علي أنشطتها في منطقة الشَّرق الأوسط وشمال أفريقيا، تقدِّم روساتوم لعملائها خدمات شاملة في مجال الطاقة النَّووية السِّلمية، وهي الشَّركة الوحيدة في العالم التي تقدِّم الدَّورة الكاملة للطاقة النَّووية؛ بدايةً من إنشاء المحطَّات وتشغيلها وتفكيكها، وتوفير الوقود، وحلول للوقود النَّووي المستهلَك، وإدارة المخلَّفات المشعَّة إلى تطوير البِنية التَّحتية النَّووية من خلال تقديم حلول مرنة فيما يخصُّ التَّمويل، ومشاركة الخبرات التِقَنيَّة، ونشر الوعي بين النَّاس لقبول استخدام الطَّاقة النووية، وغير ذلك من الخدمات .وشركة روساتوم هي شركة مملوكة للدولة الرُّوسية ويترأَّسها منذ العام 2005 رجل الدَّولة المخضرم «سيرجي كيريينكو» الذي خدم سابقا كرئيس للوزراء،وعُرِف دوما بقُربه من الرَّئيس بوتين. بدا أنَّ هذا الإعلان جاء في وقته تماما، فالمنطقة -علي ما يظهر- تستعد لاستقبال العديد من الأعضاء الرَّاغبين في الانضمام إلي النادي النووي، فما الذي يدفع الرُّوس لتعميق التَّعاون النَّووي مع دول الشَّرق الأوسط ؟، هل هي المصلحة التجارية البَحتة،أم أنَّ هناك دوافع سياسيِّة واستراتيجيِّة تجنيها موسكو من وراء هذا التعاون ؟ وهل ثمَّة رسائل سياسيِّة ترسلها دول المنطقة حين تفضِّل التَّعاون مع الرُّوس علي حساب الحلفاء الغربيِّين التقليديِّين؟ ، هذا ما سنُحاول الإجابة عنه في السُّطور القادمة.
مشاريع الطَّاقة النَّووية الرُّوسية في دول المنطقة
ثمَّة «علاقة نووية» خاصة تربط الرُّوس بالإيرانيِّين تحديداً، تعود إلي أواخر القرن الماضي، حين قرَّرت طهران الاعتماد علي الرُّوس لبناء برنامجها النَّووي الوليد الذي قوبل برفض غربي طبعا، ووافق الرُّوس علي تقديم المساعدة، فوفَّروا دعماً فنياً ومادياً، ولعبوا دور الوسيط -وفي بعض الأحيان الحامي- بين المجتمع الدُّوَلي الغاضب وإيران «المارِقة»، وقد تم بناء أول مُفاعِل نووي إيراني في مدينة بوشهر في العام 2011بجهود روسيَّة، وجري التعاقد علي بناء المزيد بعدها، كما كان لإدارة بوتين دورٌ محوري في الصَّفقة النَّووية التي تم التَّوصل إليها بين طهران والقوي الكبري أواخر العام الماضي.وإذا كانت الدول الخليجية تفترق عن طهران في كل طريق تقريباً،فقد التقت معها في محاولة الاستفادة من الخبرات الرُّوسية في المجال النَّووي،بدأت كلٍ من السَّعودية والإمارات جهودهما في هذا الحقل من الطَّاقة خلال عامي 2010 و 2009 علي الترتيب، مدفوعَيْن برغبة قويَّة في تنويع مصادر الطَّاقة في وقت بدا فيه الرُّكون إلي النِّفط رهاناً غير مضمون، فضلاً عن ما يتيحه امتلاك طاقة نوويَّة من رمزيَّة قويَّة في إطار التسابق المحموم مع الجارة الطامحة إيران. وفي حينِ أنَّ المفاعل الإماراتي الأول هو قيد الإنشاء حاليا، حيث يُتوقَّع الانتهاء منه خلال العام 2017، فإن لدي السَّعوديين خُطَّة طموحة للغاية،نتحدث هنا عن 16 مفاعل نووي في 2032، وقد شهدت زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى موسكو 2015 توقيع اتفاق إطاري مع عملاق الصِّناعة النَّووية الرُّوسية «روساتوم» لبناء تلك المحطَّات بقيمة 100 مليار دولار.وقعَّت تركيا كذلك اتفاقاً مع روساتوم يقضي ببناء أربع مفاعلات في مدينة أكويو التركية – وإن كان المشروع قد واجه صعوبات بسبب تدهور العلاقات الروسية التركية-، كما شهد شهر مارس من العام الماضي انضمام الأردن إلي نادي المتعاقدين مع الشركة الرُّوسية لإنشاء محطة في شمال البلاد في مقابل 10 مليارات دولار، علي أن يتم الانتهاء منها بحلول العام 2022، كما يدور الحديث أن الشَّركة نفسها مقبلة علي إنشاء أول مشروع للطَّاقة النَّووية في الجزائر، كما أنَّها وقعَّت اتفاقية مع الحكومة المصريَّة في 19 نوفمبر 2015 لإنشاء أول محطة نووية مصرية في منطقة الضبعة و نصت الاتفاقية في على أن يقدم الطرف الروسي قرضا لصالح الطرف المصري من أجل تمويل الأعمال والخدمات الخاصة بمعدات الإنشاء والتشغيل.
الشَّرق الأوسط: لماذا روسيا ؟
تتعدد دوافع دول المنطقة للانضمام للنادي النَّووي، فبعضها يعاني من مشكلة حقيقية في الطاقة وينظر إلي الطاقة النَّووية السِّلمية كفرصة حقيقيَّة للتغلب علي تلك المعضلة لا سيَّما مع الزيادة الكبيرة في عدد السكان أو احتياجات التصنيع، فضلاً عمَّا يوفِّره امتلاك محطات للطاقة النَّووية من رمزية يمكن استغلالها في تعميق الشُّعور بالفخر الوطني وتأمين الدعم الشَّعبي للحكومات والأنظمة القائمة،أما حين يدور الحديث عن دول الخليج،فإننا نضيف لذلك هدفا آخر يتمثل في رغبتهم ألا يتأخروا عن الرّكب الإيراني،فطالما أن الإيرانيين قد استنُّوا سُنَّة الطَّاقة النَّووية في المنطقة، وطالما أن الغرب قد ارتضي تلك السنَّة -حين أعلن قَبوله بالمشروع النَّووي الإيراني وفق مستويات محدَّدة،كما اقتضت الصفقة النَّووية-، فهل يكون حراما علي بلابل العرب ما كان حلالاً لطيور إيران! .
أمَّا لماذا تُفضل دول المنطقة الرُّوس علي الأمريكيين، فلعلها الشروط والاشتراطات الغربية التي تجعل اللجوء إلي «الخيار الروسي» أمرا أكثر جاذبية، وربما هي الرغبة في تنويع الحلفاء، ولعلَّه السَّعي إلي إرسال رسالة سياسية إلي واشنطن -وهي التي تدهورت علاقتها بالكثير من دول المنطقة،لأسباب عدة ليس هذا مجال ذكرها- مفادها أن السِّياسة لن تقف علي أعتاب البيت الأبيض، وأن بإمكانهم الذِّهاب في الاتجاه الآخر، ومن ثَمَّ تكون تلك الاتفاقات وسيلة لإظهار الغضب من الولايات المتَّحدة،بقدر ما هي وسيلة للتَّقرب من الرُّوس.
روسيا: لماذا الشَّرق الأوسط ؟
دأبت روسيا علي الاستفادة من قدراتها الاستراتيجية لتحقيق منافع اقتصادية وسياسية مزدوجة، من ذلك مثلا مبيعات الأسلحة التي توفرها المصانع الروسية لمن باستطاعته الدفع، من دون أن تضع الكثير من العراقيل أو الاشتراطات السياسية، ونشير هنا إلي مصطلح «دبلوماسية الدفاع الجوي Air Defense Diplomacy» الذي يستخدمه الباحثون لتوصيف العروض التنافسية التي تقدمها الصناعة الحربية الروسية في مجالات الدفاع الجوي تحديدا كمنظومات S-300 S-400 S-500 ، والتي كان من المنتظر أن تستفيد منها العديد من دول المنطقة، كإيران وسوريا ومصر، وفي مقابل تلك الصفقات، تَجني موسكو العديد من الفوائد التُّجارية والسياسية والاستراتيجية علي حدٍ سواء.يمكننا إذاً بالقياس توصيف التحركات الروسية الحالية بـ «دبلوماسية الطاقة النووية Nuclear Power Diplomacy»، ففي وقت يعاني فيه الاقتصاد الروسي من الإنهاك الشَّديد نتيجة العقوبات الأوروبية وانخفاض أسعار النفط والمغامرات العسكرية الخارجية في أوكرانيا وروسيا، وفي لحظة بدا فيها أنَّ السوق الإيرانية لم تعد -بعد الصفقة النَّووية- حِكرا علي الرُّوس، وأن رفع العقوبات قد يدفع إليها بمنافسين غربيين يزاحمون الروس مواطن نفوذهم القديمة، بدا أن الشرق الأوسط بما فيه من ساسة متعطشين للانضمام إلي نادي أصحاب المفاعِلات هو الفرصة التي علي الروس اقتناصها، وهم الذين أثبتو غير مرة براعةً في اقتناص الفرص.ولا تقتصر الفائدة التي قد يجنيها الروس من تلك المشروعات علي الجانب التجاري فقط، بل يمكن النظر إليها كذلك بوصفها «أداة استراتيجية» لتدعيم وتعظيم العودة الروسية إلي المنطقة، وضمان وجود طويل الأمد في تلك البقعة الاستراتيجية من العالم، فهي تتيح لها أكثر من موطئ قَدَم هنا وهناك، ليست تلك المفاعِلات المرتقَبة إذاً محض مشروعات تجارية، يقبض الروس أثمانها ثم يُوَلُّون مغادرين، بل هي عمليات ديناميكية طويلة تتطلَّب انتقال الخبرات التِّقَنيَّة، وانخراط أعداد كبيرة من العلماء والمختصِّين، والمهندسين والدبلوماسيين، هي في جوهرها سفارات حيَّة ستؤمِّن للكرملِين وصولاً مضموناً وسريعاً إلي الحكومات والسَّاسة المحليِّين، حتي أن روسيا تفتح اليوم جامعاتها إلي تلاميذ تلك الدول،ليصير باستطاعتها أن تبني شبكة علاقات من هؤلاء الكوادر حول العالم ، وليس من المفاجئ أنَّ خطوات التقارب تلك ضمن سياق أكبر من الاهتمام الروسي المتزايد بالشَّرق الأوسط،وهو ما تجسَّد بالتَّدخل العسكري المباشر في الحرب السُّورية.
تلك هي العين التي يجب أن ننظر بها إلي التحركات الرُّوسية إذاً، و هذا هو المنطلق الذي يمكننا من خلاله قراءة المشاريع النووية الروسية في المنطقة، وسواءً كنتَ أنت خبيراً بالشِّئون الرُّوسية أو غيرَ خبير،عاكفاً علي دراسة ديناميكيات العلاقات الدُّولية أو مجرد قارئ مهتم بمستقبل المنطقة ومحاولة استشراف الدور الروسي فيها، فاحفظ ذلك الاسم جيدا: «روساتوم».